مصرع شاب جراء انقلاب سيارته بضواحي الحسيمة    خلال أسبوع واحد.. تسجيل أزيد من 2700 حالة إصابة و34 وفاة بجدري القردة في إفريقيا    حركة النقل الجوي بمطار طنجة ابن بطوطة تسجل نموا قياسيا    إسبانيا تكثف إغاثة مناطق الفيضانات    رويترز: قوات إسرائيلية تنزل في بلدة ساحلية لبنانية وتعتقل شخصا    مسؤول سابق في منصة "تويتر" يهزم ماسك أمام القضاء    حزب الله يقصف الاستخبارات الإسرائيلية        المغرب يحبط 49 ألف محاولة للهجرة غير النظامية في ظرف 9 شهور    "سيول فالنسيا" تسلب حياة مغربيين    مسرحية "أبحث عن أبي".. عرض جديد لفرقة نادي الحسيمة للمسرح    رئيس منتدى تشويسول إفريقيا للأعمال: المغرب فاعل رئيسي في تطوير الاستثمارات بإفريقيا    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    أسعار السردين ترتفع من جديد بالأسواق المغربية    تكريم بسيدي قاسم يُسعد نجاة الوافي        هلال: قرار مجلس الأمن يعتبر مخطط الحكم الذاتي "الأساس الوحيد والأوحد" لتسوية قضية الصحراء المغربية    بسبب غرامات الضمان الاجتماعي.. أرباب المقاهي والمطاعم يخرجون للاحتجاج    مطار الناظور العروي: أزيد من 815 ألف مسافر عند متم شتنبر    المغرب يزيد صادرات "الفلفل الحلو"    نقابة إصلاح الإدارة تنضم لرافضي "مشروع قانون الإضراب"    هيئة: 110 مظاهرة ب 56 مدينة مغربية في جمعة "طوفان الأقصى" ال 56    نيمار يغيب عن مباراتي البرازيل أمام فنزويلا وأوروغواي    الأمم المتحدة: الوضع بشمال غزة "كارثي" والجميع معرض لخطر الموت الوشيك        بهذه الطريقة سيتم القضاء على شغب الجماهير … حتى اللفظي منه    صدور أحكام بسجن المضاربين في الدقيق المدعم بالناظور    اعتقال عاملان بمستشفى قاما بسرقة ساعة "روليكس" من ضحية حادث سير    الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين لجهة طنجة تطوان الحسيمة تحصد 6 ميداليات في الجمنزياد العالمي المدرسي    فليك يضع شرطا لبيع أراوخو … فما رأي مسؤولي البارصا … !    نظرة على قوة هجوم برشلونة هذا الموسم    أنيس بلافريج يكتب: فلسطين.. الخط الفاصل بين النظامين العالميين القديم والجديد    وزارة الشباب والثقافة والتواصل تطلق البرنامج التدريبي "صانع ألعاب الفيديو"    هذه مستجدات إصلاح الضريبة على الدخل والضريبة على القيمة المضافة    فتح باب الترشيح للاستفادة من دعم الجولات المسرحية الوطنية    الجمعية المغربية للنقل الطرقي عبر القارات تعلق إضرابها.. وتعبر عن شكرها للتضامن الكبير للنقابات والجمعيات المهنية وتدخلات عامل إقليم الفحص أنجرة    الأسبوع الوطني التاسع للماء..تسليط الضوء على تجربة المغرب الرائدة في التدبير المندمج للمياه بأبيدجان    "الشجرة التي تخفي الغابة..إلياس سلفاتي يعود لطنجة بمعرض يحاكي الطبيعة والحلم    بدون دبلوم .. الحكومة تعترف بمهارات غير المتعلمين وتقرر إدماجهم بسوق الشغل    الفيضانات تتسبب في إلغاء جائزة فالنسيا الكبرى للموتو جي بي    مركز يديره عبد الله ساعف يوقف الشراكة مع مؤسسة ألمانية بسبب تداعيات الحرب على غزة    قمة متكافئة بين سطاد المغربي ويوسفية برشيد المنبعث    الحكومة تقترح 14 مليار درهم لتنزيل خارطة التشغيل ضمن مشروع قانون المالية    "تسريب وثائق حماس".. الكشف عن مشتبه به و"تورط" محتمل لنتيناهو    مناخ الأعمال في الصناعة يعتبر "عاديا" بالنسبة ل72% من المقاولات (بنك المغرب)    "البذلة السوداء" تغيب عن المحاكم.. التصعيد يشل الجلسات وصناديق الأداء    الأميرة للا حسناء تدشن بقطر الجناح المغربي "دار المغرب"    منْ كَازا لمَرْسَايْ ! (من رواية لم تبدأ ولم تكتمل)    إطلاق الحملة الوطنية للمراجعة واستدراك تلقيح الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة بإقليم الجديدة    الأشعري يناقش الأدب والتغيير في الدرس الافتتاحي لصالون النبوغ المغربي بطنجة    "ماكدونالدز" تواجه أزمة صحية .. شرائح البصل وراء حالات التسمم    دراسة: الفئران الأفريقية تستخدم في مكافحة تهريب الحيوانات    ثمانية ملايين مصاب بالسل في أعلى عدد منذ بدء الرصد العالمي    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    وهي جنازة رجل ...    أسماء بنات من القران    نداء للمحسنين للمساهمة في استكمال بناء مسجد ثاغزوت جماعة إحدادن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الذاكرة بين التاريخ الأكاديمي والتأليف المدرسي
نشر في هسبريس يوم 04 - 09 - 2017

"ليست الوثيقة الأداة السعيدة لتاريخ يكون في ذاته وبكامل الحق ذاكرة"، ميشيل فوكو
يتموضع كتاب "الذاكرة والتاريخ: المغرب خلال الفترة الاستعمارية (1912-1956)"، الحائز على جائزة المغرب للكتاب، صنف العلوم الإنسانية برسم سنة 2017، في نقطة الالتقاء بين البحث التاريخي الأكاديمي والوظيفة الاجتماعية للتاريخ المدرسي (تلقين الذاكرة الجماعية)؛ وهو ما يستدعي توجيه قراءة الكتاب إلى استنطاق المعرفة التاريخية والمدرسية، في موضوع الذاكرة، "لا عما تريد أن تقوله فحسب، بل وعما إذا كانت تقول الحقيقة، وبأي حق تدعي ذلك، وما إذا كانت تقول الصدق أم تزيفه" (ميشيل فوكو).
ومن ثمّ، فإن الورقة المقترحة/ المساهمة المتواضعة، في هذه الندوة (1)، تنشد أفقا مزدوجا: أولا، التأطير النظري والمنهجي والتحليل المعرفي لقضايا الذاكرة. وثانيا، استثمار هذا "التراكم" الأكاديمي لمساءلة الخطاب التاريخي المدرسي حول ماهية "الذاكرة" ومقاصدها، وتفكيك مضامينها المعلنة أو المضمرة...الخ.
وينبني هذا الاختيار، المزاوجة بين النقاش النظري- الأكاديمي وتحليل الخطاب التاريخي المدرسي، على تقديرين اثنين: أولهما عمق الهوة بين البحث التاريخي وتدريس التاريخ بالمؤسسات التعليمية والبحث الديداكتيكي، كما لاحظ ذلك ذ. عبد الرحمان المودن، في مستهل قراءته لكتاب ذ. مصطفى حسني الإدريسي، "التفكير التاريخي"، كمؤلف مرجعي لديداكتيك المادة في المغرب. وتجسد قضايا الذاكرة، كموضوع للتاريخ الأكاديمي، وكوظيفة اجتماعية للتاريخ المدرسي، مثالا شاخصا لهذا التباعد/ الانفصال بين المعرفة (التاريخية) الأكاديمية والمدرسية والديداكتيكية.
ويتعلق ثاني التقديرين بندرة البحث التربوي حول قضايا "الذاكرة الجماعية" في الخطاب المدرسي، وخاصة في مواد الاجتماعيات؛ وهو ما يؤكد الحاجة، اليوم، إلى التداول العمومي، وخاصة بين الفاعلين التربويين، في رهانات الخطاب التاريخي المدرسي حول قضايا الذاكرة والهوية... إلخ.
تتركب هذه الورقة/ المداخلة من إضاءة نظرية ومنهجية، وقراءة تفكيكية للذاكرة في مرآة التاريخ المدرسي.
أولا- إضاءات نظرية: في مفهوم الذاكرة، خصائصها وآليات اشتغالها
أ‌- في مفهوم الذاكرة وأنواعها:
إن الذاكرة، كمفهوم ملتبس، ليست استرجاعا مباشرا وتأملا للتجارب والأحداث الماضية فقط؛ بل هي القدرة على التمثل الانتقائي لهذا الماضي بشكل إرادي أو لا إرادي، قصد إعادة بناء وإعادة هيكلة الهوية الفردية والجماعية.
وفي هذا الصدد، ميز بيير نورا، في دراسته حول "التاريخ والذاكرة"، بين الذاكرة الجماعية والذاكرة التاريخية؛ فالأولى هي "صورة ذكرى أو مجموعة ذكريات واعية أو غير واعية لتجربة معاشة أو مشبعة بحمولة أسطورية، قوامها هوية جماعية ذات ارتباط وثيق بالإحساس بالماضي... وإرث غير قابل للتصرف، وفي الوقت ذاته سهل الاستعمال وأداة نضال وسلطة ". وعلى العكس من ذلك، يضيف ب. نورا، فإن الثانية -الذاكرة التاريخية- هي "الذاكرة الجماعية لجماعة المؤرخين" كثمرة للتقاليد المعرفية والعلمية.
وإذا كان ذ. الطاهيري قد أشار إلى الاختلافات بين الذاكرة الجماعية والذاكرة الفردية، وبالرغم من وعيه بالفوارق بين الذاكرة الجماعية والذاكرة الجمعية، كما تبلورت في السوسيولوجيا الفرنسية ( )، فإنه استنكف عن التدقيق في تمايزاتهما، لتبنيه الضمني لمنظور بول ريكور بصدد انتساب الذاكرة إلى كل الضمائر النحوية: أنا، هي/ هو، نحن، هم.
والحال أن عدم التمييز بين الذاكرة الجماعية (الخاصة بجماعة وحيدة معينة داخل المجتمع)، والذاكرة الجمعية (كذاكرة مشتركة بين مختلف مكونات المجتمع= مجمل كل الذاكرات الجماعية)، ترتب عنه مخرجات لم تراع "واجب الذاكرة"؛ وهو ما جعل دراسة القضايا المعرفية والتاريخية (الباب الثاني من الكتاب/ الأطروحة)، تختزل كل الفعل الوطني في النخب المدينية/ المتعلمة؛ التي امتلكت سلطة/امتياز الكتابة عن ذاتها/ ماضيها. ومن ثمّ، فإن هذه "الذاكرة المبتورة" لم تستوعب المساهمة الوطنية لكل القوى الاجتماعية والسياسية لحركة التحرر.
وفي المحصلة، فإن الكتاب، بالرغم من ثرائه النظري والمنهجي، ركز، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، على الذاكرة الجماعية للنخب الحضرية من الحركة الوطنية، ولم يتناول الذاكرة الجمعية/ مجمل كل الذاكرات الجماعية (الحركة العمالية- الحركة النسائية- المجالات المهمشة (المغرب غير النافع))، وهو ما يعني أننا بصدد "ذاكرة مدبرة" (ب.ريكور).
ب‌- خلفيات الذاكرة وأبعادها:
ميز المؤلف في الكتابات الذاكرية بين: المذكرات- والسيرة الذاتية- والسير- والكتابات التاريخية والسياسية والصحافية. كما نبه، في المبحث الثاني-الفصل الأول، من الخلفيات والأبعاد النفسية والسوسيولوجية والسياسية، المعلنة أو المضمرة، إلى الكتابات الذاكرية؛ فهي، من حيث خلفياِتها النفسية، مشبعة بمركزية الذات، ولا تضع المسافة المطلوبة بين الذات والموضوع. وتثني – من المنظور السوسيولوجي- على دور الشاهد/ الفرد/ البطل في صناعة التاريخ مع نفي مساهمة باقي القوى الاجتماعية. ولأن السرد التاريخي مجال للصراع، فإن الكتابة الذاكرية، بكثافة خطابها السياسي، ترمي، في هذا الجانب، إلى إعادة بناء المشروعية التاريخية والوطنية (كرأسمال رمزي).
وعموما، فإن إغراق الذاكرة الجماعية بمركزية الذات، ولأنها أيضا مجال للصراع السياسي، وخاصة في قضايا الهوية، يؤكد الحاجة، اليوم، إلى بناء ذاكرة تاريخية تستوعب كل المساهمات الوطنية، وتقر بالتعددية الثقافية والجهوية لكل المكونات الوطنية.
ت‌- من "الذاكرة الإثنية" إلى الذاكرة الإلكترونية
في سياق تحليله لعلاقة الذاكرة والتاريخ (تماثل أم تمايز؟)، انكب المؤلف "على دراسة تاريخ تمثل الشعوب والأفراد لماضيهم، وكيفية اشتغال الذاكرة الجماعية وتحولاتها"، حيث استخلص هيمنة مركزية التأريخ للذاكرة الأوروبية باعتبارها محور تطورات الذاكرة البشرية.
وتبلورت لدى الشعوب الشفاهية "ذاكرة إثنية"، تطغى عليها الأسطورة، وتتمحور حول المصالح الطبقية والرمزية والثقافية؛ بيد أن اكتشاف الكتابة أفرز تطورا مزدوجا للذاكرة الجماعية: 1- التخليد والاحتفالات بواسطة المعالم التذكارية. 2- تبلور السياسة الذاكرية للملوك في سياق الاعتماد على الوثيقة المكتوبة.
وفي التاريخ الإغريقي، اشتغلت الذاكرة لفائدة العائلات النبيلة والملكية ورجال الدين... وإذا كانت الذاكرة، في العصر الوسيط الأوروبي، ذات وظيفية دينية، فإنها كانت (ولا تزال) تجسد، في العالم الإسلامي، الحنين إلى العصور الذهبية للإسلام. وانتقل تركيز الذاكرة على الإنسان في العصر الحديث إلى الذاكرة الوطنية في التاريخ المعاصر، ثم تبلورت الذاكرة الإلكترونية في سياق الثورة الرقمية.
انطلاقا من هذه التجارب، يخلص الكتاب إلى أنه كلما تطورت المعرفة التاريخية تراجعت الذاكرة الجماعية، لينتهي هذا التطور بالانتقال من التاريخ جزء من الذاكرة إلى الذاكرة موضوعا للتاريخ (الذاكرة تمون التاريخ- ج. لوكوف). وتعزز الطلاق غير المحسوم للذاكرة والتاريخ باختصاص الأخير-كمهنة- في معرفة الماضي بشكل نقدي وعلمي، مقابل اهتمام الذاكرة –كهواية- بتشكيل الماضي كوسيلة لإعادة بناء الهوية الفردية والجماعية.
إن هذا الوعي بالتمايز بين الذاكرة والتاريخ، في تمثل الماضي، على مستوى مصدر الكتابة وطبيعة السرد وصدقية الحقيقة التاريخية (غير النهائية)، يستدعي، بالضرورة، استنطاق المتن/الكتابات الذاكرية، بهاجس نقدي، في ضوء التراكمات النظرية والمنهجية لحقل التاريخ.
ثانيا- الذاكرة في مرآة التاريخ المدرسي: ضمير الأنا!
أ‌- قضايا الذاكرة في المغرب:
إذا كانت الإسطوغرافيا، التقليدية والاستعمارية والوطنية، تفتقر لمقومات الكتابة التاريخية في موضوعي الذاكرة والتاريخ، فإن التاريخ الأكاديمي، بالرغم من تراكماته النوعية والكمية، لم يتحرر من المنظور الوطني السجالي في تناوله لهذه القضايا؛ وهي الخلاصة ذاتُها التي تنسحب على المؤسسات الرسمية والمراكز الحزبية، التي تناولت موضوع الذاكرة، لغلبة طابعها التمجيدي ولرهاناتها السياسية والإيديولوجية.
والواقع أن انتعاش النقاش والتداول، في الفضاء العمومي أو الأكاديمي، حول الذاكرة بالمغرب كان مدفوعا بدينامية الحركة الحقوقية، تصفية الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان – الحركة الثقافية الأمازيغية، تحت سقف الحالة السياسية؛ التي وصفها ذ. عبد الأحد السبتي، باستعارة مفهوم بول باسكون، بالانتقال المركب: تقاطع مستويات الاستمرار مع مستويات التغيير.
ب‌- ماهية التاريخ المدرسي
وفقا للتوجيهات التربوية لسنة 1994، فإن وحدة الاجتماعيات ترتكز، في إطار عام، على المعارف والمناهج والقواعد المستمدة من مختلف فروع المجال المعرفي للعلوم الاجتماعية. وعلى أساس "أولوية الاهتمامات الوطنية والقومية، حددت برامج ذات صبغة وطنية وقومية، متحررة من رواسب التأثير الاستعماري"؛ لكن المنهاج الحالي لمادتي التاريخ والجغرافيا يميز، لأول مرة في تاريخ تدريس المادة، التاريخ المدرسي عن التاريخ العالم، حيث حددت التوجيهات التربوية وظيفتين للتاريخ المدرسي: وظيفة فكرية (تنمية الفكر النقدي)، ووظيفة اجتماعية (التكوين الشخصي للإنسان- تلقين الذاكرة الجماعية..)، اعتبارا من أن التاريخ حاجة اجتماعية قبل أن يكون حاجة علمية؛ وهو ما يجعل وظيفته الاجتماعية، وفق التوجيهات التربوية للمادة في التعليم الثانوي التأهيلي، في "إنماء شخصية وطنية أصيلة، تحترم مكونات الهوية الوطنية، وتراعي مضامينها الخصوصيات الجهوية والمحلية".
وما يهمنا، هنا، هي الوظيفة الاجتماعية للتاريخ المدرسي المرتبطة "بتلقين الذاكرة الجماعية". والأسئلة المطروحة، باستثمار التراكمات المنهجية للكتاب، موضوع الدراسة، هي: ما نوعية الذاكرة التي يلقنها الخطاب التاريخي المدرسي للناشئة؟ وهل تتطابق مضامين الذاكرة المدرسية مع التراكمات التي حققتها الدراسات التاريخية؟ وهل تحرر فعلا التاريخ المدرسي من نزعته القومية، التي لا زمته في المرحلة السابقة عن الميثاق الوطني للتربية والتكوين؟
سنحاول الإجابة عن هذه الأسئلة بتفكيك الخطاب التاريخي المدرسي، الوارد في الكتاب المدرسي للسنة الثانية باكالوريا آداب وعلوم إنسانية. وفي الآن نفسه، سنستأنف الحوار مع كتاب "الذاكرة والتاريخ" في هذه القضايا التاريخية والمعرفية: ظهير 16 ماي 1930- وثيقة 13 يناير حول مطلب الاستقلال والديمقراطية- مساهمة الهامشيين في "الذاكرة الجماعية".
ت‌- "الذاكرة المدبرة"
ظهير 16 ماي 1930: تعارض الذاكرة.
بعمق تحليلي نقدي، قارن المؤلف بين منظورين متناقضين لظهير 16 ماي 1930: منظور الحركة الوطنية، التي اعتبرته الحدث/البؤرة لميلاد الوطنية المغربية، بيد أن –المؤلف- طرح فرضية استغلال الحركة لهذا الحدث للظهور العلني وإعلان الذات، مبرزا كثافة الأبعاد الذاتية في الخطاب الذاكري، الذي تناول الموضوع، من حيث تضخيم دور الذات/ الراوي، أو من حيث مركزية المجال الحضري الذي ينتمي إليه الشاهد.
بالمقابل، انتقد منظور الحركة الثقافية الأمازيغية الخلفيات الإيديولوجية والعنصرية لتسمية "الظهير البربري"، وتوظيفه لبناء هوية مغربية مستلبة تجاه الشرق (القومية).
أما كتاب التلميذ-ة للتاريخ، في السنة الثانية من سلك الباكالوريا، فإنه يعتمد – بالرغم من كل الانتقادات- منظور الحركة الوطنية القائم على الدور المركزي ل"ظهير 16 ماي في بروز الحركة الوطنية"، واعتماد وثيقتين بالمعنى ذاته حول ما يسميه ب"السياسة البربرية"، لترسيخ المنظور الاختزالي للهوية لدى المتعلم-ة/ مواطن-ة المستقبل، كما تبنته الحركة الوطنية، بالرغم من أن امتداداتِها الحزبية، كحالة حزب الاستقلال، راجعت منظورها للحقوق الثقافية الأمازيغية.
في هذا الموضوع، هناك ملاحظتان (بيداغوجية ومعرفية):
- بيداغوجيا: بالرغم من تأكيد الميثاق الوطني، في المرتكزات الثابتة، على أن النظام التربوي يتأصل في التراث الحضاري والثقافي للبلاد بتنوع روافده، وبالرغم من حرص الوزارة الوصية على وضع دفتر للتحملات المتعلق بتأليف الكتب، لتفادي المضامين ذات "النزعة التمييزية... أو ما يوحي بتكريسها، وأن تنفتح على التنوع الثقافي"؛ فإن كتاب التلميذ-ة، المشار إليه، انحرف عن كل هذه التوجيهات، بتمريره لخطاب تاريخي، في المدرسة العمومية، يقوم على إلغاء مكون أساس في الهوية الوطنية، وتمرير مواقف لا تراعي الهوية الثقافية المغربية، المفترض حمايتها من لدن الدولة وفق أحكام الفصل الخامس من دستور 2011.
- معرفيا: في كل الوحدات التعلمية، التي تتناول حركات التحرر، يظهر نمو الوعي الوطني، وبالتالي ميلاد الحركة الوطنية/ حركات تصفية الاستعمار، نتيجة للتحولات الاجتماعية الناجمة عن قساوة الاستغلال الاستعماري؛ بيد أن كتاب التلميذ.ة، باختلافاتها (الجديد- الشامل- في الرحاب)، تجمع على أن سبب ولادة الحركة الوطنية المغربية هو ما تسميه ب"الظهير البربر".
وبناء عليه، فإن انتظام الخطاب التاريخي المدرسي وفق مضمون الخطاب الذاكري للحركة الوطنية، بالرغم من تناقض روايات رموزها، تحكمه، في واقع الحال، الخلفيات السياسية والإيديولوجية السابقة نفسها: تضخيم دور النخب الوطنية المدينية- مركزية المجال الحضري- احتكار المشروعية- إلغاء مساهمة الهامشيين في حركة التحرر ....الخ.
انطلاقا من الملاحظتين، يظهر أن الخطاب التاريخي المدرسي ليس موضوعيا ومحايدا (ليس هناك خطاب بريء، ر. بارث) ، بل يعيد إنتاج منظور الحركة الوطنية لهذه القضايا التاريخية، وبالتالي، تحولت المدرسة كحارسة للرأسمال الرمزي للحركة الوطنية المدينية.
وفي السياق ذاته، فإن المتأمل، مثلا، للصور التاريخية الخاصة بهذه المرحلة يستخلص أن الموضوع التاريخي المركزي هو الملك محمد الخامس وأن "الشعب"، ذلك المجهول، لم يكن إلا مساعدا له. وتؤكد الدعامات الديداكتيكية لكتاب التلميذ.ة (الجديد في التاريخ- السنة الثانية باكلوريا) هذا الاستنتاج بشكل جلي، حيث أوردت، في الوحدة الرابعة: كفاح المغرب من أجل الاستقلال واستكمال الوحدة الترابية، أربع صور للملك محمد الخامس من أصل ثماني صور معتمدة في هذه الوحدة.
الهامشيون في "الذاكرة الجماعية":
- الحركة العمالية: شكلت مذكرات النخبة الحزبية الحضرية، التي تكونت حسب ألبير عياش، من "مثقفين ذوي تكوين إسلامي أو غربي، منحدرين، في معظمهم، من البرجوازية المتوسطة، إلى جانبهم بعض الأغنياء.. الممنوعين من السبل المؤدية إلى الإدارة والسلطة"، المادة الأساس والوحيدة في دراسة القضايا المعرفية والتاريخية. إن تركيز الكتاب (الذاكرة والتاريخ) على هذا النمط من المذكرات، ذات الطابع الحزبي، يعني إلغاء ذاكرة باقي الفاعلين؛ وفي مقدمتهم ذاكرة الفاعل النقابي، خاصة أن الحركة العمالية (كالاتحاد العام للنقابات الموحدة بالمغرب) خاضت نضالات طويلة وقاسية ربطت بين المطالب الاقتصادية والدفاع عن الحريات والقضية الوطنية؛ وهو التهميش ذاته الذي طال المساهمة الوطنية للحركة النقابية المغربية في الخطاب المدرسي التاريخي، على خلاف التأليف المدرسي التونسي (مثال: درس الحركة الوطنية التونسية في العشرينيات) الذي يحتفي بالنضال الاجتماعي والوطني للحركة النقابية التونسية.
- المجالات المهمشة:
لم يكن التنافس بين مكونات الحركة الوطنية حول التقدير السياسي للمواقف فقط؛ بل اشتد هذا التنافس، تحت تأثير الانتماءات المجالية، بين الحركة الوطنية في المنطقتين الشمالية (الخليفية) والجنوبية (السلطانية)، حول من له أسبقية إعلان المواقف والمبادرات في المطالبة بالإصلاحات، وتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال. كما اخترق هذا الصراع رموز الحركة الوطنية، في المنطقة السلطانية، حول أسبقية المدينة، التي ينتمي إليها الراوي/الشاهد، في النضال الوطني.
وبصرف النظر عن خلفيات هذا الصراع، فإنه يستبطن مركزية المدن الكبرى، موطن النخب المتعلمة و"البورجوازية"؛ وهو ما يلغي من الذاكرة المساهمة الوطنية للمجالات الهامشية. وبالتالي، فالمطلوب، على الأقل في التاريخ المدرسي، تخصيص أنشطة تعلمية (شهادات شفهية)، في إطار التاريخ الجهوي، لإبراز مساهمة رموز الحركة الوطنية في هذه المناطق والجهات التي تعتبر المحيط الثقافي والاجتماعي للمؤسسات التعليمية.
فالذاكرة، إذن، ليست ملتبسة من حيث مفهومها، بل أيضا ملتبسة من حيث مضامينها، وتنطوي/ تختزل ذاكرات متناقضة ومتصارعة: ذاكرة مهيمنة في مقابل ذاكرة مقصية، وذاكرة المركز في تعارض مع ذاكرة الهامش:
- الذاكرة المهيمنة: يبدو أن الخطاب الذاكري السائد يكرس رواية النخب الوطنية، بما تستبطنه من مركزية الذات، واحتكار المشروعية التاريخية، وتستفيد من كل وسائط التنشئة الاجتماعية (المدرسة- الإعلام..) لترسيخ منظورها وتمثلها للماضي.
- الذاكرة المبتورة: أنصت الكتاب لوجهات نظر مختلفة (الملك الراحل الحسن الثاني- الوطنيون في المنطقتين الشمالية والجنوبية- المسؤولون الفرنسيون- المتعاونون مع الاستعمار..)، لكنه لم يجد حيزا للاستماع لرواية رموز الحزب الشيوعي المغربي ولقيادات العمل النقابي حيال القضايا المعرفية والتاريخية المطروحة في الباب الثاني من "الذاكرة والتاريخ".
- الذاكرة الذكورية: يظهر من خلال المذكرات المعتمدة في الدراسة غياب مذكرات لنساء وطنيات حول أحداث المرحلة، بالرغم من التأسيس المبكر لأخوات الصفا، كتنظيم نسائي مواز لحزب الشورى والاستقلال، في 23 ماي 1947، ومساهمة المرأة في كل مراحل الكفاح الوطني.
- ذاكرة المركز: مركزية الوطنية المدينية، مقابل تهميش مساهمة المجالات المغربية، التي تنتمي إلى "المغرب غير النافع"، في النضال الوطني.
بهذا المعنى، فإن الكتاب يتناول الذاكرة الجماعية للنخبة الحضرية، ولا يقدم، في الباب الثاني، دراسة شاملة لمجمل الذاكرات الجماعية (الذاكرة الجمعية)؛ وهو ما يستدعي، إلى جانب الانفتاح على شهادات وروايات شفهية حول القضايا المعرفية والتاريخية المطروحة للنقاش، مباشرة عمل نقدي مزدوج (عبد الكبير الخطيبي): تفكيك المعرفة التي يغلب عليها الطابع الغربي وإيديولوجيته المتمركزة حول الذات، وفي الوقت ذاته نقد المعرفة التي أنجزتها مجتمعاتنا حول ذاتها.
وخلاصة القول، يعدّ الكتاب مساهمة جادة في إثراء البحث التاريخي، منهجيا ونظريا، حول قضايا الذاكرة والتاريخ، ومساءلته، بوعي نقدي، خلفيات أسطرة التاريخ الوطني؛ وهو ما يعزز الحاجة إلى استمرار البحث التاريخي في الموضوع، لدراسة ذاكرة المهمشين، وبالانفتاح على الوثائق غير التقليدية، في أفق تشكيل ذاكرة تاريخية تحتضن كل الذاكرات الجماعية، بما يتناسب، على الأقل، مع متطلبات مغرب المصالحات.
وترتيبا على الملاحظات السابقة، فإن التحولات التي تطال الرهانات المجتمعية، بالانتقال من الوطنية إلى المواطنة، يفرض مراجعة مضامين التاريخ المدرسي، ذات العلاقة بالوظيفية الاجتماعية، لمصالحة الناشئة المغربية مع ذاكرتها الجمعية.
المراجع المعتمدة:
- الطاهيري (عبد العزيز)، الذاكرة والتاريخ: المغرب خلال الفترة الاستعماري (1912-1956)، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، 2016.
- السبتي (الأحد)، التاريخ والذاكرة: أوراش في تاريخ المغرب، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2012.
- حبيدة (محمد)، من أجل تاريخ إشكالي (ترجمات مختارة)، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية – القنيطرة، 2004.
- مجموعة من المؤلفين، كتاب التلميذ.ة، الجديد في التاريخ- السنة الثانية من سلك الباكالوريا، الطبعة الأولى 2007.
نص المداخلة في ندوة لجمعية أستاذات وأساتذة مواد الاجتماعيات بالإقليم: قراءة في كتاب "الذاكرة والتاريخ"، بمشاركة د. جامع بيضا (مدير مؤسسة أرشيف المغرب)، د. محمد حبيدة (أستاذ جامعي للتاريخ -ابن طفيل)، ذ. حميد هيمة (أستاذ الثانوي التأهيلي لمادتي التاريخ والجغرافيا – نائب رئيس الجمعية)
(*) أستاذ الثانوي التأهيلي - نائب رئيس جمعية أستاذات وأساتذة مواد الاجتماعيات بإقليم سيدي سليمان.
البريد الإلكتروني: [email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.