-3- في غزوة ذات القِدْر سأظل موشوما، ما حييت، بآثار بارزة لحروق جلدية، تغطي أسفل القفص الصدري، جهة الظهر. في يوم رمضاني كاد يتحول مسقط الرأس، بما هو منبع لحياتي، إلى مكان للموت. إنه موتي المحقق، وأنا لم أبرح، بعد، الثالثة من عمري. دبّت، عصرا، في الخيمة المجاورة للمنزل- وقد كانت الوالدة تتخذها مطبخا، لضيق المسكن- حركة يقتضيها تحضير الإفطار. وبما أنني كنت الطرف العابث، والمشوش على كل تحركات الوالدة وأشغالها المنزلية، والملازم لها دوما؛ لكوني أصغر العائلة: ثالث ثلاثة، بعد أخوي فاطنة – سبع سنوات- ومحمد –خمس سنوات- فقد بدا لي أن أطوف بقِدر كبير من ماء، آخذ في الغليان، فوق أثافي؛ مُمسكا أحد روافع الخيمة بيد، ومحركا الأخرى، لِترسُم دوائر في الهواء. طبعا لم تنتبه الوالدة إلى عبثي الخطير إلا بعد أن حدثت الفاجعة: لعل يدي القابضة بعمود العرعر الأملس انزلقت لأجدني في سقطة حرة، باتجاه القدر الحديدي الثقيل. صرخة مدوية من أعماق طفل آخذ في الانسلاق؛ ثم الثانية والثالثة، ولا شيء بعدهما غير الصمت الرهيب. لقد فقدت وعيي تماما، كما روت لي الوالدة؛ أما هي فقد ولولت، إذ هوت علي بصدرها؛ عساها تسابق الموت إلى فلذة كبدها. ولولت وصرخت في خلاء أزغوغ، حيث لا قريب ولا جار يغيث. لا حول ولا قوة للأخت والأخ، أما الوالد فقد انحدر باكرا صوب دكاكين مستفركي، بدوار "اسالمن" ولن يعود إلا دقائق قبل موعد أذان المغرب. توفرت كل الشروط لأموت، لكن الله قدر أن أعيش، إلى أن أحكي المأساة وأنا مشارف لشيخوختي. عاد الوالد ليجد زوجة تلحفت بحزن جنائزي، وابنا شبه ميت، ولا من يسعف. وجها لوجه مع الاستعمار لم يكن عمي أعمر، الممرض بجرادة، يبخل على الأسرة ببعض الأدوية؛ يذخرها الوالد للحاجة؛ وها هو يبادر الآن إلى طلاء جسدي كله بصبغة اليود؛ في انتظار ما يقرره جدي لأمي، القائد محمد، في أمر نقلي إلى وجدة أو جرادة. باستثناء الوالدة، التي لم تنقطع عن البكاء، ليل نهار، لم يكن أحد على عجلة من أمره، بخصوص نقلي إلى مستشفى "النصارى" بجرادة (25 كيلومترا). وهل بلغ الوعي الصحي، وقتها، درجة توقع التهاب حاد يصيب طفلا مسلوقا؟ وهل كان في الدوار خصاص في الأطفال حتى يهرع أول من علم، من الأقارب، إلى إغاثتي؟ لما تناهى العلم إلى جدي- بعد يومين أو ثلاثة - بأن ابنته الغالية (والدتي) لا تكف عن البكاء؛ فقط وقتها سخر من نقلني، رفقة الوالدة، إلى منزل عمي بجرادة، لينتهي بي الأمر- ولأول مرة- وجها لوجه مع الاستعمار الفرنسي. أي مغربي، وأي مستعمر؟ طفل على مشارف الموت لم تزده ضمادات الطب التقليدي إلا تأزما، وإشرافا على هلاك محقق. أما الطرف المستعمر فقد كان في صورة الملاك المنقذ: طبيبة فرنسية لم تفارق صورتها أبدا مخيلة الوالدة، ولا مخيلتي أبدا، وإن لم تحتفظ لها بصورة. ومن غرائب الصدف أن يتلاحق – في يوم واحد- عند هذا الملاك، الذي أدين له، بعد الله، بحياتي، طفلان أحدهما أنا المحترق، والثاني، في مثل سني – وهو بدوره مصاب بحروق خطيرة - من قرية لعوينات، جوار جرادة. تحكي الوالدة أن اليأس كان باديا على الطبيبة، وهي تفحصنا؛ يأس كاد يوقف الحياة في قلب الأم المتلهف. كان التشخيص الطبي قاسيا جدا على العائلتين: حروق خطيرة، والتأخر في الإسعاف قد يجعلها مميتة. فعلا، في الصباح كان الطفل الذي لم أعرفه أبدا، ولا تحضرني صورته إطلاقا، جثة هامدة إلى جواري. رحم الله هذا الجار، الذي قتله الجهل، كما كاد يقتلني. لا شك في أن الأسرة، حينما حضرت صباحا، لم تدر هل تفرح لتَجَاوُبِ جسد ابنها مع المضادات الحيوية – لعل لصبغة اليود دورا في هذه النتيجة - أمّ تبكي لألم أسرة أخرى لم يخطئ الموت عنوانها. بعد عناية مركزة، نُقلت إلى منزل العم ليكمل علاجي. ولحق بي أخي من غرائب الصدف، مرة أخرى، أن أخي الكبير محمدا، وقد كان يقارب الخمس سنوات، يوم المأساة، تفرغ - والوالدان منشغلان بصبغ جسدي باليود- لشيء غريب ومنذر. بدا له ألا يفوت على طفولته فرصة العبث بكويرات القطن المضمخ ببقايا اليود. كويرات كان الوالد يلقيها جانبا، ليعوضها في الملقط بغيرها؛ مواصلا طلاء حروقي. شرع محمد، عابثا، ودون أن ينتبه إليه أحد، في تقليد الوالد؛ لكن بطلاء ساقيه. لعلها غيرة الطفولة لا تستثني حتى المأساة، فتحوز منها ما تيسر. كان هذا نذير شؤم، لأن أخي محمدا أصيب لا حقا بجروح غائرة، في ساقيه؛ فكان أن طُليتا، فعلا، باليود، تماما كما استبق الحادثة بسنوات. حصل أن أردفه عمي الممرض، خلفه؛ وهو في تنقل له، راكبا دراجته، عبر أزقة وجدة. في لحظة سهو، من الطفل محمد، علقت رجلاه في السلسلة، فانضغطتا، وغارت جروحهما، صاعدة إلى الركبتين. وعلى غراري، لازمته الندوب طيلة حياته. قدر أحمر رسمته الأقدار في أزغوغ الأحمر. أيهما أصابني بشواظه؟ وأيهما خطط، يومها، ليصيب أخي، وان في مكان آخر؟ الجني أزغوغ أم الجني حركاث؟ أم هما معا، أخوان جنيان في مواجهة أخوين إنسيين؟ على أي، لن أبرح أزغوغ، المكان، حتى أبوح لكم بكل ما علق منه، في ذاكرة الطفولة. Mestferkiculture.wordpress.com