3/3 يعتبر هيغل أن التفكير وسيلة سياسية للتطور إلى الأمام. هذا الموقف يجعله يلتقي مع فلسفة عصر التنوير في القرن الثامن عشر، التي كانت ترى أنه عندما ندرك الحقيقة فإن العالم يتحرك قدما. ويقتضي إدراك الحقيقة إخضاع الواقع للعقل. ذلك أن العقل، حسب فلاسفة التنوير، هو قوة تستطيع، لو أطلقت حرة طليقة، أن تكشف عن الحقيقة، وأن تحرر البشرية، وأن تعمل من أجل التقدم والسعادة. وتتمثل هذه الحقيقة، عند فلاسفة عصر التنوير، في المعرفة العلمية التي تمكن من تعقيل الفرد وتحريره من الجهل والعبودية. أما عند هيغل، فإن الحقيقة الفلسفية تجد أساسها في تفكيرنا المتبصر المنصب على الأفكار والأوضاع السائدة. وإن هذه الحقيقة المنبثقة عن هذا التفكير الفلسفي النقدي لهذه الأوضاع هي القادرة على تعقيل المجتمع وتحرير الإنسان من اللاعقلية الاجتماعية كخطوة نحو مجتمع أكثر عقلانية. لا شك أن هيغل كان ابنا بارا لعصر التنوير، إذ كان أيضا عقلانيا على ما يشبه نمط عقلانية لوك وفولتير، يفحص أنظمة الحكومات عبر التاريخ، ويدين كل ما لا يتفق والنزعة العقلية. غير أن هدفه الجوهري هو تعقيل المجتمع. ‹‹فكل ما ليس بعقلي يجب أن يصبح عقليا، ويجب ألا يقبل هكذا لمجرد أنه قائم، إنه لا يصبح حقيقيا في نهاية الأمر إلا بقدر ما يصبح عقليا››. كيف يمكن إذن أن ندفع بالأوضاع نحو معقولية متزايدة؟ ينظر هيغل إلى العالم ككائن عضوي حي نام ومتحرك، لا كتركيب منته. كما يرى أن هذا الكون الذي ينمو ويتفتح هو الكون الحقيقي كما يوجد في التاريخ. هذا هو الإطار الذي يوجه تفكير هيغل ويوجه منظوره الدينامي للتطور التاريخي. ويقوم هذا المنظور على ثلاثة مداخل: 1- فكرة الحركة صوب منظور شمولي أوسع وأكمل للأشياء والظواهر والوقائع باعتبارها مترابطة وليست معزولة. 2- فكرة تتابع مراحل تاريخية يتجسد في كل منها مثل أعلى معين. 3- فكرة النمو من خلال التناقضات الكامنة في كل الأشياء والتي هي مصدر حركتها وتغيرها. لقد تطرقنا في الجزء الأول من هذا الموضوع إلى المدخل الأول لتفسير نظرة هيغل الدينامية للتطور التاريخي، وعنوانه كان هو ‹‹النظرة الشمولية›› (وقد نشر في هيسبريس بتاريخ: الأحد 28 ماي 2017). وتطرقنا إلى المدخل الثاني الذي عنوانه‹‹النظرة التاريخية›› (ونشر بهسبريس بتارخ الإثنين 5 يونيو 2017). ونتطرق الآن إلى المدخل الثالث، ويتعلق بفكرة النمو من خلال المتناقضات الكامنة في كل الأشياء والتي هي مصدر حركتها وتغيرها. وعنوناه ب‹‹النظرة الديالكتيكية››. النظرة الديالكتيكية كيف تتحقق الحركة الديالكتيكية؟ هنا نلتقي بوجهة نظر هيغل الأساسية التي ترى أن التناقضات الكامنة في كل الأشياء هي مصدر حركتها وتغيرها. أي أن كل شيء يكشف في باطنه عن العديد من المؤثرات أو القوى، تعمل بعضها على المحافظة عليه كما هو، بينما يميل البعض الآخر إلى تغييره. وينتج عن ذلك صراع بين المضادات الذي يؤدي بدوره إلى تحول الشيء إلى شيء جديد. وهذا الشيء الجديد بدوره تنمو فيه نواح متناقضة وتسير العملية إلى الأمام. لذا من المفترض أن ننظر إلى كل ظاهرة كعملية، كشيء يتغير وينمو على الدوام. وهذا التغيير ليس فقط نتيجة التغيرات السابقة بل إن كل ظاهرة، أيا كانت، تحتوي في داخلها أيضا على بذرة التغيرات المستقبلية. لذا فإن عملية النمو لا تتوقف أبدا عند حد معين، ذلك أن في كل حالة توازن التي تتحقق لا تلبث أن يدب فيها صراع جديد، يؤدي إلى صلح في مستوى أعلى، إلى تركيب في مستوى أعلى، وإلى صراع جديد بين المتضادات في مستوى جديد أعلى. وهذا الصراع هو منبع كل نمو وتطور. التفكير الديالكتيكي الهيغلي يرى هيغل أن ذلك التفكير الذي يدفع العملية التاريخية الخاصة بالتشكيل قدما يتبع قانون معين وهو الديالكتيك. وإن القوة الدافعة في هذه العملية التفكيرية إذن هي الصراع للتغلب وتجاوز نقائص الأوضاع والأفكار السائدة. والتفكير هو قوة دافعة لأنه ينفي، أي هو يبحث عن النقائص ويخلق دائما دافعا للتغلب عليها وتجاوزها. إن مفهوم التغلب أو التجاوز له عدة معان في الديالكتيك الهيغلي. فهو يعني بشكل جزئي إلغاء المظاهر الناقصة في الموقف أو الوضع، وبشكل جزئي آخر، الحفاظ على تلك المظاهر غير الناقصة. وفي الأخير، هو يعني الارتقاء بالوضع إلى مستوى أعلى. والتغلب الديالكتيكي على وضع ناقص ليس إلغاء كليا لذلك الوضع، وإنما هو الحفاظ النقدي عليه داخل وضع آخر أعلى. هذا ما يعنيه التفكير النافي في لغة هيغل. أي: البحث عن نقائص الوضع الحالي لكي ندفع إلى رؤية متبصرة أقوى. ذلك أنه بما أن وضعنا الحالي يمثل تركيبا أعلى من الأوضاع السابقة، يجعلنا ذلك قادرين على تقييم تلك الأوضاع التي خلت، ونقدها واكتشاف حلول أكثر تقدما ومعقولية. التفكير الديالكتيكي هو تفكير حالتي إن الديالكتيك ليس منهجا نتعلمه ثم نطبقه على حالة جزئية، بل إن التفكير الديالكتيكي هو تفكير حالاتي، أي تفكير ينشأ من التفكير في الحالة. وعليه فإن معطيات الحالة هو دليلنا أثناء التفكير في التحولات الديالكتيكية، وليس قواعد الاستنباط في الاستدلال المنطقي أو مناهج الفرضية والاستنباط أو الرجوع إلى الخبرة أو المعرفة التجريبية – الحسية رغم أهمية هذه المصادر المعرفية. إن نواقص الحالة ذاتها هي التي تدفعنا إلى وضع أصح. لذا لا يمكننا أن نتعلم التفكير الديالكتيكي بواسطة المنهج الصوري، فتعلم التفكير الديالكتيكي لا يكون إلا بالتفكير الديالكتيكي في الحالات الجزئية. وعلينا أن نقفز إلى الماء إذا أردنا تعلم السباحة، كما قال هيغل. لا يوجد إذن في التفكير الديالكتيكي مقدمات أو فرضيات ننطلق منها، بل فإن المقدمة الوحيدة المعتمدة في الديالكتيك هي التحليل الديالكتيكي الواقعي، أي التحليل الملموس للواقع الملموس بالتعبير الحديث. خلاصة عامة: إن الدينامية المحركة للتطور التاريخي تتحقق من خلال ضغط الحركة صوب الانتقال من الجزئي إلى الكلي الشامل، من الناقص إلى الكامل، من اللاعقلي إلى العقلي. ثم ضغط النمو من خلال التناقضات الكامنة في الأشياء، وفي الأخير الضغط التي يتولد عن عملية التطور التاريخي نحو المثل الأعلى... غير أن هذا الحراك الدينامي ليس خطي وإنما يتولد ويتشكل ويتطور وينمو في إطار علاقة جدلية بين العقل، باعتباره الحالة الواعية للوجود، والواقع باعتباره الحالة الخارجية الموضوعية للوجود. وتعني هذه الجدلية أن كل فعل وراءه تفكير وخبرة، وكل تفكير وراءه فعل وتاريخ. وينبغي الإشارة إلى أن تطبيق هذا المنهج الهيغلي يبدو واضحا أكثر في حالة الظواهر والمشكلات الاجتماعية والشؤون الدولية وشؤون السياسة. وينبغي التأكيد، من جانب آخر، على أن هذا المنظور الدينامي التطوري للحدث يتعارض مع كافة الفلسفات التجريبية التي تقول بسلطة الحدث النهائية. ليس إثارة فكر هيغل هو ترف معرفي... ولكن لنذكر أن الغرب الذي يقود العالم اليوم قد مر من هنا... ولنذكر أن الشعوب التي انفتحت على الفلسفة ومناهج التفكير التي راكمتها، تمكنت من صنع الحضارة الحديثة، واستطاعت بذلك أن تصبح سيدة العالم...أما الشعوب التي تصدت إلى الفلسفة، فإنها تعيش اليوم في الوحل، تحت رحمة الأقوياء... المراجع: (1) غنار سكيربك ونلز غيلجي. تاريخ الفكر الغربي. ترجمة د. حيدر حاج اسماعيل. 2012. المنظمة العربية للترجمة. بيروت. (2) جون لويس : مدخل إلى الفلسفة. ترجمة أنور عبدالملك. 1978 . دار الحقيقة . بيروت (3) برنراند راسل: حكمة الغرب (الفلسفة الحديثة والمعاصرة). ترجمة د. فؤاد زكريا . عالم المعرفة. عدد يوليو 2009. (4) Emile BREHIER : Histoire de a philosophie ; Tome‖ (la philosophie moderne). Librairie Félix Alcan. Paris 1929-1930-1932.