لا يمكن فهم حراك الريف فهما علميا وموضوعيا إلا من خلال محاولة مقاربته مقاربة سيكولوجية تكشف عن دوافعه النفسية وميكانيزماته السيكولوجية، مقاربة من شأنها أن تبعدنا قدر الإمكان عن الاندفاعية والأحكام المسبقة والتصنيفات الجاهزة وعن الصراعات السياسية والإيديولوجية الضيقة. إن أي حراك شعبي قبل أن يكون حراكا اجتماعيا تحركه مطالب ذات طابع اقتصادي أو سياسي أو اجتماعي، فهو حراك نفسي تحركه دينامية سيكولوجية ذات خصائص ومميزات نفسية وجدانية وانفعالية شعورية ولاشعورية... وبالنظر إلى الأحداث التي عرفها الريف عبر محطات تاريخية محددة، راكمت الشخصية الريفية سمات ومواصفات سيكولوجية يمكن تحديدها من خلال محطتين تاريخيتين بارزتين: - محطة مقاومة الاستعمار الإسباني. - محطة "الصراع" مع السلطات المغربية. خلال المحطة الأولى: تميز الريف سيكولوجيا بمشاعر الارتباط والتعلق بالأرض والانتماء والاعتزاز الوجداني بالهوية، الأمر الذي ولد مقاومة شرسة ناتجة عن الإحساس بالظلم والقهر من طرف المستعمر الإسباني الغاشم. خلال المحطة الثانية: تميز الريف سيكولوجيا بمشاعر الفخر والاعتزاز بالذات المتولدة عن المقاومة المشرفة للاستعمار الإسباني، إلا أنه سيعرف نكوصا سيكولوجيا بسبب شطط السلطات المغربية وتحاملها واستبدادها ومحاصرتها لآمال وتطلعات الريف عبر أحداث تاريخية معينة، الأمر الذي ولد لدى الإنسان الريفي إحساسا بالخيبة والتآمر والخيانة وعدم الاعتراف، مما أفرز سيكولوجية سلبية تمثلت في نوع من الانغلاق والانعزال والتقوقع، كرد فعل على تعنيف السلطات المغربية وعزلها وتهميشها لمنطقة الريف، ونعتها للإنسان الريفي بأقدح النعوت والتنكر لأمجاده وملحماته التاريخية. عبر هذه الكرونولوجيا التاريخية راكم الوجدان الريفي سيكولوجية فريدة تميزت بالفخر والاعتزاز بالذات من جهة نضاله ومقاومته للاستعمار الإسباني، وبمشاعر الظلم والقهر والاستبداد من جهة بطش السلطات المغربية وتهميشها وإقصائها... ولا يمكن فهم حراك الريف خارج هذه الوقائع التاريخية بما راكمته من ترسبات نفسية على مستوى الوجدان الريفي. بناء عليه، يمكن القول إن حراك الريف هو شكل من أشكال عودة المكبوت السيكولوجي وانفجاره وجدانيا وسلوكيا عقب المشهد الصادم المتمثل في طحن "محسن فكري" في شاحنة للأزبال، مشهد كانت له كلفة نفسية واجتماعية باهظة، أثرت بشكل سلبي وبليغ على أبعاد ومكونات الشخصية الريفية، وتحديدا على المستويات التالية: على مستوى صورة الذات: تعتبر صورة الذات ناظما أساسيا للموصفات السيكولوجية المميزة للذات، على اعتبار أنها تمثل ذلك التنظيم الذاتي الإدراكي والشعوري الذي يتضمن مشاعر ومواقف، وتمثل الذات لذاتها من خلال المعادلة الآتية: نظرة الإنسان لذاته، نظرته للآخرين ونظرة الآخرين إليه كما يتمثلها ويعيشها سيكولوجيا. فإذا كان الآخر، المتمثل في السلطة المغربية، ينظر إلى الإنسان الريفي نظرة سلبية ودونية: "أوباش"، "انفصاليون"، "دعاة للفتنة"، "أولاد اسبانيول"، "تجار مخدرات"، "مهربون"... فإن الصورة التي يمكن للإنسان الريفي أن يحملها عن ذاته قد تكون صورة سلبية ناتجة عن الشعور بالدونية والاحتقار و"الحكرة"... خاصة بعد "المشهد الصدموي" لطحن محسن فكري الذي يمكن اعتباره جرحا نرجسيا ووجدانيا غائرا. على المستوى الوجداني: إن السمة المميزة للوجدان الريفي عقب الأحداث التي توالت بعد مقتل "محسن فكري" يمكن تحديدها في الشعور بالظلم والقهر النفسي وسيادة مشاعر القلق والخوف، التي يمكن أن تمتد إلى حالات رهاب، خاصة بعد حملات الاعتقال والاختطاف والتهديد والترهيب التي شنتها قوات الأمن على المتظاهرين والمحتجين... على مستوى جودة مشروع الحياة: إن مشاعر القهر النفسي والإحساس بالظلم و"الحكرة"... يمكن أن تؤدي إلى تدنٍّ دالٍّ في جودة مشروع حياة الإنسان الريفي؛ حيث يمكن أن يتراكم لديه الإحساس بانسداد الأفق وضبابية الرؤية وعدم الثقة في المستقبل، بالإضافة إلى سيادة مشاعر الحيرة والقلق إزاء آفاق وتطلعات مشروع حياته... لكن بالرغم من الكلفة النفسية والاجتماعية الباهظة، المتمثلة في الآثار السلبية للإقصاء والتهميش والظلم و"الحكرة"... إلا أن الإنسان الريفي طور ميكانيزمات دفاعية مستميتة، عبر إعادة بعثه لسيكولوجية المقاومة والانتفاض من سجله اللاشعوري، بكثير من الإصرار والعزم والحزم والإرادة... إن الوضعية التي يعيشها الريف شكلت حافزا سيكولوجيا لدى الإنسان الريفي، ويظهر هذا بشكل جلي على مستوى أشكال التآزر والتضامن الاجتماعي، والقدرة على التعبئة والانخراط وفقا لمواصفات الشخصية الإرادية المسؤولة القادرة على اتخاذ المبادرة والفعل والإنجاز بكثير من التخطيط والتنظيم والالتزام والصمود... في ظل الأوضاع الكارثية التي يعيشها الريف، ومن خلال المواصفات والخصائص المتميزة لسيكولوجية الشخصية الريفية، كيف يمكن الانتقال بالإنسان الريفي من سيكولوجية المعاناة والاحتقان إلى سيكولوجية الرفاه الشخصي والانصهار المجتمعي بما يخدم المشروع الديمقراطي والحداثي المغربي؟