(2) مشكلة التأويل في النبوءات: عادة ما تأتي النبوءات مغلفة بالرمز الذي يستدعي التفسير قبل أن يتضح معنى النبوءة، مما قد يخلق الالتباس أحيانا والاختلاف في تأويل نصوص هذه النبوءات، بحيث يسعى كل فريق إلى نصرة عقيدته ورؤيته الخاصة. هكذا يتطور الجدال بين المسلمين والمسيحيين حول النبوءات الواردة في عدد من الكتب المقدسة السابقة على الإسلام، حيث يحاول الإخوة المسيحيون حمل بعض النبوءات التي تشير إلى نبي الإسلام على المسيح عيسى (ع)، وذلك في سعي مستحيل إلى إنكار كل النبوءات التي وردت في محمد (ص) بالكتب المقدسة السابقة على القرآن، بالرغم من أن بعضها لا يتطابق والصفات والأحداث التي عرفتها حياة السيد المسيح. وقد شاهدت بعض مداخلات الأخ رشيد بعد أن راسلني ليراجعني فيما كتبت في المقال الأول حول بشارة محمد (ص) في الكتب المقدسة، وهو يحاول حمل بعض الكلمات ("نبيا" و "مثلك" و "وسط إخوتهم") التي وردت في سفر التثنية1 على السيد المسيح (ع)، لكنه تجاهل بالمقابل عبارة " أجعل كلامي في فمه" والتي تبقى أقرب إلى محمد(ص) من المسيح (ع) لأنه وحده من كان يتكلم باسم الله قرآنا يوحى إليه فيبلغه قومه، في حين أن الأناجيل تتحدث فقط عن حياة المسيح عيسى (ع) برواية بعض حوارييه المخلصين. كما وقفت على تفسيره أيضا لنبوءة سفر التثنية 33: 2 التي ورد فيها: "جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران، وأتى مع عشرة آلاف قديس وعن يمينه نار شريعة لهم". حيث ذهب أيضا أن جبل فاران يقع بالقرب من سعير وبأن كل هاته المواقع التي ذكرت في هذه النبوءة تبقى متقاربة وقد شهدت أطوارا من حياة كل من نبي الله موسى والسيد المسيح (ع)، كما أنها تبعد عن صحراء الجزيرة العربية التي بعث فيها محمد (ص) وعن مكة بآلاف الكيلمترات. بيد أن فاران قد ذكرت في نبوءات أخرى تؤكد المعنى الذي أشرنا إليه في المقال الأول كما جاء في سفرالتكوين (21: 20-21) "وكان الله مع الغلام إسماعيل فكبر وسكن في البرية وكان ينمو رامي قوس. وسكن في برية فاران وأخذت له أمة زوجة من أرض مصر" وقد وعد الله تعالى نبيه إبراهيم (ع) بأن يجعل من نسل ابنه اسماعيل الذي خلفه مع أمه هاجر "أمة" كما جاء في سفر التكوين (21: 13) "وابن الجارية أيضا سأجعله أمّة لأنه نسلك"، ونحن لا نعرف غير العرب كأمة جاءت من نسل إسماعيل الذي سكن برية فاران التي تقع على التخوم الجنوبية من أرض كنعان و تمتد إلى عمق الجزيرة العربية. وقد وصف بطليموس وبليني سكان الحجاز، وذكروا قبائل قيدار وجيدور. وقيدار هو الإبن الثاني لإسماعيل من بين اثنا عشر إبن2 ومعناه "من العير" حيث يشير إلى مكان سكن جزء من العرب من ذرية قيدار في منطقة بين الحجاز والمدينة حيث ظهر أمر نبي الإسلام محمد (ص) ليكتمل الوعد الإلاهي كما جاء في هذه النبوءة. وهكذا فإن التأويل السليم للنبوءة يقتضي قراءتها وفق السياق العام لتطور الأحداث دون حصرها في تاريخ معين (حياة السيد المسيح (ع))، خاصة وأن هناك إشارات أخرى قد يتم تجاهلها عن قصد أو غير قصد تعزز ما ذهبنا إليه، فقد ورد في نفس النبوءة عشرة آلاف قديس يأتون مع هذا النبي، والتي يمكن تأويلها بالجيش الذي رافق النبي (ص) لفتح مكة. ولا داعي للتذكير بأن عيسى لم يأت بشريعة لليهود على عكس محمد (ص) الذي أتى بشريعة جديدة للناس كافة. من نبوءات سفر إشعياء: يعج سفر إشعياء أيضا بالنبوءات عن مقدم النبي محمد (ص) رغم محاولات المسيحيين تحريف هاته النبوءات عن مرادها، وذلك لأنها جاءت مغلفة بالركز كما شرحنا من قبل، مما يفتح باب التأويلات، لولا وجود شواهد تنطبق على شخصية الرسول (ص) وتشير إلى بعض الأحداث التي وقعت في عهده. وسنكتفي بذكر بعض الأمثلة توخيا للاختصار. جاء في نبوءة سفر إشعياء 4: 1-3 "في ذلك اليوم تتمسّك سبع نساء برجل واحد وتعلن له: نحن نطعم ونكسو أنفسنا، دعنا نحمل اسمك فتنْزع عنا عارنا. وفي ذلك اليوم يجعل الرب كل نبتة في الأرض جميلة زاهية وكل ثمرة فيها بهجة وفخرا للناجين من بني إسرائيل. ومن بقي في صهيون وتُرك في أورشليم يقال له قديس فتُكتب له الحياة". وهذه النبوءة تذكر أن النبي الموعود يأتي بالثروة والجاه، وأن كنوز الدنيا تُلقَى عند قدميه، وأن قومه يُدعون قديسين، وأن تعدد الزوجات يكون القاعدة الدارجة في ذلك الزمن. فهل تنطبق هذه العلامات على المسيح وتلاميذه؟ هل جاءوا بزمن الثروة والجاه لقومهم؟ هل ألقيت كنوز الأرض عند أقدامهم؟ هل كان تعدد الزوجات شائعا في مجتمعهم؟ لا. وبالتالي فإن جميع هذه العلامات تنطبق على رسول الإسلام محمد (ص) وعلى أتباعه وزمنه. قد يطرح الإشكال هنا حول ورود بعض الأسماء في هذه النبوءة، مثل أورشليم وصهيون وغيرها، لكن ذلك لا يعني أنها تخص السيد المسيح (ع) كما يذهب إلى ذلك المسيحيون. فقد تأتي هذه الأسماء أيضا بصفة رمزية، فيقصد باسم أورشليم مثلا الأماكن المقدسة، و إسرائيل يمكن أن يعني شعبي المختار، وليس من المحتم أن تكون هذه الأسماء تعني أورشليم وإسرائيل بالذات. وفي نبوءة أخرى من سفر إشعياء ورد: "قدِّسوا رب الجنود فهو خوفكم وهو رهبكم. ويكون مقدسًا وحجر صدمة وصخرة عثرة لبيْتيْ إسرائيل وفخًّا وشرَكا لسكان أورشليم. فيعثر بها كثيرون ويسقطون فينكسرون ويعلقون فيُلقَطونَ. صرّ الشهادة اختم الشريعة بتلاميذي. فأصطبر للرب الساتر وجهه عن بيت يعقوب وأنتظره" (إشعياء 8: 13-17). وتذكر هذه النبوءة بوضوح نبأ ظهور رجل مقدس يكون مقدمه امتحان لكل من بيتي إسرائيل، ويكون فخا وشَرَكا لسكان أورشليم، الذين سوف ينهزمون فيسقطون وينكسرون إذا اختاروا أن يعارضوه ويقاوموه. حيث ستحل شريعته محل شريعة موسى، وسوف يصرف الله تعالى وجهه عن بيت يعقوب. والكتّاب المسيحيون يلتزمون الصمت عن هذه النقطة. لعلهم يفهمون أن المقصود ببيْتيْ إسرائيل هما الفريقان الذي أيد أحدهما ابن سليمان "رحبعام" والفريق الثاني الذي عارضه، وبذلك فقد أقاموا دولتين متنافرتين. ولكن هذا التفسير لا يصلح لأن النبوءة تتحدث عن ظهور رجل مقدس، وتتكلم عن أمور وحوادث سوف تجري في زمنه. إن هذا الرجل المقدس لا بد أن يكون المسيح (ع) أو رجل آخر يظهر بعده، لأنه في المدة بين إشعياء والسيد المسيح لم تظهر شخصية دينية لها وزن، تكون قد واجهت بني إسرائيل برسالة لها أهميتها وقدرها. ولكن، هل واجه السيد المسيح بني إسرائيل بمثل هذه الرسالة؟ وهل تكبّد بنو إسرائيل الهزيمة والخزي على يديه عندما وقفوا ضده؟ وهل ختم المسيح الشريعة لتلاميذه وأعلن لهم نسخ شريعة موسى؟ إن المسيح بنفسه يجيب على هذه النقطة الأخيرة بوضوح كامل حيث يقول: "لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمّل. فإني الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل" (متى 5: 17-18). وهكذا فإن ختم الشريعة إنما كان في زمن الرجل المقدس الموعود حيث ستحل شريعة الإسلام محل الشريعة الموسوية. يقول تعالى في القرآن الكريم: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا" المائدة-3 . نبوءة دانيال: رأى الملك نبوخذ نصّر ملك بابل، حسب ما جاء في الإصحاح الثاني من سفر دانيال، رؤيا عجيبة سرعان ما نسيها. فجمع حكماء مملكته وطلب منهم أن يخبروه بالحلم وأن يخبروه أيضا عن تأويله. ولم يستطع أحد منهم أن يفعل ذلك. وأما دانيال النبي، فقد دعا الله تعالى، فأخبره الله بالحلم وأخبره أيضا بمعناه. وكان الحلم كما يلي: "أنت أيها الملك كنت تنظر وإذا بتمثال عظيم، هذا التمثال العظيم البهي جدا وقف قبالتك ومنظره هائل. رأس هذا التمثال من ذهب جيّد، صدره وذراعاه من فضّة، بطنه وفخذاه من نحاس. ساقاه من حديد، قدماه بعضهما من حديد والبعض من خزف. كنتَ تنظر إلى أن قُطِع حجر بغير يدين، فضرب التمثال على قدميه اللتيْن من حديد وخزف فسحقهما. فانسحق حينئذ الحديد والخزف والنحاس والفضة والذهب معا، وصارت كعصافة البيْدر في الصيف، فحملتها الريح فلم يوجد لها مكان، أما الحجر الذي ضرب التمثال فصار جبلا كبيرا وملأ الأرض كلّها" (دانيال 2: 31-35). وكان التعبير الذي فصّله دانيال للملك كما يلي: "أنت أيها الملك ملك الملوك لأن إله السماوات أعطاك مملكة واقتدارا وسلطانا وفخرا. وحيثما يسكن بنو البشر ووحوش البر وطيور السماء دفعها ليدك وسلّطك عليها جميعها، فأنت هذا الرأس من ذهب. وبعدك تقوم مملكة أخرى أصغر منك ومملكة ثالثة أخرى من نحاس فتتسلّط على كل الأرض. وتكون مملكة رابعة صلبة كالحديد، لأن الحديد يدق ويسحق كل شيء، وكالحديد الذي يكسّر تسحق وتكسّر كل هؤلاء. وبما رأيت القدمين والأصابع، بعضها من خزف والبعض من حديد، فالمملكة تكون منقسمة ويكون فيها قوة الحديد من حيث إنك رأيت الحديد مختلطا بخزف الطين. وأصابع القدمين بعضها من حديد والبعض من خزف، فبعض المملكة يكون قويا والبعض قصِمًا. وبما رأيت الحديد مختلطا بخزف الطين فإنهم يختلطون بنسل الناس، ولكن لا يتلاصق هذا بذاك كما أن الحديد لا يختلط بالخزف. وفي أيام هؤلاء الملوك يقيم إله السماوات مملكة لن تنقرض أبدا ومُلكها لا يُترك لشعب آخر وتسحق وتُفني كل هذه الممالك وهي تثبت إلى الأبد. لأنك رأيت أنه قد قُطع حجر من جبل لا بيدين فسحق الحديد والنحاس والخزف والفضة والذهب، الله العظيم قد عرّف الملك ما سيأتي بعد هذا، الحلم حق وتعبيره يقين" (دانيال 2: 37-45). وحسب تعبير دانيال للرؤيا، كانت الرأس الذهبية للتمثال ترمز لملك بابل، وكان الصدر والذراعان من الفضة يرمز إلى مملكة مادي وفارس التي قامت بعد مملكة بابل. أما الساقان اللتان من نحاس فكانا يرمزان إلى الإمبراطورية اليونانية تحت حكم الإسكندر الأكبر التي قامت بعد مملكة مادي وفارس. وكانت الأرجل الحديدية ترمز للإمبراطورية الرومانية التي علا نفوذها وقوتها بعد أن اضمحلت الإمبراطورية اليونانية. وعن هذه الإمبراطورية الأخيرة تقول الرؤيا: "قدماه (أي قدما التمثال) بعضهما من حديد والبعض من خزف" (دانيال 2: 33). ويشير هذا الوصف إلى حقيقة أن الإمبراطورية الرومانية سوف تشمل أجزاء من أوروبا ومن آسيا أيضا. والرجْلان الحديديتان ترمزان إلى الجزء الأوروبي من الإمبراطورية الرومانية، وتشير إلى القوة وإلى القومية الواحدة والدين الواحد، ولكن الأقدام كما جاء في الحلم، كان بعضهما من حديد وبعضهما من خزف. وهذا يعني أن القوة الأوروبية سوف تخضع بعض الأجزاء من آسيا، وبذلك فإنها سوف تصير قوة إمبراطورية. والقوى الإمبراطورية تتحكم في مناطق شاسعة وثروات كبيرة، ولكنها تعاني أيضا من الشغب الداخلي الذي يأتي بسبب عدم التلاحم والتجانس بين الشعوب التي تحت إمرتها. ومن الواضح أن الحلم يعني أن الإمبراطورية الرومانية سوف تأخذ في الاضمحلال في آخر الزمان بسبب عدم التجانس هذا. ويمضي الحلم فيخبرنا عن أشياء على جانب كبير من الأهمية: "كنت تنظر إلى أن قُطِع حجر بغير يدين فضرب التمثال على قدميه اللتين من حديد وخزف فسحقهما. فانسحق حينئذ الحديد والخزف والنحاس والفضة والذهب وصارت كعصافة البيدر في الصيف فحملتها الريح فلم يوجد لها مكان، أما الحجر الذي ضرب التمثال فصار جبلا كبيرا وملأ الأرض كلّها" (دانيال 2: 34-35). وهنا تتحدث النبوءة بوضوح عن ظهور الإسلام. فإن الإسلام في أيامه الأولى اصطدم بالإمبراطورية الرومانية ثم بالإمبراطورية الفارسية. وحين اصطدم المسلمون بالرومان، كانت روما قد هزمت الإمبراطورية اليونانية التي أنشأها الإسكندر المقدوني، وصارت أقوى من ذي قبل. وحين اصطدم المسلمون بالفرس كانت الإمبراطورية الفارسية قد امتدت واستولت على ممتلكات الإمبراطورية البابلية. وحين هزم المسلمون كلا من الإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية الفارسية، تحققت النبوءة فانكسر الحديد والخزف والنحاس والفضة والذهب كلهم بعضهم مع البعض، وصارت كل هذه الممالك كعصافة البيدر التي بددتها ريح الصيف، حيث أصبح المسلمون هم حكام معظم العالم المعروف في ذلك الوقت وظلت زمام الأمور في العالم في يد المسلمين لمدة ألف سنة، يملون سياسة العالم ويوجهّون دفّتها. إن تتابع الأحداث في الحلم، والتعبير الذي قدّمه دانيال لتلك الأحداث، لا يترك مجالا للشك في معناها ومدلولاتها. ونجد إشارة إلى "الحجر" الذي جاء في نبوءة دانيال في سفر إشعياء وفي إنجيل متى. ففي إشعياء 8: 14 نقرأ عن الشخص المقدس: "ويكون مقدسا وحجر صدمة وصخرة عثرة لبيتيْ إسرائيل وفخّا وشرَكا لسكان أورشليم". حيث نقرأ في الفقرة التالية 8: 15 ما يلي: "فيعثر بها كثيرون ويسقطون فينكسرون ويعْلقون فيُلقطون". وفي إنجيل متّى في الإصحاح 21 يظهر أن النبي الموعود – أي الحجر المذكور في النبوءة – ليس هو المسيح (ع)، ولكنه شخص آخر يأتي بعد المسيح، حيث نجد تأكيد ذلك أيضا في المزامير 118: 22 : "الحجر الذي رفضه البنّاءون قد صار رأس الزاوية". قصة الحجر و نبوءات العهد الجديد: نقرأ في متّى 21: 33-46 ما يلي: "اسمعوا مثلا آخر، كان إنسان رب بيت غرس كرما وأحاطه بسياج وحفر فيه معصرة وبنى برجا وسلمه إلى كرّامين وسافر. ولما قرب وقت الأثمار أرسل عبيده إلى الكرّامين ليأخذ أثماره. فأخذ الكرّامون عبيده وجلدوا بعضا وقتلوا بعضا ورجموا بعضا. ثم أرسل أيضا عبيدا آخرين أكثر من الأولين، ففعلوا بهم كذلك. فأخيرا أرسل إليهم ابنه قائلا يهابون ابني. وأما الكرّامون فلما رأوا الابن قالوا فيما بينهم هذا هو الوارث، هلموا نقتله ونأخذ ميراثه. فأخذوه وأخرجوه خارج الكرم وقتلوه. فمتى جاء صاحب الكرم ماذا يفعل بأولئك الكرّامين. قالوا له أولئك الأردياء يهلكهم هلاكا رديّا ويسلم الكرم إلى كرّامين آخرين يعطونه الأثمار في أوقاتها. قال لهم يسوع أما قرأتم قط في الكتب، الحجر الذي رفضه البناءون هو قد صار رأس الزاوية، من قِبَل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا. لذلك أقول لكم إن ملكوت الله يُنْزع منكم ويُعطَى لأمّة تعمل أثماره. ومن سقط على هذا الحجر يترضّض ومن سقط هو عليه يسحقه. ولما سمع رؤساء الكهنة والفرّيسيّون أمثاله، عرفوا أنه تكلم عليهم. وإذ كانوا يطلبون أن يمسكوه خافوا من الجموع لأنه كان عندهم مثل نبي". في هذا المثال الجميل قدّم لنا السيد المسيح (ع) ملخصا تصويريا لتاريخ الأنبياء، حيث لا يترك السياق التمثيلي في هذا المقطع مجالا للشك في أن العالم الدنيوي هو الكرْم؛ وأن الكرّامين هم بنو البشر على وجه العموم؛ والأثمار التي يريد المالك أن يجمعها هي الفضيلة والتقوى والإخلاص لله تعالى؛ وأما العبيد فهم الأنبياء الذين كانوا يأتون إلى العالم واحدا تلو الآخر؛ والابن هو المسيح الذي جاء بعد سلسلة طويلة من الأنبياء. ولقد أهين الابن وقتله الكرّامون. وبعد أن قال السيد المسيح هذا، انتقل إلى ذكر "الحجر الذي رفضه البنّاءون، فهو نفسه الذي صار رأس الزاوية". والحجر الذي رفضه البناءون هو ذرّية إسماعيل، وقد درج أبناء إسحاق على معاملة ذرية إسماعيل باحتقار واستعلاء. وحسب ما جاء في هذه النبوءة، فإن واحدا من ذريّة إسماعيل كان من المقدّر له أن يصبح رأس الزاوية، أو ]خَاتَمَ النَّبِيِّينَ[ كما يقول عنه القرآن المجيد، فهو ليس نبيا كالأنبياء العاديين الذين عرفتهم الدنيا، وإنما كان هو الذي يحمل الشريعة الكاملة إلى العالم بأجمعه. من إنجيل يوحنا: نقرأ في إنجيل يوحنا 1: 20-21 أن الناس ذهبوا إلى يوحنا المعمّدان ليسألوه عما إذا كان هو المسيح الموعود بمجيئه في النبوءات، فأجاب بالنفي. وهذا ما حدث: "وهذه شهادة يوحنا حين أرسل اليهود من أورشليم كهنة ولاويّين ليسألوه من أنت. فاعترف ولم يُنكر وأقر إني لست أنا المسيح. فسألوه إذًا ماذا؟ إيليّا أنت؟ فقال لست أنا، النبي أنت؟ فأجاب لا. فقالوا له من أنت لنعطي جوابا للذين أرسلونا ماذا تقول عن نفسك؟ قال أنا صوت صارخ في البريّة قوّموا طريق الرب ... فسألوه وقالوا له فما بالك تُعمّد إن كنت لست المسيح ولا إيليّا ولا النبي؟" (يوحنا 1: 19-25) يتضح من هذا أن في الزمن الذي كان الناس يتوقعون ظهور المسيح، كان هناك ثلاث نبوءات شائعة بين الناس: (1) المجيء الثاني لإيليا؛ (2) مجيء المسيح؛ (3) مجيء "ذلك النبي"، أي النبي "مثيل موسى" الذي ذكرته نبوءة سفر التثنية 18:18. وهؤلاء الأفراد الثلاثة هم ثلاثة أشخاص يختلف كل منهم عن الآخر. وقد أعلن المسيح بنفسه أن يوحنا المعمّدان حقق في نفسه المجيء الثاني لإيليا، إذ جاء في إنجيل يوحنا 11: 14 قوله: "وإن أردتم أن تقبلوا فهذا هو إيليّا المزمع أن يأتي". كما يتبيّن من إنجيل لوقا (1: 17) أنه قبل مولد يوحنا، تلقى أبوه زكريا الوحي التالي: "ويتقدّم أمامه بروح إيليّا وقوّته" وأيضا في إنجيل متّى يتحدث المسيح عن يوحنا في 17: 12 ويقول عنه ما يلي: "ولكني أقول لكم إن إيليّا قد جاء ولم يعرفوه بل عملوا به كل ما أرادوا" وهكذا يتضح من خلال هذه المقتطفات بأن المجيء الثاني لإيليّا النبي قد تحقق في شخص يوحنا. أما المسيح، فمن المتّفق عليه أنه لم يكن غير يسوع الذي ذكره العهد الجديد. وعلى هذا لم يبق غير "ذلك النبي". وهو ليس يوحنا ولا هو المسيح، لأنه يختلف عن كليهما، فهو الشخصية الثالثة المتوقع ظهورها. ومن المعروف أن "ذلك النبي" لم يكن قد ظهر بعد إلى زمن المسيح (ع). وبعد المسيح لم يعلن أحد أنه "ذلك النبي" ولم يحقق أحد بالفعل الأوصاف التي جاءت في "ذلك النبي" إلا رسول الإسلام محمد (ص). كما نقرأ أيضا في إنجيل يوحنا 14: 26 ما يلي: "وأمّا المعزّي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلّمكم كل شيء ويُذكّركم بكل ما قلته لكم" يقول (موريس بوكاي) ما نصه: "إن نص إنجيل يوحنا يتحدث وحده عن مرشد آخر آتٍ بعد المسيح، يطلق عليه يوحنا باللغة اليونانية اسم parakletosوذلك وفقًا لما ورد في الترجمة المسكونية من العهد الجديد. وهي كلمة ترجمت في اللغة الفرنسية بكلمة paraklet" وتنطبق هذه النبوءة على رسول الإسلام محمد (ص). صحيح أنه قيل: "الذي سيرسله الآب باسمي"، ولكن كلمة "باسمي" لا يمكن أن تعني سوى "أنه سوف يشهد بصدقي". وقد شهد الرسول (ص) بصدق المسيح (ع) باعتباره نبيا كريما ومعلما عظيما، كما أعلن خطأ وضلال أولئك الذين قالوا بأنه كان ملعونا. كذلك تقول النبوءة بوضوح: "فهو يعلّمكم كل شيء". وتماثل هذه الكلمات نفس الكلمات التي جاءت في نبوءة سفر التثنية. وهذا الوصف يوافق فقط الرسول الأعظم، الذي كان المعزّي للعالم بحق، فإن تعاليمه هي التي جلبت الأمل والعزاء والراحة والاطمئنان إلى العالم أجمع. ولكي تكتمل الصورة أكثر نختم بهذا الإقرار من إنجيل يوحنا 16: 7-14 على لسان السيد المسيح عيسى (ع) حيث يقول لتلامذته: "لكني أقول لكم الحق إنه خير لكم أن أنطلق، لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزّي، ولكن إن ذهبت أرسله إليكم. ومتى جاء ذاك يبكّت العالم على خطيّة وعلى برّ وعلى دينونة. أمّا على خطيّة فلأنهم لا يؤمنون بي. وأما على برّ فلأني ذاهب إلى أبي ولا ترونني أيضا. وأمّا على دينونة فلأن رئيس هذا العالم قد دين. إن لي أمورا كثيرة أيضا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن. وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آتية. ذاك يمجّدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم". وتشير هذه النبوءة إلى أمر مهم، وهو أن المعزّي سوف لن يأتي إلا بعد ذهاب المسيح (ع) حيث سيدين اليهود الذين رفضوا الإيمان بالمسيح (ع)، ويرشد الناس إلى جميع الحق. كما أن الكتاب الذي سوف يوحى إليه (القرآن الكريم) لن يكون من كلام البشر، وأنه سوف ينبّئ العالم بأمور آتية من أمور الغيب، وأنه سوف يمجّد المسيح ابن مريم "ذاك يمجّدني" ويبرئه من جميع الاتّهامات التي تُلصق به والعيوب التي تُنسَب إليه. يقول القرآن المجيد عن اليهود: ]وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً~وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً~بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً~وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً~فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً[(النساء:157-161) وفي موضع آخر: ]وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ~مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ~إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[(المائدة:117-119) كما أن القوى الشيطانية سوف تنسحق بأيدي هذا النبي الموعود. ومن بين جميع الأنبياء، يقف الرسول الأكرم (ص) في موقف بارز متميّز من حيث اتّخاذ الوسائل اللازمة ضد القوى الشيطانية وتأثيراتها، وضبط نوازع النفس الأمّارة بالسوء، ومن أجل نشر الفضيلة والبر في حياة الإنسان. وقد علم أتباعه عبارة دأبوا على تكرارها في المناسبات المختلفة، وهي "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم". وهكذا فإن هذه النبوءة تنطبق تماما على رسول الإسلام محمد (ص)، يؤكدها ما جاء في سفر أعمال الرسل (3: 21-24): "الذي ينبغي أن السماء تقبله إلى أزمنة ردّ كل شيء التي تكلم عنها الله بفم جميع أنبيائه القدّيسين منذ الدهر. فإن موسى قال للآباء إن نبيا مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم، له تسمعون في كل ما يكلّمكم به. ويكون أن كل نفس لا تسمع لذلك النبي تُباد من الشعب. وجميع الأنبياء أيضا من صموئيل فما بعده، جميع الذين تكلّموا سبقوا وأنبأوا بهذه الأيام". حيث يشير هذا المقطع إلى النبوءة المذكورة في سفر التثنية 18:18 ويؤكد على أن النبي الموعود في سفر التثنية يجب أن يأتي قبل أن يتحقق المجيء الثاني للمسيح (ع)، كما تؤكد نبوءة التثنية التي سبق تفصيلها على أن النبي الموعود سوف يأتي بشريعة من عند الله تعالى. والإشارة إلى نبوءة التثنية في سفر أعمال الرسل يبيّن لنا بكل وضوح أن تعاليم المسيح سوف تنتهي فعاليتها وتحل محلها تعاليم ذلك النبي الموعود به. وعلى هذا فإن النبي الموعود به في سفر التثنية (وفي هذا المقطع من سفر أعمال الرسل) سوف يكون هو بشير المرحلة الأخيرة من التقدم الروحي للإنسان، وأن شريعته هي التي سوف تحل محل شريعة موسى التي اتبعها المسيح، وهو الذي سوف يمنح العالم تعاليم جديدة وشريعة جديدة..إنتهى. 1- "أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به" سفر التثنية 18:18. 2 -نجد في سفر التكوين 17: 20 ما يلي: "وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه ها أنا أباركه وأثمره وأكثّره كثيرا جدا. اثني عشر رئيسا يلد وأجعله أمّة كبيرة". إذ جاءت أسماءهم في سفر التكوين 25: 13-16 كما يلي: 1- نبايوت 2- قيدار 3- أدبئيل 4- مبسام 5- مشماع 6- دومة 7- مسّا 8- حدار 9- تيما 10- يطور 11- نافيش 12- قدْمة *باحث في اختلاف المذاهب الإسلامية [email protected]