(1) مقدمة لا بد منها من منا لم يسمع عن قصة إسلام الصحابي الجليل سلمان الفارسي ورحلته العجيية في البحث عن نبي الإسلام محمد (ص) خلال تنقلاته من بلاد فارس إلى أحد معابد اليهود حيث وجد البشارة الأولى في إحدى نسخ التوراة التي كان يحتفظ بها الحاخام في مكتبته، ولينتقل بعد موته إلى دير للنصارى حيث حدثه القس هذه المرة عن بشارة النبي الموعود قبل وفاته، ليكمل سلمان بحثه عن هذا النبي يحمل معه العلامات التي حفظها عن البشارات حتى وجده يوما بين أصحابه وامتحنه ليتأكد من صدقه قبل أن يسلم بين يديه. وقصة سلمان لم تكن استثنائية في هذا الباب فقد أسلم عدد من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وتميم الداري ونقلوا نبوءات كتبهم حول النبي الموعود إلى المسلمين ليؤكدها القرآن مثل قوله تعالى: "وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ " الصف-61. ولا أدري كيف أقحم الكاتب محمد سعيد نفسه في أمر عليه إجماع كل طوائف المسلمين، بل يحظى أيضا باعتراف قطاع كبير من أتباع الملل والديانات الأخرى، ولو حاول تتبع هذه النبوءات في مصادرها من العهد القديم والجديد عوض الجهود التي بذلها في إقناع الجمهور القارئ بغيابها في النسخ التي اعتمدها لوجد الحقائق ساطعة أمامه، لكنه آثر التحدي و إشهار سلاح الإنكار. وقبل أن أتوجه للرد على مقالته في الموضوع وقد استفزتني كما استفزت الكثير من المسلمين الغيورين على ثوابت هذا الدين، حيث لمست ذلك من خلال الردود والتعليقات التي أعقبت مقالته، فوجئت برسالة من أحد أتباع الطائفة الأحمدية في المغرب وهو يحثني أولا على الاطلاع على مذهبهم الذي لا يخرج عن دائرة الإسلام رغم مواقف بعض المذاهب الإسلامية المستنفرة ضدهم نتيجة تفسيرهم الخاص لمصطلح الخاتمية، وثانيا عن تخوفهم من خلط القارئ لموقف الكاتب محمد سعيد حول إنكار بشارة نبي الإسلام محمد (ص) بموقفهم الذي لا يطابق مذهب محمد سعيد، خاصة وأن الكاتب قد استهل مقاله حول الموضوع بذكر الطائفة الأحمدية. حيث عزز الأخ الأحمدي موقفه بأدلة داحضة من النبوءات التي تضمنتها العهود السابقة قبل الإسلام سوف نختار لقرائنا الأعزاء جزءا منها مع الشرح والتحليل. وقبل ذلك فقد نبهتني هذه المبادرة التي قام بها أحد أتباع هذه الطائفة الإسلامية إلى أمران، أحببت أن أشير إليهما قبل عرض مناقشة البشارات التي اخترناها لكم من بين العديد من البشارات الأخرى المتناثرة بين العهدين القديم والجديد في الكتب المقدسة السابقة. أولهما أن لهذه الطائفة التي تلوذ بالإسلام في وجه من يضطهدها عادة من المسلمين كما حدث مؤخرا لأتباعها في الجزائر تستحق أن نطلع على تاريخ نشأتها وأفكارها ومقارنتها بما تعارف عليه المسلمون من مختلف المذاهب في إطار حرية التعبير والرأي خاصة وأن صدر الحضارة الإسلامية قد عرف الكثير من تلك النقاشات التي طالت كل محاور العقيدة فيما سمي بعلم الكلام ولم يخرج أحد من المسلمين غريمه من الدين لاختلافه معه في الرأي أو الإعتقاد. ولأن العقيدة الإسلامية لا يمكن اختزالها في مصوغات جاهزة كما فعل بعض الفقهاء فجمدوا بذلك العقل الإسلامي وأفرغوها من محتواها حتى تسربت إليها الخرافة والأسطورة بعد أن تناءت عنها أدوات العقل الإستدلالي. وثانيا لأني لمست من خلال هذه الأدلة التي أحببت أن أقتسمها مع قرائي الأعزاء غيرة على ثوابت هذا الدين مما تعارف عليه المسلمون بشتى مذاهبهم وطوائفهم وإخلاصا في الدفاع عن هذه الثوابت لا يختلف عن إخلاص وتفاني أتباع الملل والطوائف الأخرى كل يعمل على طريقته. وفي هذا أيضا إضافة نوعية للمشهد الإسلامي الذي أحببنا الوقوف على بعض تفاصيله الغائبة عن وعي وثقافة الأغلبية المسلمة، ليس انتصارا لمذهب أو لطائفة دون أخرى كما يظن البعض. بل لأن أي مشروع للتواصل و الوحدة بين المسلمين يتطلب أولا معرفة الآخر المختلف وفهم دوافعه وأفكاره من أجل تفكيك بنية الاعتقاد والطقوس والسلوكات والمواقف المترتبة عن ذلك لديه. وتلك لعمري هي الخطوة الأولى لتجاوز معظم الخلافات الدامية التي عرفها ومازال يعاني من تبعاتها اليوم العالم الإسلامي حيث تتفوق لغة التكفير على لغة التفكير. وعود على بدء نستعرض في هذا المقال جملة من الأدلة التي توصلت بها من المخلص الأحمدي ردا على الباحث محمد سعيد، وقد أعدنا صياغتها توخيا للاختصار بعد أن استأذنا مرسلها في حق التصرف. نبوءات سفر التثنية أوحى الله تعالى إلى موسى فقال له: "أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به. ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه. وأما النبي الذي يطغَى فيتكلم باسمي كلاما لم أوصه أن يتكلم به، أو الذي يتكلم باسم آلهة أخرى، فيموت ذلك النبيّ" سفر التثنية 18:18 ومثلك هنا تدل على أن هذا النبي الذي سيختاره الله تعالى سيكون مثل موسى (ع) أي صاحب شريعة جديدة، وأنه سيجتهد في تكوين أمة جديدة. وقد وصف النبي الموعود بأنه لا يتكلم من نفسه، وإنما يكلم الناس "بكل ما أوصيه به" أي يتكلم باسم الله، وقد تحقق ذلك في محمد (ص) إذ هو الوحيد الذي تكلم "باسم الله"، ذلك أن كل سورة من سور القرآن المجيد تبدأ بهذه الكلمات: "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ". ونحن نعلم يقينا بأنه إلى زمن المسيح (ع) لم يظهر في العالم نبي يمكن أن تنطبق عليه الأوصاف المذكورة في هذه النبوءة للنبي الموعود. بل إن المسيح نفسه لم يأت بشريعة جديدة "لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء ما جئت لأنقض بل لأكمّل. فإني الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل" (متّى 5: 17-18). فضلا عن أن المسيح عيسى (ع) كان من بني إسرائيل من نسل داود (مزامير داود 132: 11) وليس من وسط إخوة بني إسرائيل الوصف الذي ينطبق على نبي الإسلام محمد (ص) الذي ينتسب إلى النبي إسماعيل (ع) أخ النبي إسحاق (ع) جد بني إسرائيل. بل إن المسيحيين يعتقدون أن المسيح عيسى (ع) هو ابن الله. من جهة أخرى، فإن الأناجيل لا تتكوّن من كلمات وضعها الله تعالى في فم المسيح كما جاء في النبوءة "وأجعل كلامي في فمه"، بل إنها تحكي فقط قصة المسيح وبعض ما قاله في الكلمات التي ألقاها على الناس في اجتماعات عامة، وبعض ما قاله تلاميذه في مناسبات مختلفة. وهكذا فإن هذه النبوءة في سفر التثنية لم تتحقق في المسيح. ولا يسعنا إلا الإقرار بأن كلا من العهد القديم والعهد الجديد قد سبق وأنبأ بمقدم نبي بعد المسيح ليرشد العالم "إلى جميع الحق"، فهو الذي سيقيم اسم الله على الأرض، ويثبت دعائم وحدانيته إلى الأبد. ومما جاء أيضا في هذا السفر: "جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران، وأتى مع عشرة آلاف قديس وعن يمينه نار شريعة لهم" التثنية 33: 2 حيث وعد الله تعالى موسى هنا بثلاثة تجليات يظهر فيها مجد الله، حيث حدث التجلي الأول من سيناء، كما أشار إلى ذلك سفر الخروج: "ونزل الرب على جبل سيناء إلى رأس الجبل، ودعا الله موسى إلى رأس الجبل فصعد موسى" (الخروج 19: 20). هذا التجلي لمجد الله ظهر في زمن موسى نفسه، وقد شهد العالم البركات التي تحققت في هذا التجلي، ومضى الزمن. وكان من المقدّر أن يظهر التجلي الثاني الذي جاء ذكره في النبوءة في سعير. وسعير هو ذلك الجزء من العالم الذي ظهرت فيه معجزات السيد المسيح. ولذلك فإن جملة "أشرق لهم من سعير" تشير إلى مقدم المسيح (ع). ونسبة سعير إلى سيناء، كما يفعل المفسرون المسيحيون، إنما هو خطأ فادح، لأن سعير في فلسطين. وكلمة "سعير" كما وردت في المخطوطات القديمة لها عدة أشكال أخرى محرّفة، أحدها يشير إلى اسم قوم انحدروا من ذرية النبي يعقوب المعروفين باسم بنو أشير. ويشير أحدها إلى اسم المنطقة الشمالية الغربية من فلسطين. وعلى هذا، فإن كلمة سعير تمثل المظهر الثاني من التجلي الإلهي. أما التجلي الثالث لوجه العظمة الإلهية فقد كان مقدرا له أن يظهر من فاران. وفاران اسم للتلال الممتدة بين مكة والمدينة، وكان الجغرافيون العرب دائما يسمّون هذه المنطقة "فاران". وحسب العهد القديم، فإن إسماعيل عاش في هذه المنطقة من برية فاران، إذ يقول سفر التكوين: "وكان الله مع الغلام إسماعيل فكبر وسكن في البرية وكان ينمو رامي قوس. وسكن في برية فاران وأخذت له أمة زوجة من أرض مصر"(التكوين 21: 20-21). وحسب الكتاب المقدس، عاش بنو إسماعيل في فاران التي هي جزء من بلاد العرب كما أنه لا خلاف على أن قريش هي من سلالة إسماعيل، وقد كان من المقدّر أن يتجلى المجد الإلهي من فاران، أي أنه سوف يظهر في بلاد العرب. وتشير شهادة الوحي الذي تلقاه النبي إشعياء 21: 13-17 إلى نبوءة أخرى تتعلق بوصف مبطن لمعركة بدر التي انتصر فيه المسلمون على كفار قريش: "وحي من جهة بلاد العرب. في الوعر في بلاد العرب تبيتين يا قوافل الددانيين. هاتوا ماء لملاقاة العطشان، يا سكان أرض تيماء وافوا الهارب بخبزه. فإنهم من أمام السيوف قد هربوا، من أمام السيف المسلول، ومن أمام القوس المشدودة ومن أمام شدة الحرب. فإنه هكذا قال لي السيد، في مدة سنة كسنة الأجير يفنى كل مجد قيدار. وبقية عدد قسي أبطال بني قيدار تقل لأن الرب إله إسرائيل قد تكلّم". وقيدار هذا هو أحد أبناء إسماعيل الإثني عشر الذين استقروا في بلاد العرب. ذكر الرسول(ص)في نبوءات حبقوق جاء في سفر حبقوق 3: 3-7 منذ 626 قبل ميلاد المسيح (ع): "الله جاء من تيمان والقدوس من جبل فاران. سلاه. جلاله غطى السماوات، والأرض امتلأت من تسبيحه. وكان لمعان كالنور، له من يده شعاع، وهناك استتار قُدرته. قدامه ذهب الوباء، وعند رجليه خرجت الحمّى. وقف وقاس الأرض، نظر فرجّف الأمم، ودُكّت الجبال الدهرية وخَسفت آكام القدم، مسالك الأزل له. رأيت خيام كوشان تحت بليّة، رجفت شُقق أرض مديان". هنا جاء ذكر تيمان والقدوس من جبل فاران. ويتّضح من نبوءات موسى وحبقوق أن مجيء المسيح (ع) لا يشكّل المرحلة الأخيرة من تطور الإنسان الروحي، بل سيتبعها مقدم نبي آخر يشكّل التجلي الثالث للمجد الإلهي. وبذلك النبي وحده يتجلى كل من المظهرين الجلالي والجمالي للقدرة والمجد الإلهي، وسوف يأتي إلى العالم بشريعة نارية، وليست مجرّد رسالة للصفح والغفران. إن مجيء الله من تيمان وظهور القدوس من جبل فاران يشير إلى الرسول (ص)، وشريعته النارية تشير إلى القرآن المجيد الذي له فضل إحراق الشرور والنوازع الشيطانية التي تؤدي إلى ارتكاب الذنوب والمعاصي، وتحويلها إلى رماد. لقد قال موسى بحق عن النبي الموعود أنه سيأتي ومعه عشرة آلاف قديس، ويعلم العالم أجمع أن الرسول (ص) هو النبي الذي ظهر في فاران ودخل مكة ومعه عشرة آلاف من الأتباع المخلصين. فهل يمكن القول بأن أيّا من المسيح أو داود أو موسى قد حقق هذه النبوءة العظيمة؟ هل جاء أحد منهم من فاران؟ هل انتصر أحدهم في معركة وكان معه عشرة آلاف من القديسين الأتباع؟ يؤيد ذلك ما جاء في النبوءة أيضا: "وقف وقاس الأرض، نظر فرجّف الأمم" (حبقوق 3: 6). وقد مات موسى وهو لا يزال يحارب أعداءه، بينما عُلّق المسيح على الصليب. إن النبي الذي نظر فارتجفت الأمم هو نبي الإسلام (ص) ولا غرو أنه قال عن نفسه: "نُصرت بالرعب مسيرة شهر" (البخاري). ومن علامات النبي الموعود التي ذكرها حبقوق هي أن الأرض تمتلئ بتسبيح الله وحمد آلائه، نتيجة لانتشار شريعة ذلك النبي وتعاليمه، ويُضفي الله عليه صفاته الحميدة، فيكون محمدا في الأرض والسماء. وليس من الصدف أن يكون اسمه أيضا محمدا. ولما أنكره قومه وشجبوا دعوته وأرادوا أن يسبّوه، لم يعرفوا كيف يسبّون شخصا اسمه محمد، فغيروا اسمه من محمد إلى مذمم. ولما غضب الصحابة بسبب السبّ والإهانة التي وُجّهت إليه، طيّب خاطرهم وقال لهم: "ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم، يشتمون مذمما ويلعنون مذمما وأنا محمد" (البخاري باب ما جاء في أسماء الرسول (ص)). إن رجلا اسمه في جمال شخصيته وجمال صفاته هو وحده الذي يحقق نبوءة حبقوق عن النبي الموعود. وفي نهاية هذه النبوءة جاء: "رأيت خيام كوشان تحت بليّة. رجفت شقق أرض مديان". حيث يتبين في هذا الجزء بأن النبي الموعود لا ينتمي إلى بلاد الشام لأن خيام كوشان وميديان هي التي يصيبها الذعر وتكون تحت بليّة عندما تظهر جيوش النبي الموعود. وهذا الوصف لا يمكن أن ينطبق على موسى ولا عيسى (ع) وإنما ينطبق فقط على نبي الإسلام محمد (ص). فعندما خرج جيش المسلمين الصغير في زمن الخليفة الأول وتقدَّمَ نحو فلسطين دون اعتبار أنها كانت تحت سلطان القيصر الروماني، الذي كان يحكم نصف العالم المعروف في ذلك الوقت، حيث انهزمت الجيوش الرومانية الجرّارة أمام قوة المسلمين الصغيرة. بعثة الرسول (ص) كما ذكرها سليمان (ع) جاء في سِفر نشيد الأنشاد 5: 10-16 ما يلي: "حبيبي سليم وأسمر لا عيب فيه. عَلمٌ بين عشرة آلاف. رأسه ذهب إبريز. وغدائره نخيل حالكة بلون الغراب. عيناه حمامتان على مجاري المياه مغسولتان باللبن وهما في محجريهما. خدّاه روضة أطياب وخميلة رياحين. شفتاه سوْسنتان تقطران عبير المرّ. يداه مجللتان بالذهب، مليئتان بالزبرجد. جسده مُغشّى بالعاج ومغلّف بالياقوت. ساقاه عمودا رخام على قاعدتين من إبريز. طلعته مثل لبنان، وهو مهيب كأرزه. ريقه أعذب ما يكون، وهو شهي كله. هذا حبيبي، هذا رفيقي يا بنات أورشليم". (الترجمة العربية من النسخة الجديدة المطبوعة عام 1993 في بيروت) هذه النبوءة تَعِد بظهور نبي يفوق الأنبياء الآخرين عظمة، وتسمو مرتبته على مراتبهم، وذلك لأن الوصف الجزل الذي جاء في سفر نشيد الأنشاد، كان إجابة على سؤال مذكور في الفقرة السابقة مباشرة لهذا الوصف في 5: 9 ويقول: "ما فضل حبيبك على الأحباء أيتها الجميلة في النساء"؟ وتقول الإجابة إن هذا الحبيب سوف يقف "علم بين عشرة آلاف". وكما أن العلم يرمز أيضا للجيش، فكأن المقطع المذكور يقول إن هناك حدثا هاما حيث يتولى هذا المحبوب قيادة عشرة آلاف من أتباعه. ونقرأ أيضا:" شفتاه سوْسنتان تقطران عبير المر" (5: 13). والمر هو نوع من الصمغ طعمه مرّ ولكنه ذو رائحة ذكية وله الكثير من الفوائد، فهو يستعمل في المراهم المضادّة للالتهابات، ويساعد على التئام الجروح، وهو قاتل للجراثيم، وتصنع منه الروائح والعطور. كما يذكر النص أيضا أنه "شهي كله"، والأصل العبري لهذه الكلمة هو "محمديم"، وهو يعني أن شخصه وصفاته تستحق الحمد وتجذب الحب والإعجاب. إن هذه النبوءة تنطبق تماما على رسول الإسلام فهو الذي كان علما على رأس عشرة آلاف من الأبرار القديسين، سار بهم منتصرا من تلال فاران إلى وادي مكة، تماما كما سبق وأنبأ بذلك موسى (ع). وإن تعاليمه هي التي ثبت بالفعل أنها مثل "عبير المر" للعالم، فهي مرّة الطعم، ولكنها جميلة التأثير والنتائج. وهي تحتوي على مبادئ وقواعد تؤدّي كلها إلى خير المجتمع الإنساني، ومع ذلك فهي قد تحمل بعض المرارة لبعض الأمم. وإنه هو الذي يسمى، وبحق، محمدا، رغم اعتراض النقاد المسيحيين الذين يقولون بأن الحبيب المذكور في هذه النبوءة اسمه محمديم وليس محمدا. بيد أن هذا الاعتراض لا وزن له. فإن العهد القديم يستعمل لله تعالى اسم "إلوهيم". ومن المألوف في اللغة العبرية أن تُستعمل صيغة الجمع للتعبير عن التعظيم والتشريف للفرد. وهذا أسلوب معروف في اللغة الأردية أيضا. وفي سفر نشيد الأنشاد أيضا الذي يقال إن سليمان (ع) قد كتبه، نجد نبوءة أخرى عن رسول الإسلام، في 4: 9-12 حيث جاء ما يلي: "9 قد سبَيْت قلبي يا أختي العروس، قد سبيْت قلبي بإحدى عينيك بقلادة واحدة من عنقك. 10 ما أحسنَ حُبَّك يا أختي العروس، كم محبّتك أطيب من الخمر وكم رائحة أدهانك أطيب من كل الأطياب. 11 شفتاك يا عروس تقطران شهدا. تحت لسانك عسل ولبن ورائحة ثيابك كرائحة لبنان. 12 أختي العروس جنة مغلقة عين مقفلة ينبوع مختوم. 13 أعراسك فردوس رمّان مع أثمار نفيسة فاغية ونارْدين". حيث يخاطب سليمان (ع) في أسلوب أدبي محبوبته باعتبارها أخته وعروسه في نفس الوقت، وذلك كما جاء في الفقرة (9، 10، 12). وخطابها بالأخت والعروس لم يرد عبثا، بل يهدف إلى مفهوم معيّن. فكلمة "أخت" تعني أن النبي الموعود سيكون من إخوة بني إسرائيل، وكلمة "عروس" تعني أن رسالة النبي الموعود لن تقتصر على قومه فقط كما كانت رسالات جميع أنبياء بني إسرائيل، بل تتعدّى العرب وتفتح أحضانها للأمم الأخرى أيضا. ويجب ألا يخدعنا استعمال صيغة المؤنث للمخاطب، فالمعنى جاء بأسلوب شعري في قالب من الاستعارات والكنايات، ولذلك فإن الفقرة الأخيرة من الإصحاح تستخدم صيغة المذكر، وهو أمر متناقض ولكن له دلالة واضحة، إذ تقول: "ليأت حبيبي إلى جنّته ويأكل ثمره النفيس" (4: 16). فالنبوءة المذكورة في (4: 9-12) تنطبق على رسول الإسلام محمد (ص). إذ أن المسيح (ع) كان من بني إسرائيل ولم يكن من إخوة بني إسرائيل، كما أن تعاليمه لم تكن سوى لقومه فقط. وقد جاء أيضا في سفر نشيد الأنشاد 1: 5-6 ما يلي: "أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم كخيام قيدار كشقق سليمان. لا تنظرْن إلىّ لكوني سوداء لأن الشمس قد لوّحتني." و يبدو أن سليمان (ع) قد أخبر عن مجيء نبي يأتي من الجنوب، وأنه (أو قومه) يكون أسمر اللون عند مقارنته بأبناء إسحاق. ومن المعروف جيدا أن سكان الشام وفلسطين تميل بشرتهم إلى البياض أكثر من سكان الجزيرة العربية. وقد كان النبي محمد (ص) عربيا. وتأتي الفقرة التالية لتزوّدنا بعلامة أخرى للنبي الموعود إذ جاء فيها: "بنو أمي غضبوا عليّ، جعلوني ناطورة الكروم، أما كرْمي فلم أنطره." (1: 6) وهذا وصف صادق للقوم الذين ينتمي إليهم النبي الموعود. فعند مقدم الرسول (ص) كان العرب قوما يفتقدون الطموح القومي، وكانوا يعملون لحساب الفرس والرومان، ولكنهم ما كانوا يعملون شيئا من أجل بلادهم. ولما جاء الرسول (ص) استيقظ العرب من سباتهم، وقامت حركة بقيادة العرب، شملت كل زاوية من جوانب التقدم الإنساني، سواء كان روحيا أو فكريا أو سياسيا. ولم يصِر العرب نواطير (أي رعاة) كرْمهم (بلادهم) فحسب، بل أصبحوا رعاة كروم العالم كله. كما يحتوي سفر نشيد الأنشاد تحذيرا لبني إسرائيل، ألا يتدخلوا في شؤون النبي الموعود ولا يعرقلوا جهوده. إذ نقرأ في 2: 7 ما يلي: "أحلّفكن يا بنات أورشليم بالظّباء وبأيائل الحقول ألا تُيَقّظن ولا تنبّهن الحبيب حتى يشاء". ويستمر هذا التحذير في سفر نشيد الأنشاد، ويتكرر في 3: 5 ثم يُتابع في 8: 4، وهو يعني شيئا واحدا، إذ يشير إلى أن سليمان (ع) يحذر اليهود والنصارى، باعتبارهم فرعين لإسرائيل، أنهم سوف يعارضون ويضايقون النبي الموعود؛ ولكن لما كان ذلك النبي مبعوثا من لدن الله تعالى، فإنهم لن ينجحوا في معارضتهم، وإنما سيخيب مسعاهم ويلاقون هزيمة مخزية، ولذلك يحذّر سليمان قومه فيحلّفهم ألا يوقظوا أو ينبّهوا الحبيب حتى يشاء. أي أنه ينصح كلا من اليهود والنصارى ألا يفعلوا شيئا يؤذي النبي الموعود، وعليهم أن يقبلوه عندما يمتد نفوذه إلى بلادهم. فلا جدوى من معارضته، ومحاولة إيقاف مدّ دعوته ورسالته ستعود على المعارضين بالخسران والخراب. فإن من يقف عائقا في طريق مهمة الأنبياء يجعل من نفسه محط غضب الله تعالى وعقابه. وقد تحقق هذا التحذير، حيث جلب كل من اليهود والنصارى على أنفسهم العقاب الإلهي بعد أن عارضوه. ولو أن الناس اتخذوا موقفا حياديا تجاه النبي ولم يبادروه بالعنف، فلم يكن ليتخذ إزاءهم أية خطوات عدوانية، وإنما كان سيقتصر على الدعوة والإرشاد. لكنه كان يضطر أحيانا إلى أن يستل سيفه لمواجهة أولئك الذين استلوا سيوفهم ضدّه. فهو لا يحارب إلا من اعتدى عليه وبدأه بالحرب، وأراد أن يتصدّى بالقوة للقضاء على الرسالة التي أنزلها الله تعالى. ولا داعي للتذكير بأن هذه النبوءات لم تنطبق على السيد المسيح (ع). إذ أنه لم يظهر من جنوبفلسطين، ولا هو من بين إخوة بني إسرائيل، ولا كان له من وسائل المنعة ما يمكنّه من القضاء على مقاومة أعدائه من بني إسرائيل. لذلك فإنها لا تنطبق إلا على نبي الإسلام محمد (ص)، فهو المحبوب الذي ذكره سليمان في نشيد الأنشاد، والأناشيد كلها ليست سوى ذكر شعري لأوصاف الرسول (ص)..يتبع *باحث في اختلاف المذاهب الإسلامية [email protected]