إلى كل محب للمرحوم محمد عابد الجابري إلى كل عاشق للفكر النسقي الأصيل قبل البدء، غيرُ سهلٍ تتبع كتاب من 640 صفحة من الحجم المتوسط والخط الصغير في زمن حصار الوسائط المتعددة وغواية الثقافة البصرية، وغير يسير تعمق قضاياه في زمن الشذرات والملخصات والأفكار المتناثرة المدثرة بالفراغ... غير أن عمق الكتاب وأصالة آلياته التحليلية وقوة لغته وسلاستها سرعان ما تنتشل القارئ نحو حدائقها المعلقة، وتحتضنه بين عوالمها المسيجة بالوضوح المنهجي والدقة المفهومية. وفي الأحوال كلها فمقاربة سؤال الأخلاق من خلال مشاريع فكرية مؤسِّسة مثل مشروع المرحوم محمد عابد الجابري لن نجيب عنه ونحن قابعون في ذواتنا، نمارس ترفنا الفكري في أقبية الصالونات الثقافية، وعلى أرصفة مواقع التواصل الاجتماعي. ولذلك تأتي هذه القراءة في كتاب "العقل الأخلاقي العربي" للمرحوم محمد عابد الجابري، من أجل الاقتراب من العوالم الفكرية للراحل، وذلك سعيا إلى تجاوز الاغتراب الثقافي والتصحر المعرفي والنأي المنهجي الذي نجد أنفسنا نرفل فيه يوما بعد يوم. وبعد، فالأستاذ محمد عابد الجابري يكتب، كما عهدناه، بنهج علمي واضح، وذهن منهجي صارم، تاريخا للفكر الأخلاقي العربي بعيدا عن العاطفية أو التحامل، قريبا من التحليل العلمي والتساؤل الدينامي والمقاربة الشاملة. حيث يعمل على تنسيق المؤلفات الأخلاقية المختلفة ضمن مشاريع وأنساق علمية؛ فيعيد الشارد القاصي إلى سياقه، ويخرج المتسلل الدخيل حين لا يستجيب لأفق المشروع الذي أدرج ضمنه. ينسب الكتب إلى أصحابها ويعرض مضامينها بسلاسة ويسر يشبع نهم المتخصص ويضيء سبيل الآخذ بأطراف المعارف. يبرز مظاهر القوة والتماسك في بعض الأعمال الفكرية، ولا يتردد في كشف مواطن الخلل والتفكك في أعمال أخرى؛ فنراه محتفيا بمشروع ابن الهيثم، منتشيا بالخطاب السياسي الجريء لابن رشد، مسرورا بمشروع العز بن عبد السلام؛ وهو يتحدث عن حق الإنسان وحق الحيوان. كما لا يجد غضاضة في وصف خطاب أبي الحسن العامري بالتفكك والخلو من التأثير والتحليل والتركيب، ومشروع الراغب الأصفهاني بالافتقار إلى المنهجية العلمية، وكتاب "إحياء علوم الدين" بأن فيه انحرافا على طول الخط. وهو في كل ذلك متخلص من الكتابات الأخلاقية قبله، متحرر من الأحكام القبلية، لا يؤمن بغير ما تمليه عليه النتائج العلمية التي يتوصل إليها. في رحاب "العقل الأخلاقي العربي"، "العقل الأخلاقي العربي" هو الجزء الرابع والأخير من مشروع نقد العقل العربي، يواجه به صاحبه أرضا بوارا تكاد تخلو من دراسات جادة وشاملة لنظم القيم في الثقافة العربية وفي تاريخ الفكر الأخلاقي العربي، ويسلم فيه الجميع ب"اليأس المريح"، معتقدين أن العرب لم ينتجوا فكرا أخلاقيا. ثم يصرح المؤلف بأنه ينتهج في كتابته لتاريخ الفكر الأخلاقي العربي التحليل التاريخي والمعالجة البنيوية والطرح الإيديولوجي مع ممارسة هذه الخطوات بصفة تركيبية، من خلال قسمين كبيرين: أولهما في المسألة الأخلاقية في التراث العربي وثانيهما في نظم القيم في الثقافة العربية. وهو في ذلك متحرر من هاجس الرد على الغربيين وهاجس اكتشاف قيم عصرنا في حضارة أسلافنا، مع سكون مستمر بالهوية العربية الإسلامية، ليحدد بعد ذلك نظام القيم في أنه "معايير للسلوك الاجتماعي والتدبير السياسي ومحددات لرؤية العالم واستشراف المطلق". ويحدد البحث مجال تحركه في حقل الثقافة العالمة من بداية عصر التدوين في القرن الثاني الهجري إلى حدود القرن الثامن الهجري. حيث "أزمة القيم" التي عرفتها "دولة المدينة" و"مجتمع الصحابة" بعد "مقتل عثمان" فيما عرف "بالفتنة الكبرى"، والاختلافات الفكرية والسياسية التي ظهرت عقب هذه الأزمة. وكان الكلام في "الحرية والمسؤولية" من أبرز مظاهر هذه الاختلافات وخصوصا في علاقتها بمسؤولية الحاكم في العصر الأموي ورفعه إلى المستوى الإلهي؛ بين الأمويين والحسن البصري من جهة، وبين "أهل السنة" والمعتزلة من جهة أخرى. حيث يسجل الكاتب بأسف انصراف "علم الكلام" والمعتزلة خصوصا عن البحث في "مجال الأخلاق" إلى البحث في "صفات الله"، مما يطرح سؤال أساس الأخلاق: العقل أم النقل؟ ومن الناحية المبدئية فمصدر الحكم الأخلاقي ليس الدين وحده بل العقل أساسا. وهذه العناية بالعقل في الموروثات (العربي، الفارسي، اليوناني، الصوفي، الإسلامي) تدفع إلى التساؤل عن سبب غياب فلسفة الأخلاق أو علم الأخلاق أو الضمير الأخلاقي في الثقافة العربية، رغم كثرة العلوم العقلية فيها. 1/ الموروث الفارسي أو أخلاق الطاعة يعرض المؤلف في القسم الثاني والأهم من هذا الكتاب لنظم القيم في الثقافة العربية، أصولها وفصولها. فبدأ بالحديث عن الموروث الفارسي أو ما يسميه بأخلاق الطاعة، ليطرح أسئلة أساسية من قبيل: كيف أخذت قيم الموروث الفارسي في الانتقال إلى الثقافة العربية؟ وكيف حدث أن شهد العصر الأموي بداية التأليف في الأخلاق من داخل الموروث الفارسي الذي كان عربيا خالصا؟ الجواب عن متى، هو في أواخر العصر الأموي، أما كيف، فالدولة الأموية بدأت في أوج قوتها بالجبر و"العصا لمن عصا"، وعندما ضعفت وجدت في أقلام كتابها بديلا يقوم مقام السيف بواسطة "أخلاق الطاعة". بينما العباسيون بدؤوا من حيث انتهى خطاب أسلافهم أي "الموروث الفارسي معززا بمفاهيم الخطاب الديني"، من أجل تبرير قيمهم وإثبات شرعيتهم وضمان استمراريتهم. حيث قامت دولتهم على سياسة مزج الدين بالملك مما يعود أساسا إلى الموروث الفارسي، وخصوصا ما خلفه الملكان أردشير الأول وكسرى أنو شروان، مما كرس بقوة القيم الكسروية في الثقافة العربية. ويرى المؤلف في ابن المقفع أكبر مروج لهذه القيم الكسروية وإيديولوجيا الطاعة في الثقافة العربية الإسلامية، ويشاركه في هذا المشروع عبد الحميد الكاتب. ومع مطلع القرن الثالث الهجري صارت الساحة الثقافة العربية سوقا للقيم الكسروية، ومن أبرز المشاركين في سوق القيم هذه: ابن قتيبة، ابن عبد ربه، الأبشيهي، القلقشندي.. وهم من أكبر المروجين لأخلاق الطاعة، حين جعلوا عدوى القيم الكسروية رائجة في كل جانب، لا يسلم منها أي متعلم. لقد كانت الساحة الثقافية العربية مجالا للصراع بين نظام القيم الكسروي وغيره، كما وقع التنافس في توظيف هذه القيم الكسروية ذاتها، فوظفها الأمويون كما وظفها معارضوهم، بغلوهم "في الأئمة" والارتفاع بزعمائهم الدينيين إلى منزلة النبوة والألوهية. وخلاصة القول في هذا العنصر إن القيم الكسروية في الموروث الفارسي قد سعت إلى ترسيخ أخلاق الطاعة، حتى تصبح طاعة كسرى وطاعة الله من الأمور التي لا نقاش فيها، خصوصا في مرحلة ضعف الدولة الأموية وبداية الدولة العباسية. 2/ الموروث اليوناني أو أخلاق السعادة ينطلق الكاتب في هذا الباب من البحث في الأصول، حيث الأخلاق عند اليونان ارتبطت ببناء تصور للكون وليس بتشييد الإمبراطورية كما هو عند الفرس، كما أن الدولة عندهم مدنية تنسب إلى "المواطن" وهو الأصل فيها. حيث يمكن التمييز في الفكر الأخلاقي ذي الأصول اليونانية بين ثلاث نزعات: النزعة الطبية العلمية (جالينوس)، والنزعة الفلسفية (أفلاطون وأرسطو)، والنزعة التلفيقية. وفي الاتجاه الأول يمكن، عربيا، إدراج أبي يوسف الكندي وأبي بكر الرازي وثابت بن سنان، وابن الهيثم وابن حزم الأندلسي. وكانت القيمة الوحيدة في هذه النزعة هي الفرد والإنسان ف"النزعة الطبية في الأخلاق نزعة إنسانية، وطب الأخلاق ضروري فعلا للتخلص من القيم الكسروية وإحلال القيم الإنسانية مكانها". وضمن الاتجاه الثاني (النزعة الفلسفية) يدرج أبا نصر الفارابي وابن باجة وابن رشد، حيث يلاحظ أن القيم الكسروية بدأت تغزو المدينة الفاضلة عند الفارابي، وأن المدينة الفاضلة ممكنة وتبدأ من تدبير الفرد عند ابن باجة وابن رشد. بينما يدرج ضمن الاتجاه الثالث (النزعة التلفيقية) صنفا من المثقفين بعقل لا نسقي وثقافة عامة متنوعة سماهم "جماعة المقابسات"، مثل العامري ومسكويه والتوحيدي. وتتجلى خطورة هذا التوجه في كون أصحابه يعرضون القيم المتضادة في سياق واحد مما يتجلى أساسا في تبنيهم لأخلاق السعادة على صعيد الخطاب ووقوعهم تحت هيمنة القيم الكسروية على صعيد النموذج المهيمن على العقل العارض لذلك الخطاب. 3/ الموروث الصوفي: من أخلاق الفناء إلى فناء الأخلاق لا شك أن فكرة الفناء التي ينبني عليها الموروث الصوفي لا تستقيم مع عقيدة التوحيد وأخلاق القرآن والسنة، فهي من الأمور الواردة مع الموروث الفارسي واليوناني. حيث تكونت حركات معارضة للأمويين اتخذت من أخلاق الفناء سلاحا ضد "دولة العرب"، ويتوصل الكاتب من خلال أدلة مختلفة إلى أن "التشيع" و"التصوف" وظفا بقوة من طرف الفرس للقضاء على "دولة العرب". وقد ساعد على انتشار هذه الأخلاق الأزمة الداخلية المتجلية في أزمة القيم وأزمة الضمير الديني، مركزا في الكشف عن مكونات هذا الموروث على "آداب الصحبة" من زاوية الطاعة، طاعة المريد للشيخ ومن زاوية السلطة سلطة الشيخ على المريدين، ثم على الولاية/ الإمامة العظمى عند الصوفية المؤسسة على الولاية/ الإمامة عند الشيعة، حيث يبشر المتصوفة بالقيم الكسروية التي تبنتها الشيعة. وتؤول أخلاق الفناء إلى نتيجة كارثية حيث فناء الأخلاق، وأخلاق اللاعمل والتوكل وترك التدبير، مما يؤدي بالضرورة إلى فناء الأمم. 4/ الموروث العربي الخالص أو أخلاق المروءة ويجد هذا الموروث مصادره في "أدب اللسان" و"أدب النفس"، حيث الأهمية اللغوية والأخلاقية للأشعار والخطب التي تحمل قيما، بالإضافة إلى رجال ونساء مشخصين للقيم بلغوا بها مضرب المثل (حاتم، الأحنف بن قيس...)، وقد احتلت المروءة مكانة كبيرة في الثقافة العربية. حيث يقف الكاتب طويلا عند قيمة المروءة باعتبارها القيمة المركزية في الموروث العربي الخالص، تجمع كل الخصال المحمودة الأخرى كالكرم الفتوة وغيرها، مما يجعلها مفهوما قوميا عربيا وجزءا من الهوية العربية. 5/ الموروث الإسلامي أو البحث عن أخلاق إسلامية القرآن الكريم كتاب أخلاق والسنة النبوية دعت إلى مكارم الأخلاق، غير أن التأليف في الأخلاق في الموروث الإسلامي تأخر بالمقارنة مع الموروثات الأخرى. ويمكن في هذا الموروث العودة إلى الحارث بن أسد الحاسبي الذي كان صاحب مشروع رائد في تشييد أخلاق الدين، التي هي عنده أخلاق الاستعداد للآخرة المعتمدة على القرآن. ولذلك فليس من الصواب في نظر المؤلف تصنيفه مع المتصوفة، ولا تمييزه بوصف السني، مرجعيته الواحدة والوحيدة هي القرآن. وإذا كان المحاسبي قد قصر حديثه عن "أدب الدين" في مشروع إنشاء أخلاق إسلامية فإن الماوردي يميز بين أخلاق شرع لها العقل، مشتركة بين جميع الأمم، وتشكل "أدب الدنيا"، وأخلاق خاصة قررها الدين وتشكل "أدب الدين"، وهما متداخلان متكاملان. وأقرب مشروع إلى مشروع الماوردي هو مشروع معاصره الراغب الأصفهاني، الذي راهن على إضفاء الطابع الإسلامي على علم الأخلاق اليوناني موظفا نصوصا قرآنية وحديثية، وإن كان يفتقر إلى المنهجية العلمية لمثل هذا المشروع، مما سيسعى إلى تحقيقه أبو حامد الغزالي. لقد دشن الغزالي في "إحياء علوم الدين" نهاية الفلسفة في المشرق وحلول التصوف محلها. وانتهى المؤلف من خلال دراسته للإحياء من زوايا مختلفة إلى نتيجة مرعبة مفادها أن الكتاب هو بمثابة "إعلان بموت الاختلاف وسد باب الاجتهاد... من هذه الناحية يجب النظر إليه كعنصر من أشد العناصر تخديرا في نظام القيم في الثقافة العربية". وإذا كانت قاعدة الموروث الأخلاقي الإسلامي هي القرآن، فإن القيمة المركزية فيه هي العمل الصالح. ويتأسف المؤلف أسفا شديدا على أن ما ألف في الأخلاق في الثقافة العربية الإسلامية، يروج على نطاق واسع لقيم تكرس الاستبداد والاتكالية والانعزالية مما ينتمي إلى مرجعيات غير عربية وغير إسلامية. وفي المقابل يحس بسرور كبير وهو يكتشف عالما أدرك منزلة "العمل الصالح" في نظام القيم الذي أقره القرآن، وقدم البديل الإسلامي الحقيقي؛ إنه العز بن عبد السلام، الذي اعتبر غاية الأخلاق العمل الصالح أو جلب المصالح ودرء المفاسد. وفي الختام، فإن المهمة الأساسية لهذا الكتاب هي كتابة تاريخ للفكر الأخلاقي العربي الإسلامي بعرض أنظمة القيم التي عرفها هذا الفكر، حيث التعدد والغنى. غير أنه تعدد يفتقر إلى النظام والنسقية، ما يدل على عدم وجود حركة إصلاحية جذرية عند العرب، بعد تهميش محاولة ابن الهيثم، وإعدام الخطاب السياسي عند ابن رشد، وإهمال مشروع الفقيه المناضل العز بن عبد السلام. "والحق – يقول الكاتب- أن الضمير الديني في الإسلام الذي هو أصلا متحرر من وزر الخطيئة الأصلية خطيئة آدم، قد حمل نفسه وزرا آخر هو وزر الفتنة الكبرى... لم ينهض العرب والمسلمون بعد، ولا إيران، ولا غيرها من بلاد الإسلام، النهضة المطلوبة، والسبب عندي – يضيف المؤلف- أنهم لم يدفنوا بعد في أنفسهم أباهم أردشير..." أردشير الذي يمثل أخلاق الطاعة في الموروث الفارسي، هذا الموروث كان له دور كبير في تكوين نظام القيم في الثقافة العربية الإسلامية. مما يجعل "العقل الأخلاقي العربي" دعوة مفتوحة لتجاوز "وزر الفتنة الكبرى"، وقراءة عميقة للفكر الأخلاقي العربي، ما أحوج المجتمع العربي إلى وعي أفكاره ومضامينه، والإطلالة من خلاله على تاريخ غني في حاجة ماسة ومستمرة إلى التعزيز والنقد لبناء مستقبل الفكر والثقافة و"اليأس المنتج".... *جامعة الحسن الأول [email protected]