كان لي صديق يدرس معي بثانوية عبد الكريم الخطابي بالرباط، فكلما وقع بصره على تصرف من امرئ مخل بالأخلاق أو مناف للعقل إلا وقال: البلادة أنواع وهذا من نوعها. فأبادره بالقول: إذن مراتب البلادة عندك لا متناهية، لا تحدها حدود، ولا تحصرها قيود. والبلادة ضد الذكاء والفطنة، كما هي أيضا ضد الحزم، وذلك نابع من جمود الإحساس وتبلده، نتيجة تأثير الجهل فيه. ووصف الحمار بالبلادة لأنه عار عن الذكاء، ولأنه لا ينشطه تحريك من دون ضرب. وبعض الناس، كما هو الشأن في بعض الأنظمة العربية، إن لم يكن معظمها، لقساوة قلوبهم وجمود أحاسيسهم، وانعدام تفكيرهم، أبلد من الحمار، وقد يكون الحمار معذورا لكونه مجبولا على البلادة، ولتصرفه وفق غرائزه. لكن مع الأسف الشديد أن بعض الأنظمة العربية الدكتاتورية فاقت الحمر في البلادة، حتى غدت لا تبالي بمن حولها من الشعوب، ولا تنظر إليهم سوى قطعان من العبيد سخرت لخدمتهم، وتقديم قرابين الطاعة والولاء لهم. فهم من سكرات البلادة يعتقدون أن ما كان سيظل على ما كان، ومن أوهام الجهل المغروز فيهم يظنون أن ليس هناك ظاهرة "الانتشار الثوراتي" كما هي ظاهرة "الانحباس الحراري" فهذه تذيب الجليد وتنبئ باختفاء جزر بكاملها، والأولى أذابت أنظمة دكتاتورية بكاملها، ولا تزال حرارتها تلوح بالمزيد، نبأ بذلك علماء وخبراء الثورة منذ أمد بعيد، فلا ينفع مع ذلك "تخريج اللطيف" سوى التمسك بكتاب الله المجيد، وإعطاء الحقوق للشعب العتيد، لبناء غد جديد. من هنا نود أن نسطر كليات أساسية، إذا وجدت بالأنظمة العربية، واستفحل أمرها، واشتد عودها، فاعتاص اقتلاعه، فإنها تدل بلا منازع عن سقوط شرعية هذه الأنظمة سواء سقطت فعلا أو حكما. من هذه الكليات: * كل نظام لا يعترف بالإسلام دينا، أو يحاربه، أو يضيق على علمائه ودعاته، فهو ساقط الشرعية. * كل نظام يسفك الدماء، ويشرد الأبرياء، ويعتقل الشرفاء، فهو ساقط الشرعية. * كل نظام يهتك الحرمات، ويغتصب النساء، وييتم الأطفال وينكل بهم، فهو ساقط الشرعية. * كل نظام يبذر الأموال، ويبدد الثروات، ويفسد قلوب وعقول العباد، فهو ساقط الشرعية. * كل نظام يخنق الحرية، ويدوس الكرامة، ويكمم الأفواه، ويخرس الألسنة، فهو ساقط الشرعية. * كل نظام لا يؤمن بالتعددية الحزبية، ولا بالنزاهة الانتخابية، ولا بالعدالة الاجتماعية، فهو ساقط الشرعية. * كل نظام لا يؤمن باستقلالية القضاء، ولا بنزاهة المحاكمات، فهو ساقط الشرعية. * كل نظام لا يؤمن بمحاسبة المسؤولين، ولا بنصيحة الشعب للحاكمين، فهو ساقط الشرعية. لأنه لا يوجد أحد في الدولة الإسلامية فوق المحاسبة، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم المسدد بالوحي، والمعصوم من جميع الذنوب صغيرها وكبيرها، يعاتب من قبل رب العزة جل جلاله، عن بعض القضايا التي هي من ضرب مخالفة ما هو أولى، وإذا كان عليه السلام يسدده أصحابه الكرام فيما هو متعلق بأمور الدنيا كتأبير النخل، والنزول بماء بدر وغير ذلك، فإنه لا شك أن من دونه واجب في حقه قبول المحاسبة والمعاتبة والنقد البناء، ولا سيما من المجالس النيابية التي تمثل الأمة، دون الإغراق في المشاكسات والخلافات والنزاعات الشخصية، فالبناء أساس التقدم، وأولى من الهدم، بل قد يكون صاحب النقد الهدام، والمحاسبة غير الشريفة، ولا المعقولة آثما، إذا نجم عنها إضرار بالمصالح العامة، أو ترتبت عنها مفاسد أخلت بنظام الدولة، فأفضى إلى الفوضى وعدم الاستقرار. أما المحاسبة النزيهة والشريفة، البعيدة عن حظوظ النفس ونزواتها وغوائلها، فإنه لا ريب في أنها تشد من بنيان الدولة، ودعامة أساسية لاستقرارها ونهوضها. والدولة التي لا تؤمن بالمحاسبة لا يوثق بها. "أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ." ** كل نظام يطبع أو يعترف بإسرائيل، ويفرط في فلسطين، ويتبرأ من المجاهدين، أو يكون عونا للمغتصبين، فهو ساقط الشرعية. ** كل نظام لا يؤمن بالإصلاح، ويدعم كل أشكال الفساد، فهو ساقط الشرعية. وهذه تمام العشرة من الكليات الأساسية المبتكرة على غرار الكليات الشرعية، الدال وجودها على سقوط شرعية الأنظمة العربية الدكتاتورية، التي تبرأت منها شعوب الأمة الإسلامية، والله المستعان.