دخلت السينما المغرب نهاية القرن التاسع عشر بُعيد اختراعها بقليل، إذ شهدت البلاد أول تصوير سينمائي سنة 1897، ودخلت أولى آلات العرض السينمائي القصر السلطاني على عهد الملك مولاي عبد العزيز في الفترة ذاتها، ونظم أول عرض للعموم بمقابل بمدينة طنجة خلال العام 1905، وشهدت مدينة فاس ميلاد أول قاعة سينمائية في حدود العام 1912، ثم توفر للمغرب أول تنظيم تشريعي للقطاع في 22 أبريل 1916. مع الحماية ثبتت السينما أقدامها بالمغرب كشكل فرجوي جديد، فتن المغاربة كما فتن كل الشعوب التي اكتشفت الاختراع الجديد قبلهم. وعاشت السينما بالمغرب كل مراحل تطورها، ابتداء من البدايات مرورا بقمة الألق، ثم مرحلة الاستقرار، فالانحسار والركود. شكل المعمرون الأجانب في البداية النواة الصلبة لمستهلكي السينما، ثم بدأ المغاربة يأخذون حصتهم نتيجة استثمار المعمرين واليهود المغاربة في افتتاح صالات العرض في الأحياء الشعبية، لتتشكل الاتجاهات الكبرى في المشاهدة، والتي أفرزت ثلاث كتل رئيسية: 1- جمهور النجاحات الأمريكية الضخمة، وبعض تجارب السينما الأوربية، وتشكل من الأوربيين والفئة المتعلمة من المغاربة أو المتأثرة منهم بالثقافة الغربية. وكان ينضم إلى هذه الفئة من حين إلى آخر جزء من الطبقات الشعبية، لاسيما عندما كانت تعرض أفلام الحركة. 2- جمهور الإنتاج المصري، وكان مغربيا خالصا ومشكلا من ذوي الثقافة العربية، ومن الطبقات الشعبية والنساء. وساهمت السينما الاستعراضية في تشكل هذا الجمهور الذي اجتذبته أفلام محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وفريد الأطرش وليلى مراد ومحمد فوزي وعبد الحليم حافظ، ثم تماهى مع الميلودراما والأفلام الرومانسية، لكنه كان يواجه فترات عطالة في المشاهدة حين تكون العلاقات المغربية المصرية على غير ما يرام؛ ومن ذلك التوقف الذي عرفه عرض الأفلام المصرية بالمغرب في فترة الستينيات، نتيجة تداعيات الانحياز المصري إلى الجزائر في حرب الرمال. 3- جمهور الإنتاج الأسيوي؛ وتشكل من الطبقات الشعبية، ومن محدودي الثقافة، وضم هواة أفلام الكارتيه والكونغ فو التي كانت تنتج في هونغ كونغ؛ ثم جمهور الميلودراما والأفلام الاستعراضية الهندية المنتجة في استوديوهات بووليود في مومباي. وتشترك هذه العينة من الجمهور مع جمهور الإنتاج المصري في ولعها بالرقص والغناء، لكنها تشترك أيضا مع جمهور النجاحات الأمريكية في شغفها بأفلام الحركة. وكان بالإمكان أن نتحدث عن جمهور للإنتاج الوطني المغربي، لكنه حين ابتدأت الأفلام المغربية تأخذ حصتها من العرض بكثافة ابتداء من أواسط تسعينيات القرن الماضي بدأ ارتياد القاعات السينمائية في الأفول. زمنيا، عرفت السينما في المغرب عصرها الذهبي– كما في باقي دول العالم - في الأربعينيات والخمسينيات، إذ وصلت درجة ارتياد القاعات السينمائية أرقاما قياسية. يكفي فقط أن نسجل على سبيل المقارنة أن الرقم القياسي لولوج السينما في فرنسا سجل في العام 1938 ب453 مليون تذكرة. وفي المغرب بدأت درجة الارتياد تتراجع ابتداء من عقد الستينات نتيجة متغير هام هو بداية الإرسال التلفزي في 03 مارس 1962؛ فالتلفزة أنهت احتكار السينما صفة الوسيط المرئي الوحيد، بل نافستها بعرض أفلامها، وتفوقت عليها في احتواء أشكال تعبيرية لا تطرقها، كالمسرحيات والمسلسلات والأغاني والمنوعات والمسابقات وغيرها، ما نتج عنه استنكاف كثير من عشاق السينما عن مغادرة بيوتهم للتوجه إلى صالات العرض. في السبعينيات والثمانينيات سيكرس الفيديو أزمة السينما، التي ستزداد في التسعينيات مع وصول الصحون المقعرة والبث الفضائي. ظهرت حدة الأزمة على عدة مستويات، منها تراجع مبيعات التذاكر التي انتقلت من 49 مليون سنة 1982 إلى ما يقارب مليوني تذكرة عام 2015. وانتقلت حظيرة القاعات السينمائية الوطنية من 238 قاعة سنة 1984 إلى 31 قاعة نشيطة سنة 2014، معظمها يتواجد بمحور طنجةمراكش. لكن هل يختزل تراجع أعداد القاعات السينمائية النشيطة بالمغرب أزمة السينما؟ وهل للإغلاق المتوالي الذي طال القاعات المظلمة تأثيره على استهلاك السينما؟ ينبغي التأكيد أن تراجع درجة ارتياد القاعات السينمائية بالمغرب لا يرجع فقط إلى توفر بدائل المشاهدة في الوسائط المرئية الأخرى، وإنما يعود في جانب كبير إلى تدهور القاعات السينمائية وتراجع ظروف المشاهدة..في الماضي البعيد كان الولوج إلى بعض القاعات السينمائية الراقية نخبويا، وكنت تشاهد في الطابور الأجانب والطبقة المثقفة والأنتليجنسيا المغربية بالسموكينغ ورابطات العنق وفساتين السهرة؛ وكانت هذه الأجواء تضفي هيبة ووقارا على المكان. بعدها تغيرت ظروف المشاهدة لأسباب سوسيو اقتصادية، وأصبح الهرج والمرج والعويل والكلام البذيء هو ما يطبع الأجواء، فآثر كثير من عشاق السينما وعموم المشاهدين الابتعاد. والدليل على هذه الحقيقة أن بعض القاعات التي غيرت جلدها ورقمنت بثها ورفعت أسعار تذاكرها، استطاعت أن تُعيد جزءا كبيرا من جمهورها القديم. ولن نذهب بعيدا، فلنا في المركبات السينمائية الحديثة Les multiplexes أسوة، إذ رغم ارتفاع أثمان تذاكرها قياسا بالقدرة الشرائية لعموم المواطنين، استطاعت أن تنمي جمهورا خاصا يفوق في أعداده الجمهور الذي يتردد على القاعات الشعبية التقليدية قاطبة. قد يقول قائل إن هذه المركبات استفادت من تطور تكنولوجيا العرض ومن حيز قاعاتها الملائم لدرجة الإقبال الحالي على السينما، ومن البث المكثف للوصلات الإشهارية، للبقاء والتنافس، لكن كل ذلك لا يلغي أن الظاهرة أبرزت تأثير ظروف العرض على درجة ارتياد القاعات السينمائية. وما يزكي نجاح هذه التجربة هو التوسع المضطرد للنطاق الجغرافي للمركبات السينمائية، التي ابتدأت بالدار البيضاء، وانتقلت إلى مراكشوفاس ثم طنجة، وستستقر لاحقا بأكادير والرباط ومدن أخرى، مزكية بما لا يدع مجالا للشك مصالحة الجمهور المغربي مع القاعات السينمائية. ومن المظاهر التي تزكي انفصال أزمة القاعات السينمائية عن مؤشرات استهلاك السينما، ظاهرة أخرى برزت في الألفية الجديدة، وهي ظهور أقراص DVD عالية الجودة، التي ساهمت في الرفع من منسوب المشاهدة بأرقام قياسية، ما تجلى من مؤشرات التسويق وحجم الأقراص المباعة والمحجوزة في إطار الحملات التي تقوم بها السلطات المختصة على حد السواء. وبغض النظر عن التقييم الأخلاقي للظاهرة من حيث استنادها إلى معضلة مضرة بالسينما ذاتها، وهي القرصنة، فإنها أبرزت تعطش الجمهور المغربي للمشاهدة السينمائية، وحملت حنينا من جانبه للعصر الذهبي للسينما، من حيث أن الجزء الكبير من الأعمال التي لقيت إقبالا ملحوظا كانت الأعمال الكلاسيكية القديمة، التي أعاد الجمهور اكتشافها وهي معالجة بدقة عالية من جانب الصوت والصورة. ويُفضي التسليم بتمسك أجيال محددة بالمشاهدة السينمائية، مهما اختلفت الدعائم التقنية، إلى تساؤل مشروع حول ما إذا كانت السينما لازالت تنتزع لها معجبين من الأجيال الجديدة؟ إن المحزن حقا بالنسبة للسينما وللأجيال الجديدة من المشاهدين المحتملين على حد سواء أن جزءا كبيرا من المشاهدين اليافعين في كثير من بقاع العالم لم يلجوا قط قاعة مظلمة، وفي أفضل الحالات شاهد بعضهم أفلام على التلفاز أو على شاشات حواسيبهم ولوحاتهم الرقمية، وافتقدوا بالتالي أهم خاصية كانت تقوي التعلق بالسينما، وهي جمالية التلقي في القاعات المظلمة وحميمية المشاهدة ومشاطرة اللحظة مع الآخرين، دون أن نتحدث عن المزايا التقنية من حيث جودة الصوت وأبعاد الصورة. أبرزت كل الدراسات التي أجريت في البلدان الرائدة في استهلاك السينما عبر العالم في السنوات العشر الأخيرة شيخوخة جمهور القاعات السينمائية، وتراجع منسوب الشباب ضمنهم، وهو ما لا يستعصي بأي حال على الفهم والتفسير؛ فالعالم يعيش عصر الإنترنيت والفورة الرقمية والتفاعل الآني والمستمر عبر مواقع التواصل الاجتماعي؛ ومن الطبيعي أن يتراجع الاهتمام بالسينما في خضم كل ذلك. والمقلق حقا أن السينما أصبح يصعب عليها أكثر من أي وقت مضى اقتناص قاعدة عريضة من ضمن جمهورها المحتمل من اليافعين، فالأجيال الجديدة لم تعد تملك الصبر والأناة للجلوس لمدة قد تصل إلى ساعتين أو يزيد لمتابعة فيلم سينمائي، وهي التي وجهتها مواقع التواصل الاجتماعي إلى نوع من المشاهدة المرئية، هي مشاهدة المقاطع القصيرة les séquences ذات القدرة على إحداث التفاعل السريع دون الحاجة إلى صرف وقت أطول في المشاهدة والتتبع والتركيز. وربما تعيش السينما اليوم ما سبق أن عاشته الأغنية الطويلة الرصينة عندما اتجه صناع الأغنية إلى الأغاني القصيرة المعتمدة على الإيقاع السريع والمسندة بالموسيقى الآلية. ويبدي كثيرون اليوم تخوفا مشروعا بخصوص مستقبل الفن السابع؛ وما إذا كانت ستظل له قائمة في شكله الكلاسيكي المعهود. والأكيد أن ذات التخوف عُبر عنه عند ظهور التلفاز، ثم كرر مع ظهور الفيديو، وعاد أكثر إلحاحا مع البث التلفزي الفضائي، وهو اليوم يكرر بحدة مع الإنترنيت. وفي كل مرة كانت السينما تخرج من التحدي الجديد مثخنة ببعض الجراح، لكنها كانت تقاوم من أجل البقاء. إن التشخيص ليس مطلوبا لذاته، وإنما لطرح بدائل الخروج من الأزم. وفي عمق هذا الخضم نرى أن أولى التدابير التي تأتي على رأس الأولويات تبقى رد الاعتبار للمشاهدة السينمائية من خلال: تفعيل الاحتفال باليوم الوطني للسينما. فهذا الموعد الذي يتم الاحتفال به كل سنة يجب أن يشكل مناسبة لتشجيع العودة إلى القاعات المظلمة عبر حملات إعلامية مكثفة ومبادرات، منها تخفيض أثمان التذاكر وتنظيم عروض متنقلة في المؤسسات التعليمية والجامعات والمصانع والمناطق النائية. والواقع أن هذا الموعد يمر كل سنة دون أن يدري كثير من المغاربة أن هنالك أصلا يوما وطنيا يحتفي بالسينما. بعدها نعتقد أن التربية على السينما تظل أساسية في هذا المجال، وينبغي أن تأتي في نطاق برنامج أشمل يروم التربية على الاستهلاك الثقافي بالمغرب عموما؛ من تشجيع للقراءة وتحفيز على التربية الموسيقية وتقريب للفنون الجميلة إلى الأذواق، والحض على ولوج المسارح وغيرها، وهي مبادرات من صميم اختصاص المدرسة ومن مجهود الأسر في الدول المتقدمة. ثم يأتي الجانب الاقتصادي، وهو إن كان مكلفا فهو حيوي للمحافظة على استمرار السينما ومختلف بنياتها بالمغرب، ويستلزم في اعتقادنا مجموعة من التدابير، نخص منها: إعادة تهيئة القاعات السينمائية. وهو مجهود لا يجب أن يقتصر فقط على رقمنة البث، وإنما ينبغي أن ينصرف إلى تجديد فضاءات المشاهدة كلية بما يحقق عودة الجمهور إلى فضاء جدير باستقباله. والمؤكد أن الكلفة مرتفعة، ويصعب تحميلها لمستغلي القاعات في ظل كساد القطاع، لذا يجب تخصيص مساعدات عمومية في إطار دفاتر للتحملات ومتابعة صارمة من الجهات المانحة. إذا كان لازما تشييد قاعات جديدة، فينبغي في اعتقادنا الابتعاد عن نماذج العصر الذهبي للسينما التي كانت تعتمد في بناء القاعات على المنشآت المعمارية الهرقلية الضخمة، والاتجاه إلى تشييد قاعات صغيرة بطاقات استيعابية متوسطة قابلة للاستعمالات المتعددة من استقبال المحاضرات وعروض المسرح والموسيقى والباليه وغيرها، بما يحقق مردودية إضافية كفيلة بالإبقاء على نشاط القاعة، بحيث لا تبقى أسيرة العرض السينمائي وتقلباته. ما يمكن تسجيله على حظيرة القاعات السينمائية بالمغرب هو تركزها في وسط مدننا الكبرى، التي تشهد تراجعا كبيرا للكثافة السكانية مقارنة بالأحياء المأهولة التي تقع في أطراف المدن، والأصوب في تقديرنا نقل القاعات المستحدثة إلى الأحياء الجديدة من أجل تقريب المشاهدة إلى الساكنة العريضة، عوض تركيز بنيات المشاهدة في الأحياء التاريخية التي شاخت وشاخ سكانها. أعجب حين أسمع كثيرا من السينمائيين المغاربة ينعتون أرباب القاعات السينمائية المغلقة بالجشع، في حين أني أعرف كثيرا منهم، وأعرف كم تمسكوا بإبقاء قاعاتهم مفتوحة، لكن العجز البين في الاستغلال جعلهم يقفلون القاعات مكرهين، وهم في كافة الأحوال ليسوا أنبياء مرسلين ولا ملائكة مؤيدين، وإنما تجار يتعاملون بمنطق الربح والخسارة. قد تكون المركبات السينمائية الكبرى عوضت كثيرا من المنشآت المغلقة بالمدن الكبرى، لكن يصعب بعث القاعات السينمائية بالمدن الصغرى والمتوسطة بمجهود القطاع الخاص وحده. ويتوجب على البلديات الاستثمار في إحداث قاعات سينمائية تابعة لها، ومسيرة من قبلها، وهي تجربة شائعة في كثير من بقع العالم، ساهمت في إيصال السينما إلى المداشر والمناطق النائية والأحياء الهامشية في كثير من الدول، بفضل جهود البلديات التي كانت تتحمل العجز لتشجيع الاستهلاك السينمائي والمساهمة في التنشيط الثقافي في نطاق حدودها الترابية. يتطلب الإبقاء على القاعات السينمائية مفتوحة التحفيز على استمرار الاستغلال عن طريق المساعدات المالية على إعادة التهيئة، مع إقرار نظام جبائي محفز. فلا يعقل أمام التراجع المهول للاستهلاك السينمائي معاملة المنتوج الثقافي بالمعاملة الجبائية نفسها التي تعامل بها السلع الاستهلاكية ذات الإقبال الواسع، والتي تباع كالفطائر الصغيرة بالشكولاته. يتحمل المركز السينمائي المغربي، باعتباره مؤسسة عمومية، مسؤولية كبرى في تحفيز ارتياد القاعات السينمائية، فلا يقبل منح ملايين الدراهم لعشرات المنتجين برسم التسبيق على المداخيل لإنتاج أفلام لن تجد مستقبلا دورا لعرضها، فيما يشبه ما حدث مصر في أواسط السبعينيات، وأسماه النقاد حينها بأفلام العلب، كناية على بقائها حبيسة علب البوبينات. حقيقة أن الفيلم المغربي أصبح مطلوبا في المهرجانات العالمية ويُعرض في القنوات التلفزيونية العمومية وبعض القنوات الفرنكوفونية التي تهتم بالسينما التجريبية، لكن كل ذلك يبقى غير كاف لتحقيق المردودية المنشودة من السينما باعتبارها صناعة. في الماضي كان الفيلم كيفما كانت جنسيته يأخذ سنتين أو ثلاثا ليدور على جميع دور العرض الوطنية، وقد يعود أكثر من مرة إلى الصالة نفسها؛ أما اليوم فإن الفيلم يُركن إلى الأرشيف بعد بضعة أسابيع من العرض نتيجة تقلص فرض العرض الناجمة عن تراجع حظيرة القاعات السينمائية. وتبرز مساهمة المؤسسة الرسمية في هذا المجال على عدة أصعدة، منها مساعدة القاعات السينمائية ماديا ومرافقتها في جهود إعادة الهيكلة والرقمنة والبرمجة، مع الحرص على اتخاذ التدابير الرامية إلى تحقيق هدفين رئيسيين كبيرين يلخصان طوق نجاة السينما بالمغرب، وهما توسيع حظيرة القاعات السينمائية والرفع من وتيرة ارتيادها. أظهر الواقع المشهود أننا قلما تعاملنا في المغرب مع السينما كفن، نتحسر على العصر الذهبي للأندية السينمائية التي خرَّجَت في ظل غياب المعاهد المختصة كثيرا من مهنيي السينما ونقادها وصحافييها، إلى جانب أجيال من السنيفيلين المغاربة. وينبغي إعادة الروح إلى هذه التجربة المتميزة من خلال إعادة تنشيط الجامعة الوطنية للأندية السينمائية بالمغرب، وبعث الأندية الراقدة وإنشاء أخرى جديدة. غير أنه يجب التفكير في إجراءات ضمان استمرارية هذه الأندية من خلال عدم الارتكان إلى واجبات الانخراط التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وتخصيص منح سنوية مجزية من طرف الجماعات الترابية يكون صرفها معلقا على برمجة سنوية محددة، مع وضع القاعات السينمائية وفضاءات العرض الأخرى رهن إشارة الأندية بالمجان، أما على صعيد البرمجة، فينبغي في اعتقادنا البحث عن الوسائل القانونية الكفيلة بالحصول على تراخيص العرض بالدعائم الجديدة، كأقراص DVD و Blu-rayوالابتعاد عن طرق العرض التقليدية التي لم تعد توفر إمكانية مشاهدة التحف السينمائية الكبيرة لسيادة منطق السوق لدى الموزعين. قد يقول قائل إن التجربة كلها لن تغري المشاهدين - كما في الماضي البعيد- مادامت بدائل المشاهدة متوفرة في كل مكان، ويرد على هذا الاعتراض بأن تجربة الأندية السينمائية حتى في عز مجدها لم تكن تتوخى رفع نسب المشاهدة، وإنما كان دورها بيداغوجيا يروم التربية على تذوق السينما وتفكيك آلياتها التواصلية. وما من شك أن من شأن بعث تجربة الأندية السينمائية بإمكانيات العصر المتطورة تشكيل الذوق السينمائي لأجيال قادمة من المشاهدين. وفي نطاق تنمية البعد الفني في استهلاك السينما بالمغرب، نأسف حقا لعدم تواجد قاعات سينمائية في المدن الكبرى، توسم في الغرب بقاعات الفن والسينما التجريبية، والتي تختص بعرض الأفلام التي لا تجد مكانها في دور العرض التجارية المحكومة بمنطق الشباك؛ وقد اكتشفت شخصيا بعضا منها في الحي اللاتيني بباريس، حيث تعجب كيف تعرض في الألفية الجديدة أفلام من الثلاثينيات لهيتشكوك بالأبيض والأسود أو حتى لمخرجين صوروا منذ مئة سنة، مثل غريفيت وإزنشتاين وغيرهما. إن التركيز على البعد الفني على هذا النحو ليس ترفا، بل أضحى ضرورة منهجية لتقريب السينما من أذواق الأجيال الجديدة، في وقت عصيب أصبحت فيه السينما تعاني منافسة شرسة من وسائل الاتصال الجديدة. مهمة تبدو في غاية الصعوبة في بلد فشل في تسويق السينما لساكنته رغم أنه يحتضن سنويا ما يربو عن 25 تظاهرة سينمائية، معظمها ببعد دولي. لا خلاف اليوم على أن أزمة السينما ظاهرة عالمية، مست حتى الأمم ذات التقاليد السينمائية العريقة في الإنتاج والاستهلاك، لكن التجربة المغربية تبقى متفردة في قسوتها؛ إذ في وقت انتعش الإنتاج الوطني بشكل غير مسبوق، نتيجة صندوق الدعم وتنامي الإنتاج المشترك والشراكات مع التلفزيون وغيرها، تقلصت فضاءات العرض بشكل مريع، وأصبحت القاعات السينمائية تتساقط تباعا كأوراق الخريف، مخلفة غصة في حلق عشاق السينما، تذكرنا بالدموع الحارقة لجاك بيران في فيلم Cinema Paradiso لجيسبي تورناتوري، وهو يتفرج على مشهد هدم صالة السينما التي شهدت ذكريات طفولته السينمائية. الفرق الوحيد أن السينما الجنة في الفيلم تحولت إلى موقف للسيارات سيكون التوقف به على الأقل وقوفا على الأطلال كما الشاعر الجاهلي وهو يقف على ديار المعشوقة المًغادرة، أما عندنا فإن القاعات المغلقة القليلة التي استفادت من استثناء الهدم وإعادة البناء تحولت بقدرة قادر إلى قيساريات تعرض السلع الصينية الرخيصة.