كثر القيل والقال في أيامنا هذه حول التعليم، لم أذكر التربية، لأنه أضحت غير مستهدفة في نظامنا التعليمي، في كل يوم كلام في التعليم، الناس كلهم صاروا يتحدثون في التعليم، وآخرهم شيخ _ في هسبريس_ صب جام غضبه على المضربين مؤخرا. وأغلب هذا الكلام سهام سامة موجهة لصدور المدرسين، باعتبارهم هادرين للزمن المدرسي، وهذا اللغط كان نتيجة لاضرابات لا متناهية للمدرسين. و قد يكون مفيدا أن أذكر للسادة القراء أني مدرس أضرب حين أرى الإضراب ضروريا. إن أول ما ينبغي أن أعترف به ولو بيني وبين نفسي أن إضرابات هذه السنة كانت كثيرة كثرة ملأت الدنيا وشغلت الناس، ولحسن الحظ لم تكن هذه الاضرابات عامة، فقد كانت فئوية، منها إضرابات أصحاب السلم التاسع، وأصحاب الشهادات العليا، والناجحين في الامتحانات المهنية الذين لم تسو وضعيتهم المادية، بمعنى أن أغلب المدرسين لم يكونوا من المضربين، و الأمر الثاني الذي ينبغي الإقرار به هو أن للإضراب تأثيرا ما على التحصيل الدراسي للمتعلمين. وعلى كل حال فإن هناك دواعي دعت هؤلاء وأولئك للإضراب، ولم يكن المدرسون هم المضربين وحدهم في وطننا العزيز، بل المغاربة – موظفين وغير موظفين- عبروا عن مطالب باتت معروفة لدى الناس كافة في مشرق الأرض ومغربها، فمنهم من أضرب يومين أو ثلاثة أو أربعة... ومنهم من خرج خرْجات إلى الشوراع... وذلك كله لهدف واحد هو تحقيق عيش كريم، ولعل أول شيء يحقق الكرامة هو المال...وعلى هذا فإضرابات المدرسين ليست بدعة ولا نشازا بل هي حركية اجتماعية احتجاجية عادية ينبغي التعامل معها تعاملا واقعيا معقلنا. أما مسألة هبوط مستوى المتعلم المغربي فذلك أمر قد لا أبالغ إذا قلت إنه لا علاقة له بالإضرابات، نعم قد يبدو هذا الحكم غريبا وخاطئا، لكن من ينظر إلى مسألة تدني مستوى المتعلم المغربي نظرة عاقلة موضوعية، سيرى رأي العين أن هبوط مستوى التعليم ببلادنا له أسباب أخرى حقيقية لا يريد الكثيرون أن يتحدثوا عنها أو أن يعترفوا بأنها سبب داء التعليم بالمغرب. ليست الإضرابات سببا من أسباب هبوط مستوى المتعلم المغربي، لأن التعليم مَرِضَ منذ سنوات عديدة، وقد كانت الإضرابات آنذاك نادرة نادرة، تكاد تكون منعدمة، و لا أحد يحترم عقله سيقول إن إضرابات هذه السنة جعلت التعليم أضعف من السنة الماضية أو من السنوات الماضية، لأن التعليم ليس شركة مالية تهبط وتصعد في رمشة عين. إن التعليم إذا كان معافى سليما من الأمراض لن يتأثر بإضرابات مهما تعددت، ولن أبالغ إذا صرحت أن تعليمنا في إضراب مستمر على طول السنة، لكن المضرب ليس مدرسا بل المتعلم، الذي لا يرغب في التعلم لأسباب شتى...ولما كان الأمر متعلقا بإضراب داخلي لا يمارسه المدرس، بل يمارسه المتعلم فالأمر عادي لا يثير أي رد فعل لدى الناس مهما اختلفت مستوياتهم المعرفية والاجتماعية... أيها السادة، إن هبوط مستوى المتعلم المغربي أعمق مما يتصور ” شيخ هسبريس” وغيره، ولي ظن قريب من اليقين أن الناس معظمهم يعرفون الأسباب الحقيقية لمعضلة التعليم، لكن النفاق يجعلهم يتناسون تلك الأسباب، و لا تثور ثائرتهم إلا حين يضرب المدرسون مطالبين بعيش كريم... التعليم بالمغرب هابط، هذه حقيقة لم تعد تحتاج إلى تحقيق. لكن السؤال الذي ما زال محتاجا إلى نظر وتحقيق هو لماذا هبط تعليمنا؟ قطعا ليس الإضراب سببا في هبوط مستوى التعليم بالمغرب العزيز، لأنه كان هابطا كما قلت منذ سنوات، ولم يكن جيدا في السنة الماضية وفي السنة ما قبل الماضية... ففسد وهبط هذه السنة بسبب الإضرابات. في كلام ” شيخ هسبريس” الذي ظن ظنا واهما أن الإضراب سبب في تدني مستوى التعليم، جواب على السؤال، حيث ذكر أن التعليم في الستينات كان جيدا، ورغم أنه علل ذلك بأن المعلم كان يدرس أيام الأحد والجمعة، فإنه نسي أو تناسى أمورا، من بينها أنه كانت للمعلم سلطة معنوية وقيمة اجتماعية عالية، جعلت المتعلم مرغما على التعلم والانضباط التام وإنجاز الواجبات، وهذا ركن لا يصح التعليم بدونه، ولو زار هذا الشيخ أقسامنا ورأى إهمال المتعلم ولا مبالاته وانشغاله بالكلام طول السنة، لكسر رؤوس كثير من المتعلمين بتلك الحديدة الرباعية التي تحسرت يداه عليها، ولحُوكِم بعد ذلك حكما قاسيا، ولندم ندما شديدا لأنه أراد أن يصلح المتعلم بما لا يجيزه القانون اليوم وهو العقاب. إن غياب العقاب التربوي سبب حقيقي في تدني مستوى المتعلم المغربي، ورغم كل ما يمكن أن يقال حول موضوع العقاب التربوي، فإنه من النفاق أن ننفي أهميته في التربية والانضباط. ومن الأسباب الحقيقية لهبوط مستوى التعليم الاكتظاظ، الذي يساهم في نشر الفوضى في القسم، وبث الكسل واللهو في نفوس المتعلمين، ومن أسباب هبوط التعليم، انسداد الآفاق، وغياب مراقبة وتوجيه الآباء لأبنائهم، ومن أسباب هبوط التعليم بالمغرب تفشي ظاهرة الغش، إذ أصبح الغش كحق يطالب به المتعلم ويعنف من أجله المدرس، ومن يحمي المدرس الذي يجاهد من أجل منع الغش؟؟؟؟؟؟؟ أيها السادة الأساتذة، أيها السادة أولياء وآباء المتعلمين، إذا أردتم إصلاح التعليم تذكروا أن للتعليم أركانا وشروطا، وإذا أضربتم في السنة القادمة أيها السادة الأساتذة وإذا غضبتم أيها السادة آباء المتعلمين، وإذا شئتم النجاح أيها المتعلمون الأعزاء نجاحا حقيقيا، فأضربوا واغضبوا للمطالبة بتوفير أركان التعليم: الانضباط داخل القسم . محاربة الاكتظاظ. محاربة الغش. محاربة الإنجاح ( إنجاح المتعلم وهو لا تتوفر فيه الشروط، فقد أضحى النجاح مجانيا، لا يهم أن تحصل على نقطة منجحة، المهم أن تكون مسجلا في اللائحة...) هكذا حين يأتي المتعلم للتعلم لا للتسلية واللعب واللهو داخل القسم، وحين لا يحمل القسم ما لا طاقة له به من التلاميذ، وحين يراقب الآباء آبناءهم فيأتون للمؤسسة للسؤال عن أحوال أبنائهم، وحين يرفض الآباء والأساتذة أن ينجح من لا يستحق النجاح، وحين تسن تشريعات تحمي التعليم من شرور من لا رغبة له في التعلم...فعندئذ قولوا إننا بدأنا نصلح التعليم. وليعلم المتفيقهون أن المدرسين أحرص الناس على مصلحة المتعلمين والوطن، وليعلم الحاسدون أن لأهل التعليم رصيدا معنويا لن يفنى مادام الإنسان على طبيعته، إنه حب المتعلمين والمجتمع، فمهما حاولتم أن تشوهوا صورة المدرس وتبثوا بذور الكراهية في نفوس الناس فلن تفلحوا لأن المجتمع يعرف المصلح من المفسد. [email protected]