منذ تولي الملك محمد السادس مقاليد الحكم توالت زياراته إلى العديد من الدول الإفريقية، همت في البداية بعض دول غرب إفريقيا، كالسنغال، والكابون، ومالي والنيجر، لتمتد في الآونة الأخيرة إلى بعض دول شرق إفريقيا الأنجلوفونية، كرواندا وتنزانيا. وتدخل الزيارات الملكية المتتالية لبعض الدول الإفريقية ضمن دبلوماسية ملكية هجومية يختلط فيها البعد الإستراتيجي بالبعد السياسي، والديني، والأمني. البعد الإستراتيجي للدبلوماسية الملكية الإفريقية يشكل المغرب مكونا أساسيا في المنطقة الإفريقية، لا من الناحية الجغرافية، بحكم اعتباره بلدا إفريقيا كانت تشكل فيه المنطقة الإفريقية عمقا إستراتيجيا؛ وذلك منذ القرن 16، خاصة في عهد السلطان المنصور الذهبي، سواء على المستوى التجاري لاستجلاب الذهب والملح، أو على الصعيد العسكري من خلال ضم الموارد البشرية إلى الجيش النظامي المغربي، سواء في عهد المنصور السعدي أو في عهد السلطان مولاي إسماعيل العلوي. كما يشكل المغرب أحد المكونات الجيوستراتيجية للقارة الإفريقية. إذا كانت جنوب إفريقيا تتواجد جنوب هذه القارة وتطل على رأس الرجاء الصالح والمحيط الهندي، فالمغرب يتواجد شمال القارة كقوة إقليمية تطل على ممر جبل طارق، ويعتبر بمثابة البوابة الشمالية لإفريقيا من خلال إشرافه على ملتقى البحر المتوسط المنفتح على جنوب الاتحاد الأوربي والمحيط الأطلسي المواجه للولايات المتحدة..لذا فكون المغرب يعتبر من الأعضاء المؤسسين لمجلس الوحدة الإفريقية قبل أن يتحول إلى الاتحاد الإفريقي يعتبر تحصيل حاصل إستراتيجي. إلى جانب ذلك، فإن المستجدات التي يعرفها العالم، خاصة تغيير هرمية القوى العالمية، بصعود قوى عالمية جديدة، على رأسها الصين، جعل من إفريقيا رهانا اقتصاديا وإستراتيجيا، خاصة في بداية القرن 21. ولعل هذا المستجد هو الذي جعل المغرب يبلور إستراتيجية خاصة بإفريقيا، تتخذ عدة أبعاد اقتصادية ودينية وسياسية وأمنية تحاول ألا تقتصر على دول غرب إفريقيا الفرنكوفونية، بل تتعداها لتقتحم المنطقة الإفريقية الأنجلوفونية، والتي بقيت طيلة العقود السابقة بعيدة عن الاهتمام المغربي بفعل الانسياق وراء السياسة الخارجية الفرنسية (أزمة الكونغو في 1960 و1978) والافتقاد إلى لغة التواصل اللغوي، خاصة اللغة الإنجليزية، بالإضافة إلى البعد الجغرافي الذي يبعد المغرب في أقصى شمال القارة الإفريقية عن دول هذه المنطقة التي تتموقع في أقصى جنوبها.. زد على ذلك بعض الأخطاء السياسية، إذ ضيع صانع القرار فرصة ترؤس الرئيس مانديلا لدولة جنوب إفريقيا كأقوى قوة إقليمية بهذه المنطقة بحكم العلاقات التي كانت تجمع بين هذا الزعيم الإفريقي والمغرب، ودخول المملكة في مزاحمة هذا البلد على تنظيم كأس العالم سنة 2010، وعدم انتقاء الطاقم الدبلوماسي الملائم لاجتذاب ود هذه الدولة للتموقع داخل هذه المنطقة بكل ما تمثله من ثقل إستراتيجي وسياسي في القارة الإفريقية.. لذا فإن تعبئة الجهود الدبلوماسية التي أثمرت سحب بعض دول هذه المنطقة اعترافها بجمهورية البوليساريو، كان آخرها سحب زامبيا اعترافها واستقبال الملك لرئيس رواندا المنظمة لمؤتمر الاتحاد الإفريقي الحالي، يعد تحولا إيجابيا لتجاوز هذه المقاربة. وكان هذا التحول في الدبلوماسية المغربية تجاه الدول الإفريقية، بما فيها تلك المتعاطفة مع الطرح الانفصالي التي تروج له الجزائر، تبلور بعد الوعي العميق بأن انسحاب المغرب من مجلس الوحدة الإفريقية سنة 1984 بعد القبول بعضوية (جمهورية البوليساريو) خدم إلى حد بعيد الدبلوماسية الجزائرية، وكذا الليبية آنذاك.. وبدل أن يشكل ورقة ضغط في يد المغرب كعضو مؤسس لهذه المنظمة، ترك المجال فسيحا للدبلوماسية الجزائرية لكي تتحكم في قرارات هذه الهيئة الإفريقية وتستخدمها ضده لتدعيم موقف البوليساريو؛ وبالتالي أدرك صانع القرار الدبلوماسي أن من الممكن للمملكة أن تستغل تحول هذه الهيئة إلى اتحاد، للانضمام إليه واستعادة مقعدها الشاغر لمواجهة المناورات والخطط الجزائرية داخله، والعمل على إقناع الدول الأعضاء بوجاهة مقترحها في ما يتعلق باستحالة الاستفتاء، وأهمية اللجوء إلى مقترح الحكم الذاتي، خاصة أن جل الدول الإفريقية تعاني بشكل من الأشكال من النعرات القبلية والانفصالية كنيجيريا (بيافرا) ووكينيا (الماوماو) والكونغو (كاتنكا). كما أدركت الدبلوماسية الملكية أن من الجوهري لأي دبلوماسية ناجعة ألا تربط السياسة الخارجية للمملكة بمشكل الصحراء. فمشكل الصحراء وإن كان يشكل أولوية بالنسبة للمغاربة على الصعيد الداخلي، إلا أنه في مواجهة الدول، خاصة الإفريقية، ينبغي تحديد التعامل معها وفق عدة مقاربات ومداخل تهم الجانب الاقتصادي الذي أصبح ذا أهمية كبرى في تقريب الرؤى وتقارب المصالح، والجانب الأمني الذي لا يقل أهمية، بالإضافة إلى الجوانب السياسية والدينية وغيرها. ومشكل الصحراء لا ينبغي أن يشكل دائما العين الوحيدة التي ينبغي أن يقيم بها صانع الدبلوماسية الأمور؛ إذ يمكن للمغرب أن يتعامل مع كافة الدول رغم موقفها من مشكل الصحراء. ولعل استقبال الملك لرئيس رواندا، والزيارة التي قام بها مسؤولون إلى إثيوبيا مؤخرا، رغم اعترافها بجمهورية البوليساريو شكل أسلوبا ومنهجا جديدا للمقاربة الدبلوماسية الملكية التي أصبحت تتبنى في تحركاتها الإفريقية مبدأ المردودية والفعالية وتنوع المصالح. لبعد البروتوكولي للدبلوماسية الملكية الإفريقية الزيارة الملكية إلى كل من مالي، وكوت ديفوار، وغينيا كوناكري، والغابون...تكتسي دلالة دبلوماسية خاصة، إن في الترتيبات التي واكبتها، أو في المدة التي استغرقتها، أو في طبيعة وحجم الوفد الذي رافق الملك إلى هذه البلدان. فهذه البلدان تربطها بالمغرب روابط تاريخية تمتد إلى عهد الأسرة السعدية، ولا ننسى أن السلطان المنصور الذهبي بنى قوته الاقتصادية من خلال استجلاب الذهب من هذه البلدان بعد ما طوقته الإمبراطورية العثمانية في الشرق، وحاصرته إسبانيا في الشمال؛ وبالتالي فإن مرافقة وفد اقتصادي هام للملك محمد السادس، يتكون خاصة من ممثلي المجموعة البنكية، وبعض المجموعات الاقتصادية الكبرى في المغرب، في وقت يعاني من إقفال الحدود الجزائرية ومنافسة حادة من طرف المنتجات التركية، وكذا من تداعيات الأزمة الاقتصادية التي تتخبط فيها دول الاتحاد الأوربي، يجعل الباحث منجذبا إلى الإشارة إلى هذه المفارقة التاريخية. ومن ثمة المرور إلى أن هذا التحرك الدبلوماسي الملكي يمكن تشبيهه بمحلة سلطانية ومخزنية تم الحرص فيها على التركيز على كل ما يتعلق بهذا التحرك من أبهة ملوكية، وتجنيد لكل اللوجستيك المخزني، الذي تم الحرص فيه على ارتداء الملك لأنواع مختلفة من الجلاليب المخزنية في زيارات وجولات داخل مدن هذه الدول، على الشكل الذي تتم فيه الزيارات الملكية لبعض المدن المغربية، بالإضافة إلى الخيام التي يتم فيها التوقيع على الاتفاقيات المبرمة مع هذه البلدان، وذلك وفق المراسيم المتبعة في المغرب بهذا الشأن. كما ينبغي التذكير بأن هذا التحرك الملكي بهذا الشكل يأتي استمرارا لبعض التحركات التي قام بها الملك الراحل الحسن الثاني خلال زيارته إلى كل من الجزائر في 1988، وإلى ليبيا القذافي خلال الحظر الدولي في بداية تسعينيات القرن الماضي، وإلى السنغال عند احتضانها مؤتمر قمة إسلامي، حيث حرص على السفر إلى هذه البلدان الإفريقية على متن الباخرة الملكية مراكش، التي كان يستقبل فيها الرؤساء والقادة السياسيين وفق المراسيم المخزنية السائدة؛ ما أثار آنذاك انتقادات من طرف القادة الجزائريين. وبالتالي فهذه الزيارات الملكية إلى هذه البلدان تدخل ضمن دبلوماسية ملكية تختلف في شكلها عن الزيارات الملكية إلى دول أوربية أو أمريكية، إذ تتغلف بطابع مخزني خاص بكل ما يصاحب ذلك من لوجستيك ضخم، ووفود مرافقة كبرى تضم كبار المستشارين ومكونات النخبة الاقتصادية والإدارية، بالإضافة إلى عدد من الوزراء في مختلف القطاعات، وترتيبات أمنية خاصة، وطبخ مغربي متنقل. وبالتالي فإن استعمال الإكسسوارات المراسيمية نفسها، من زرابي وطاولات وكراسي، مع ما صاحب ذلك من طقوس عادة ما يتم استعمالها في إبرام الاتفاقيات بالمغرب، تبطن بلا شك عدة دلالات تهم الجانب الاقتصادي، حيث لوحظ العدد الكبير من الاتفاقيات التي تهم الجانب الاقتصادي والتجاري والاستثماري الذي أبرم مع هذه البلدان، بالإضافة إلى الاتفاقيات التي همت الجانب الاجتماعي والصحي. وكل هذا بالطبع يرسل إشارات إلى أن هذا التحرك هو لدولة إقليمية تحاول استعادة عمقها التاريخي والسياسي والاقتصادي. -الرمزية الدينية للدبلوماسية الملكية بالإضافة إلى طابعها الدبلوماسي والاقتصادي، اكتست الزيارات الملكية إلى البلدان الإفريقية، سواء غرب القارة أو شرقها، رمزية دينية خاصة، إذ تم التحرك الدبلوماسي للملك محمد السادس ليس بوصفه رئيسا لدولة أو ملكا فقط، بل أيضا بصفته أميرا للمؤمنين؛ وانعكس ذلك من خلال موافقة وزارة الأوقاف قبل الزيارة الملكية إلى بعض هذه الدول الإفريقية، وبأمر من جلالة الملك، على تأطير ديني للقيمين في كل من تونس، وليبيا، ومالي، التي تعاني كلها من الانعكاسات السلبية للتطرف الديني. كما أنه عادة ما يكون وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية ضمن الوفد الرسمي المرافق للملك، ويقوم الملك كأمير للمؤمنين بتوزيع آلاف من المصاحف بقراءة ورش في كل بلد من هذه البلدان. وتميزت زيارة الملك إلى هذه البلدان، كالسنغال، بترميم بعض المساجد، والالتقاء ببعض الطرق النشيطة هناك، وعلى رأسها الطريقة التيجانية، كما تم التوقيع على اتفاقية بين هذه الطريقة وشركة الخطوط الملكية المغربية لنقل مريديها إلى فاس، مدفن شيخ الطريقة، بأثمان تفضيلية. وحرص الملك خلال زياراته إلى البلدان الإفريقية المسلمة أن يِؤدي صلاة الجمعة في مساجد هذه البلدان، في إطار الطقوس الخاصة بأمير المؤمنين، التي من بينها الصلاة على زربية ذات ألوان خاصة، تحدد المجال المقدس الذي لا ينبغي لأي أحد من النخبة المصلية تجاوزه، حتى ولو كان رئيس الدولة المضيفة. بالإضافة إلى أن مراسيم أداء الصلاة وخطبة الجمعة عادة ما كانت تشبه إلى حد بعيد المراسيم التي يؤدي بها الملك صلواته بمساجد المغرب. وهكذا "بعد أذان صلاة الجمعة بالطريقة المغربية، في قلب المسجد الكبير للعاصمة السنغالية داكار، الذي يشبه في تصميمه المعماري المساجد المغربية الكبرى، تطرق الخطيب في حضور الملك محمد السادس، والأمير مولاي إسماعيل، والرئيس السنغالي، ماكي سال، إلى ما سماها الخيرات التي تحف زيارة العاهل المغربي إلى السنغال. وقال خطيب المسجد الكبير بداكار إنه بحلول ملك المغرب ضيفا كبيرا على دولة السنغال هلت ألوان اليمن والبركة، وحفت نسائم البشر، وازدهرت بوجوده مشاريع النماء والزيادة"، واصفا العاهل المغربي بأنه "ملك صالح مصلح مقتد لنهج سلفه الكرام"، وفق تعبيره. وتحدث الخطيب، الذي بدت عليه ملامح الحماسة، عن معالم الأخوة في الله، والمحبة التي توجد بين أناس تعاقدت قلوبهم على الحب والوفاء، ضاربا المثال بالعلاقة بين المغرب والسنغال، وتحديدا بين الملك محمد السادس والرئيس السنغالي، ماكي سال، مصداقا لقول الرسول: "كونوا عباد الله إخوانا". ودعا خطيب الجمعة الله أن يحيط هذه الأخوة بين المغرب والسنغال، قيادة وشعبا، والداعين إليها، بكل أسباب الحفظ والصون، قبل أن يرفع أكف الضراعة إلى العلي القدير بأن يرزق العاهل المغربي النصر والسلامة في حله وترحاله. وذكر المتحدث، الذي خصص الجزء الأول من خطبته لموضوع مغفرة الله لعباده، بأن أهل داكار لازالوا يذكرون بكل فخر زيارة الملك الراحل، الحسن الثاني، إلى السنغال، وإشرافه على تدشين وافتتاح هذا المسجد العامر سنة 1964، في عهد الرئيس السنغالي، ليوبولد سنغور". وعلى الغرار نفسه، قام الملك في زيارته إلى تنزانيا بإعطاء انطلاقة أشغال بناء مسجد بدار السلام، استجابة لطلب تقدم به المفتي الشيخ أبو بكر بن زبير بن علي، رئيس المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بتنزانيا، إذ عبر عن الحاجة الملحة إلى مسجد ومرافقه بالمدينة. كما قام الملك، كأمير للمؤمنين، بأداء صلاة الجمعة إبان مقامه بزنجبار ضمن مراسيم دينية تذكر بمراسيم الدروس الحسنية التي تنعقد كل رمضان، إذ قام بعد أداء الصلاة بتسليم مصحف كبير بتوزيع آلاف من الصحف بقراءة ورش. وعموما فإن المغرب بعمقه التاريخي كدولة متجذرة في إفريقيا، لها تراكم كبير في التدبير السياسي والدبلوماسي، كما تتوفر على إشعاع ثقافي وديني وروحي ممتد عبر التاريخ في هذه الدول من خلال تجارة القوافل، وحج مريدي الطرق الإفريقية إلى العاصمة العلمية فاس، واعتبار المغرب أول مؤسسي منظمة الوحدة الإفريقية ومشجعي حركات التحرر فيها، بالإضافة إلى تكوينه للعديد من الأطر الإفريقية في مختلف الميادين الإدارية والاقتصادية والعسكرية، وبنائه لمساجد في كل من غينيا وغيرها، وربط علاقات وثيقة مع العديد من قادته، كالراحل سيكتوري وعمر بانغو الذي كان الملك الراحل الحسن الثاني هو من أطلق عليه هذا الاسم، وقيام المغرب بالاشتراك في إقرار الوضع العسكري في بعض هذه الدول ككوت ديفوار، ومالي، ووجود جاليات مغربية في هذه الدول، بالإضافة إلى وجود وحدات أمنية تشتغل ضمن الأجهزة الأمنية في بعض هذه الدول، إلى جانب النشاط الاستثماري للمجموعة الاستثمارية الملكية (أونا) في بعض القطاعات الاقتصادية والبنكية في هذه الدول... كل هذا وغيره يجعل الحضور المغربي في هذه الدول ظاهرا وفعالا في مختلف المجالات الفكرية والدينية والاقتصادية، ولعل هذا ما عكسته مختلف الزيارات الملكية التي أرادت أن ترسخ النموذج المغربي في هذه البلدان التي ترى فيه نبراسا يمكن أن يهتدى به في خضم التقلبات السياسية والعسكرية والاجتماعية التي تعرفها المنطقة الإفريقية.