إلى "صفوتها" من أهل الذكر: عبس الوليد بن المغيرة وتولى فاستغنى وتلهى الرسول الأكرم وتصدى، ذاك ما كان: بسم الله الرحمان الرحيم إنه لمن البلادة والغباء أن تنظم المسيرات المليونية والمظاهرات الصاخبة، ومن الغفلة وسوء التقييم أن تجتمع النخبة من أهل الذكر والفكر والدعوة لا لحاجة دعت إلى ذلك؛ بل فقط من أجل مناقشة أمر إساءة لرسولنا الأكرم صلوات الله وسلامه عليه نشرتها صحيفة بائسة ومغمورة طمعا من القيمين عليها في دعاية مجانية من أمة "اقرأ"، أو من أجل الرد على سخافات قسيس مغمور يتوق إلى شهرة واسعة وذكر يملأ الأرجاء، وتساهم في الدعاية المجانية القنوات الفضائية والمنابر الفكرية والحركات الدعوية، والكل يرفع شعار "انصر نبيك" و"إلا رسول الله".. وتكون النتيجة أداء مبهرا من منظور فن الدعاية والإشهار، وجهدا مرهقا وفارغا بمقاييس الفكر والدعوة وتجليات الغيرة الحقة على الدين والقدوة صلوات الله وسلامه عليه، فتصير بين عشية وضحاها تلك الصحيفة المغمورة تطبع ربما عشرات أضعاف ما كانت تطبعه وتوزعه قبل قرعها باب مكتب شركة الدعاية المجانية؛ بل وتحظى بالتعاطف والتقدير من قبل من لم يكن بالأمس على علم بوجودها ونشاطها الفكري أو الهزلي.. طبعا، بعد التصريحات الحماسية والمندفعة التي تصدر عن بعض المشايخ الكرام وردود الفعل المتهورة لبعض "البسطاء" الغيورين. أما القسيس المغمور والذي لا يتعدى عدد مريديه ربما بضع مئات أو حتى عشرات يتحول إلى علم مشهور يعرفه ويقرأ له الملايين ما ينشر له على صفحات كبريات الصحف والمنابر الإعلامية، ويغنم تقدير وتعاطف الكثيرين.. طبعا، بعد خرجات بعض أهل الذكر والفكر بتصريحات ترسخ الصورة النمطية للإسلام والمسلمين، وبعد اندفاع وتهور الغيورين. وقد كان أولى لنا أن نتجاهل ما قيل. وبدل رد الفعل المعتاد المتمثل في الاستنكار والصخب والهيجان، كان الأجدر أن يناقش الأمر تحت قبب برلمانات الدول الإسلامية؛ فتشرع وتسن قوانين تجرم كل من أساء إلى مقدساتنا ورموزنا، حتى يتسنى لنا شرعا وقانونا إذا حل أحد المتطاولين بأرضنا اعتقاله ومحاكمته، ولربما استطعنا أن نطالب به أو بمحاكمته حيث هو استنادا إلى المعاهدات والاتفاقيات المبرمة بين الدول. وأعجب ممن يرى شكل "المقاومة" المطلوبة والحل ودفع "الضرر" من أهل العلم والفكر في مضاعفة المجهودات التي تعرف برسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام وهم أنفسهم يتجاوزون في حق رسولنا الكريم، ولو عن غير قصد. ونحمد الخالق الغفور، إذ يقول: "ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما". وقالت العرب، التي كانت أهلا لاستقبال الرسالة الخاتمة والتي أبهرها بيان القرآن وأسرها البرهان: "خير الكلام ما قل ودل".. ما أعنيه وما أتته الأمة بعلمائها وعامتها يبرزه المقال التالي: من خلال ما بلغنا عن الواقعة أو سبب نزول سورة عبس صرنا نعلم، وليس منا من له رأي مخالف، أن الصحابي الجليل ابن أم مكتوم رضي الله عنه أتى مجلس الرسول الأكرم صلوات الله وسلامه عليه ومعه بعض كبراء قريش – حملت الروايات المختلفة عدة تأليفات مكونة من مجموعة أسماء - وكان الرسول الأكرم يحاورهم ويدعوهم وهو منشغل بأمرهم، فقطع ابن أم مكتوم حديثهم بقوله مخاطبا الرسول عليه الصلاة والسلام: "علمني مما علمك الله" أو "يا رسول الله أرشدني"، وقيل إن ابن أم مكتوم استقرأ الرسول الكريم آية من القرآن و... المهم وما يلفت نظر الدارس المدقق هو أن عبارة ابن أم مكتوم، وأيا كانت مما تقدم وحفظ لنا، لم تكن على شكل سؤال محدد ومباشر ومستعجل لا ينتظر إلى أن يفرغ الرسول صلوات الله وسلامه عليه مما هو خائض فيه؛ بل جميعها عبارات فضفاضة ومطاطية. وكأن ابن أم مكتوم يقول لرسولنا الأكرم خاطبني وحسب، ولتحدثني بما تشاء، هذه واحدة. والثانية أنه إذا استحضرنا وسلمنا ببشرية الصحابة الكرام بعيدا عن التنزيه، وكان في الحسبان أنهم كغيرهم من البشر قد تصدر عنهم بعض التجاوزات ويأتون بعضا ما يستنكر لكان من الطبيعي والوارد جدا ما دام الحال كما كان عليه أيام الدعوة المحمدية بل وفي كل الأزمنة والعصور وداخل كل المجتمعات أن سيكون هناك حقد اجتماعي وبغضاء وشحناء وتنافر بين الكبراء والضعفاء والأغنياء والفقراء. وأما النقطة الثالثة، وليس ينكرها عاقل محقق، هي أن ابن أم مكتوم حتما كان يعلم انشغال الرسول عليه الصلاة والسلام. وكان الأولى واللائق أن يرجئ سؤاله أو طلبه إلى أن يفرغ الرسول الأكرم مما هو خائض فيه، السؤال المطروح: ما الذي جعل ابن أم مكتوم يتجاوز ويصر على أن يسمع من الرسول صلوات الله وسلامه عليه ساعتها؟ فما الذي أعجله يا ترى؟ الجواب: بما يسمونه المنهاج النفسي في صنعة النقد الأدبي، إذ يفهم من كانت له ذرة من الذكاء الباطني حسب مصطلحات علم النفس أو ذرة من ذكاء القلب كما تقول العرب إن هو نظر في المسألة وأعمل الملكة أن غرض ابن أم مكتوم لم يكن يطلب العلم البتة أو جوابا لسؤال يؤرقه ويشغل باله، إذ لو كان كذلك لأمكن لابن أم مكتوم أن ينتظر إلى أن يتفرق الحضور ويفرغ الرسول، إنما كان الهدف والقصد من قطعه لحديثهم أن يسلب الحضور من الكبراء شرف التحاور والسماع من الرسول الكريم، فيتحول الخطاب النبوي الموجه إليهم إلى ابن أم مكتوم، وكأنه بصنيعه يقول لغرمائه أو غريمه من الحضور إن الرسول صلوات الله وسلامه عليه ليس كمن عرفوا من الملوك وذوي الجاه والسلطان وأن الاعتبارات السائدة والمقاييس المعمول بها في المجتمعات العربية عندئذ غير معمول بها في مجلسه عليه الصلاة والسلام، وإنه إذا - أي ابن أم مكتوم – نُظر إليه من قبله - أي من قبل غريمه - بازدراء واحتقار فهو موقر وله قدره ومنزلته عند الرسول الكريم. وما كان صلوات الله وسلامه عليه غمرا حتى يغفل عن القصد الخفي لصاحبه؛ فقد أدرك عليه الصلاة والسلام بذكاء قلبه الوهاج خبيئة ابن أم مكتوم، فتلهى عنه "فأنت عنه تلهى" بما كان خائضا فيه قبل قدومه، فصار من وصفه ربه بقوله "وإنك لعلى خلق عظيم" بين المطرقة والسندان، كيف؟ أجيب: غريم ابن أم مكتوم الوليد ابن المغيرة - سأورد لاحقا ما يثبت أنه الوليد – كان بدوره على علم بمرمى ابن أم مكتوم، وكان يأمل أن ينهره الرسول الأكرم ويرده عنهم وهو صاحب المجلس لذلك انتظر ما سيكون من الرسول الكريم وابن أم مكتوم يسأل – والغالب هو أنه كان يسأل ويعيد ويلح - ولما لم ير الوليد العنيد من صاحب الخلق العظيم عليه الصلاة والسلام ما كان يأمله عبس في وجه ابن أم مكتوم وتولى "عبس وتولى" وهم بالانصراف، فتصدى له الرسول الكريم "وأما من استغنى فأنت له تصدى" هذا من جهة. ومن الجهة المقابلة، نجد ابن أم مكتوم يسأل ويعيد وهو يطمع في قضاء حاجته بأن يشرف بخطابه عليه الصلاة والسلام. حينها، بدا لصاحب الخلق العظيم رسولنا الكريم أن الأنسب والأصلح في هاته الحال هو أن لا يمكن الاثنين مما يبتغيان. وذاك ما كان؛ فلا هو صلوات الله وسلامه عليه نهر ابن أم مكتوم وألزمه الصمت أو أمره بالانصراف فيتحقق للوليد ما أراد، ولا هو لبى رغبة صاحبه ابن أم مكتوم فأسمعه كلمة أو كلمتين لينوله مراده. لنقف عند قوله جل من قائل: "كلا إنها تذكرة، فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة". كلا: حرف ردع وزجر، ترى من الذي زجر وردع ولم؟ الجواب: علم علام الغيوب سبحانه ما كان وما هو كائن وما سيكون فزجر وردع أمة "اقرأ" حين تجاوزت - بل قبل أن تفعل وهذا من الإعجاز الغيبي للقرآن الكريم - حين تجاوزت ونسبت إلى نبيها وقدوتها ما لم يكن وزعمت أنه صلوات الله وسلامه عليه كان العابس المقصود المقطب للجبين، ولو كان الأمر كما زعموا وأخذنا بما هو سائد لما وجدنا علة لورود ما يفيد الردع والزجر. "كلا إنها تذكرة" معناه أن السورة ليست عتابا أو لوما لرسولنا الكريم؛ بل هي تذكرة وما كان ينبغي له صلوات الله وسلامه عليه أن يتلهى عن صاحبه، بل كان الأنسب أن ينوله مراده بالرغم من فعلته وما بطويته ويسمعه كلمة أو كلمتين، ولو من قبيل "لاحقا يا صاح". كما أن الهاء الضمير في قوله تعالى: "فمن شاء ذكره" تعود على العابس، وجاءت صيغة الغائب كما كان في مطلع السورة "عبس وتولى أن جاءه الأعمى"، والغائب ما هو إلا الوليد بن المغيرة، ولم يذكره الخالق تعالى باسمه وترك لمن علم حقيقة ما كان الخيار في الكشف عن هوية الغائب وذكر اسمه أو ترك الأمر مبهما كما هو "فمن شاء ذكره". والملحظ الوجيه في هاته النقطة هو أننا نجد أهل التفسير والتأويل يزعمون أن ورود صيغة الغائب في قوله سبحانه "عبس وتولى" كان من باب الإشفاق الرباني على نبينا صلوات الله وسلامه عليه؛ وذاك لا يصح، لم؟ لأننا نجد في القرآن الكريم صيغا وعبارات يحفظها أهل التفسير والتأويل والمخاطب فيها رسولنا الأكرم، وهي أشد وقعا على النفس وأكثر إيلاما. كما أن الانتقال المفاجئ من صيغة الغائب إلى صيغة المخاطب ليس من البيان في شيء، وأعجب من الدارسين أصحاب البلاغة والبيان كيف لهم أن يستهجنوا هذا الانتقال من صيغة الغائب إلى صيغة المخاطب من أديب إذا خطه قلمه ويقبلونه ويستحسنونه من ربهم ورب الأديب. ولنلتفت إلى لغة العرب في نقطتين اثنتين: "عبس وتولى": تقول العرب - ما سيأتي مثبت في كل المعاجم المعتمدة: وَلَّى تَوْلِيَةً: أدْبَرَ، كَتَوَلَّى، وتولى عنه: أعْرَضَ، أوْ نَأَى، فيكون المعنى أن الوليد بن المغيرة قد عبس وتولى أي عبس وأدبر. كان قد أقبل ليسمع من الرسول الكريم، ولما كان من ابن أم مكتوم ما كان عبس وأدبر واستغنى، أما الرسول صلوات الله وسلامه عليه فقد كان مقبلا على الوليد متلهيا عن ابن أم مكتوم، وبقي على تلك الحال إلى أن انصرف الوليد وأدبر. "أن جاءه الأعمى": تقول العرب: جِئْتُهُ أجِيئُهُ: غَالبَنِي بكَثْرَةِ المجيءِ، فَغَلَبْتُهُ. من المؤكد أن الوليد بن المغيرة كان كثير التردد على مجلس الرسول عليه الصلاة والسلام وهو الشيخ المجرب، وواضح أن كبراء قريش قد أوكلوا إليه أمر التفاوض والتحري. أما ابن أم مكتوم فقد كان يتربص بالوليد ولا يفوت جلسة حضرها أو علم بها في حينها للوليد مع الرسول الأكرم إلا وجاءه بهدف التنغيص عليه، فيشارك في الحوار الدائر ويكون جليسا له بالرغم من أنفه. وكأن ابن أم مكتوم قد غالب الوليد بن المغيرة في المجيء فغلبه... أما ما الذي مكنني من تحديد هوية العابس حتى "زعمت" أنه الوليد بن المغيرة فهو ما أجمع عليه جمهور المفسرين والمحدثين عند تناولهم قوله جل وعلا في سورة المدثر من الآية 11 إلى الآية 29: "ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا ومهدت له تمهيدا، ثم يطمع أن أزيد، كلا إنه كان لآياتنا عنيدا سأرهقه صعودا، إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر، ثم نظر، ثم عبس وبسر، ثم أدبر واستكبر، فقال إن هذا إلا سحر يؤثر، إن هذا إلا قول البشر، سأصليه سقر وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر لواحة للبشر عليها تسعة عشر..." أجمع المفسرون على أن المعني في الآيات هو الوليد بن المغيرة؛ غير أنه لم يشد انتباههم ولم يستوقفهم بعض ما حملته الآيات، ومنهم تعلمت أن القرآن بعضه يفسر بعضا: "إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر" هو الوليد بن المغيرة. وقد فكر فيما جاء به رسولنا الأكرم صلوات الله وسلامه عليه، وقدر كيف يتحقق من الأمر ويتبين حقيقة محمد أنبي مرسل هو أم متقول كذاب بعد أن أمده الخالق سبحانه سلفا بما يبصره بالحقيقة ويدفعه نحو التصديق والإيمان غير أنه كابر وعاند: "ومهدت له تمهيدا، ثم يطمع أن أزيد، كلا إنه كان لآياتنا عنيدا سأرهقه صعودا". "ثم نظر" تقول العرب: نظره وانتظره إذا ارتقب حضوره، فيكون المعنى المراد هو أن الوليد بن المغيرة كان يرتقب حضور غريمه ابن أم مكتوم كما جرت العادة. هذا من جهة ابن أم مكتوم. أما من الجهة المقابلة، أي جهة الرسول الكريم، فنجد العرب تقول كذلك: نَظَرَ الرجل وانْتَظَرَهُ وتَنَظَّرَهُ: تَأنَّى عليه، فيكون المعنى المراد هو أن الوليد العنيد حين كان من ابن أم مكتوم ما كان انتظر أن يرده الرسول الأكرم عنه وعن رفاقه وينهره مراعاة للمقامات كما يرى وتأنى عليه وابن أم مكتوم يسأل ويلح. "ثم عبس وبسر" لما لم ير الوليد من رسولنا الأكرم صاحب الخلق العظيم ما كان يأمله عبس وبسر، تقول العرب: بَسَرَ حاجته يبسرها بسرا وبسارا وابْتَسَرَها وتَبَسَّرَها إذا طلبها في غير أوانها أو في غير موضعها، فيكون المعنى المراد هو أن الوليد قد نظر إلى الواقعة على أنها أية كبرى وجلية دالة على تقول وكذب الصادق الأمين عليه الصلاة والسلام، كيف؟ أجيب: الوليد هو العابس وهو على يقين من ذلك، كما أنه يوقن ويعلم تمام العلم أن الرسول الأكرم لم يعبس البتة ولم يقطب الجبين في وجه صاحبه لأنه بمحاولتنا تصور ما كان وكيف مرت المدة الوجيزة الممتدة من لحظة تدخل ابن أم مكتوم إلى أن عبس الوليد وتولى بالرغم من تصدي الرسول الأكرم له يمكننا الجزم أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يأبه بصاحبه "فأنت عنه تلهى" وواصل خطابه للوليد ورفاقه. وبديهي أن ينظر المخاطب إلى من يخاطب. كما أنه من البديهي أن الوليد بن المغيرة كان ينظر إلى رسولنا الأكرم شأن وحال المستمع أو المتلقي مع من يسمع منه، خصوصا مع حرص الوليد أن يظهر للحضور أنه لا يعير حركة ابن أم مكتوم المعتادة أدنى اهتمام ولا يلقي له بالا، هذه واحدة. والثانية هي أن الوليد عندما بلغه لاحقا وبعد نزول السورة عبارة رسولنا الأكرم المرحبة بابن أم مكتوم "أهلا بمن عاتبني فيه ربي". وبعد أن فهم ابن أم مكتوم وصحابة رسول الله - إلا شخصا واحدا على الأقل - من لفظه صلوات الله وسلامه عليه أنه إقرار منه واعتراف بأنه العابس المقصود خيل للعنيد الوليد أنه قد تبين حقيقة محمد وأيقن من أنه متقول كذاب - معاذ الله- بدليل أنه صلوات الله وسلامه عليه قد أقر بما لم يكن واعترف بما لم يقترف وبالتالي يكون الوليد قد بسر حاجته وحاجته ما هي إلا آية كبرى وعلامة واضحة يتبين بها حقيقة محمد حيث طلب حاجته والتمسها في غير موضعها وفي غير أوانها فأضله ربه بالقرآن كما هدانا بالقرآن: "يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين". سؤال: إذا لم يكن الأمر كما أسلفت فمن يطلعني من أهل الذكر على السبب الذي جعل الوليد بن المغيرة يهم بالانصراف ويستغني بعد أن كان يسمع ويحاور؟ ثم لم لم يأت الخالق المبين جل وعلا على ذكر سبب انصرافه وهو محور أساسي من محاور القصة، حيث تقتضي البلاغة والبيان أن يذكر السبب وربنا رب البلاغة والبيان؟ وليخبرني أهل العلم عن معنى مفردة "بسر" إن لم يكن الأمر كما أوردت وليس لهم من سبيل إلى معنى للمفردة يوافق ويليق بما أثبتوه اللهم إلا إذا سمح لهم منهاجهم العلمي والأكاديمي باستنتاج المعنى من السياق حتى وإن لم يدرج بين العرب ولم يحفظ لنا ولو شاهد واحد يدعم زعمهم.. أكتفي بهذا القدر وقد تبين الحق لكل ذي عقل وللباحث المستعد والموهوب والموفق بفضل وكرم من الله أن يتوسع في الموضوع ويضيف إليه؛ بل ويعدل بعض ما أسلفت. أما إذا حاجني وجادلني أخ مخلص لدينه وأمته وقال: كيف يكون ما ذكرت وكل الصحابة الكرام والتابعين الأخيار وجميع علماء السلف والخلف وجميع المفسرين والمؤلين والمحدثين قد أجمعوا على أن العابس هو الرسول صلوات الله وسلامه عليه وهو القائل "لا تجتمع أمتي على ضلالة"؟ أجيب صاحبنا فأنصحه بالإطلاع على طرق البرهان الخمس في علم المنطق أو ليكتف إذا كان ممن يحرم علم المنطق ولا يرى ثمة حاجة تدعوه إلى ذلك بما يسميه المناطقة: "طريقة البرهان بالمثال المضاد"، وأسأل العلي القدير أن يوفقه ليحصل لديه الفهم السليم. أما - ومن باب الجدال- أما إذا أخرجني صاحبنا من أمة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام وربما كفرني وكانت مخالفتي لجمهور العلماء في هذه الجزئية فقط كافية عنده ليزندقني فلا يسعني إلا أن أكشف عن ورقتي الأخيرة، وأختم المقال بالحجة المفحمة وأعني ما حفظ لنا من قول أمنا عائشة رضي الله عنها تلك التي تربت وترعرعت في بيت النبوة وسمعت ما يتلى في بيتها من الكتاب والحكمة، بلغنا من السلف الصالح ما يلي: أخرج الترمذي وحسنه وابن المنذر وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه عن عائشة قالت: أنزل سورة عبس وتولى في ابن أم مكتوم الأعمى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول: يا رسول الله أرشدني وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عنه، ويقبل على الآخر، ويقول أترى بما أقول بأساً فيقول لا، ففي هذا أنزلت. أخرج ابن المنذر وابن مردويه عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس من ناس من وجوه قريش منهم أبو جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة فيقول لهم أليس حسناً أن جئت بكذا وكذا؟ فيقولون: بلى والله، فجاء ابن أم مكتوم وهو مشتغل بهم فسأله فأعرض عنه، فأنزل الله {أما من استغنى فأنت له تصدى وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى} يعني ابن أم مكتوم. أخرج الحاكم وصححه وابن مردويه في شعب الإِيمان عن مسروق قال: دخلت على عائشة وعندها رجل مكفوف تقطع له الأترج وتطعمه إياه بالعسل، فقلت: من هذا يا أم المؤمنين؟ فقالت: هذا ابن أم مكتوم الذي عاتب الله فيه نبيه صلى الله عليه وسلم قالت: أتى نبي الله وعنده عتبة وشيبة فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما فنزلت {عبس وتولى أن جاءه الأعمى} ابن أم مكتوم. يتبين من صيغ أمنا عائشة رضي الله عنها في الأحاديث الثلاثة أنها جعلت السبب الأوحد في عتاب الخالق سبحانه لنبيه الكريم هو تلهيه عليه الصلاة والسلام عن صاحبه ابن أم مكتوم وإعراضه عنه، ولم تأت على ذكر العابس. أخيرا أسأل أهل الذكر الكرام هل ما أوردته أمتن من حيث البناء البلاغي وأنسب أم ما هو سائد وقد صار من المسلمات بفعل التقادم وغياب البديل؟ ثم ما المطلوب يا ترى، أن نصحح الزلة فنلغي ما ساد طيلة أربعة عشر قرنا أم يظل رسولنا الأكرم صاحب الخلق العظيم في مخيلات العلماء والعامة والناشئة ومن تدعونهم ممن يدين بغير الإسلام وتبذلون قصارى جهودكم مشكورين مأجورين للتعريف بالنبي الخاتم صلوات الله وسلامه عليه ذاك المعرض عن العميان والعابس في وجه الإخوان المقبل على أهل الطغيان المصرين على العصيان؟ هذا والله تعالي ورسوله أعلم بما كان، بوركتم إخوتي العامة وطبتم مشايخنا وعلماءنا الكرام. تم بحمد الله.