الحلقة الأولى: "ليس الخبر كالمعاينة" "ليس من رأى كمن سمع " عبارة طرقت سمعي منذ زمن، وفهمتها كما فهمها أكثر الناس أن المعاينة والرؤيا المباشرة غالبا ما تخالف ما نسمع، وأن مفاجأة الرؤيا تنسيك ما كنت تسمع، للبَوْن الشاسع بينهما، لكن لا شيء من هذا حصل لي في رحلتي الصيفية لأمريكا، رغم أنها كانت الأولى إلى ديار سمعنا عنها وسمعنا. انتابني شعور هو أقرب إلى المتعة منه إلى الدهشة، متعة تصديق الواقع للخبر، ومتعة موافقة "ما أرى" ل "ماسمعت" ربما لأن ما قرأته عن الشعب الأمريكي كان من مصادر موثوقة وأمينة، كنت قرأت عن "أمريكا المتدنية الجديدة" (A new religious America) *فصح عندي أن أمريكا تتساكن فيها كل الأديان؛ دين الرأسمالية التي تحتفل بالثروة ولو كانت دولارا واحدا، وكل الأديان والمعتقدات بما فيها الإيمان باللا إيمان(Unbeliever) وصولا إلى الاعتقاد بالإلحاد. كنت سمعت عن قدرة "المجتمع المدني" وحضوره الوازن في الحياة العامة الأمريكية فصح عندي أن أمريكا قوية بإشراك كل القوى الحية، أفرادا ومؤسسات، في تدبير الشأن العام. كما قوي عندي أن الشعب الأمريكي شيء والسياسات الخارجية الأمريكية شيء آخر. كنت سمعت عن النظام التربوي التعليمي من خلال تجربة أحد تلامذتي الذي أكمل تعليمه الثانوي في إحدى المدارس العمومية الأمريكية، فصح عندي أن أمريكا قوية بصناعة شخصية تجمع بين النضج المعرفي وامتلاك مهارات الحياة. سمعت وسمعت، فهل حقا ما رأيت خلال شهر كامل ، ضمن فريق من الأساتذة الباحثين، كان كما سمعت؟ كان اللقاء بجامعة جورج تاون بالعاصمة الأمريكيةواشنطن، وبالضبط في قسم الأديان الذي يرأسه الأستاذ والدكتور بول هيك (Paul Heck)(1) ضمن برنامج يهدف لتعميق دراسة الأديان عبر اللقاءات الميدانية والرفقة العلمية المباشرة التي تسمح بتعميق المعرفة وبناء وعي صادق لا تتيحه غالبا المعرفة المستمدة من بطون الكتب. ولعل عنوان هذا البرنامج يلخص هدفه: سوراك (SORAC) اختصار للعبارة الآتية: STUDY OF RELIGIONS ACROSS CIVILISATIONS أي دراسة الأديان عبر الحضارات. وقد كان هذا اللقاء تجربة إنسانية وعلمية مكنت من التأكيد على أهمية الإيمان في حياة الأفراد والمجتمعات وهي الثمرة العملية التي يحرص عليها برنامج سوراك(2). تجربة أحاول بسطها في مقالات بعدد أصابع اليد الواحدة عبر أمثلة ومشاهدات أدهشتني وأمتعتني، وزادت يقيني أن للقوم "مزايا" تستحق كل الاعتبار، وأن الأمم تستمد قوتها من مركزية الإنسان في برامجها واهتماماتها، سواء كان هذا الإنسان مواطنا، له وعليه، أو زائرا عابرا، له وعليه.وأن المسلمين مرشحين بامتياز لتجديد موعد مع التاريخ، رغم ضعفهم الحالي، لبسط ما معهم من الحق الذي تهفو إليه الأنفس الكريمة التي تحرص على متعة الحياة الكاملة متعة الحس والمعنى. وستكون البداية مع "أمريكا المعرفة: لقاء مع تلميذة من التعليم الثانوي". الهوامش: *طبع عام 2001 ، وهو لمؤلفته ديانا ل.إيك أستاذة علم المقارنة بين الديانات في جامعة هارفارد ومديرة مشروع التعددية الذي يبحث في تنوع الديانات في أمريكا، وقد نالت عن هذا المشروع وسام الدراسات الإنسانية الوطنية من طرف الرئيس كلينتون عام 1998. وترجم الكتاب للعربية سنة 2008 من طرف نجاة يونس، طبعة الأهلية للنشر والتوزيع (الأردن) 1-بول هيك أستاذ الدراسات الإسلامية، شخصية علمية فذة قل نظيرها حتى بين النخبة الأمريكية، يجذبك إليه روحانيته العالية، واطلاعه الواسع، وتجربة حياة غنية، يغلفها أدب عال. 2-لمزيد المعرفة بهذا البرنامج يمكن فتح الرابط التالي: www.religionsacrosscivilization.orgوللدكتور عبد الله الهداري مقالة في الموضوع. *أستاذ باحث في تواصل الأديان والثقافات [email protected]