يذهب عدد من المحللين الى أن أحد الأسباب الرئيسية لاستمرار غرق الدول العربية في مسلسل الازمات و تواصل انهيارها الاقتصادي و الاجتماعي يكمن في التراجع المهول لمستوى كفاءة مسؤوليها و فقدان قراراتهم للفعالية و النجاعة. فغياب الكفاءة و الحنكة من جهة و تعقد الأوضاع و الاشكاليات من جهة اخرى، لا يمكن إلا أن ينتج مرحلة عنوانها البارز الرداءة. في القرآن الكريم نجد تعبيرا عن مفهوم الكفاءة بمصطلحي "القوي الأمين" وصفا لنبي الله موسى و "حفيظ عليم" وصفا لنبي الله يوسف عليهما السلام. وفي السنّة أن أبا ذرٍّ رضِي الله عنه لَمَّا طلب من النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنْ يستعمِلَه في الولاية ضرَب بيده على منكبه ثم قال له: "يا أبا ذرٍّ، إنَّك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزيٌ وندامة، إلاَّ مَن أخَذَها بحقِّها وأدَّى الذي عليه فيها". (صحيح مسلم). فالكفاءة اذن مكونة من شقين : أولهما جانب الامانة و الحفظ الذي يقابل الخيانة و الفساد و ثانيهما جانب القوة و العلم والإحسان في العمل الذي يقابل الضعف و العجز. وهما طرفين لا يتجزءان عن بعضهما البعض لتولي الولاية، فأبو ذر و هو صحابي جليل لا تنقصه الأمانة ولكن ما ينقصه هو القوة و الحزم. إلا ان التاريخ يخبرنا أن هذين المُكونَين ما لبثا أن افترقا بافتراق القرآن و السلطان، فحفل تاريخنا بنماذج أمراء الظلم و الاستبداد انقيادا لسلطة المستولي بالسيف و تجسيدا لنِحلة الغالب. وفي الجهة المقابلة فإن حفظ الأمانة في خُويصة النفس و الحزب لا يشفع لمن يتصدى للشأن العام الاستسلام والتطبيع مع الفساد و الظلم سكوتا عنه أو رضوخا له. وقد استمر الحال على هذا المنوال الى زماننا هذا الذي قلّ فيه من يجمع بين القوة و الأمانة حتى أصبح مناط الاختيار في أحسن الاحوال بين "قوي طالح" و"صالح لا يملك من أمره شيئا". وقد اعتادنا كل رمضان الخوض في مفهوم الرداءة وخصوصا فيما يتعلق بالإنتاجات الفنية المقدمة من طرف القنوات التلفزية كتعبير عن انحطاط الذوق و ضحالة الفكر و سطحية الطرح و ميوعة التقديم. والحق أنها لم تعد مقتصرة على هذا المجال بالضبط و انما أصبحت ميزة أساسية لمختلف المؤسسات والخدمات وخصوصا العمومية منها. فكلما تم تعيين مسؤول جديد داخل دواليب هذه المؤسسات، ترى الآمال تعقد عليه للدفع بالعجلة الى الأمام لكنها سرعان ما تتبدد ويخيب الظن ويستمر الانحدار و يتولد شعور الحنين الى زمن سلفه. فتخبو الهمم و ترقد العزائم في انتظار التالي الذي لا يلبث إلا أن يكون على منوال سابقه فيبادر الكل الى طرح السؤال الملح: هل وصلنا الى القاع ام أنه انهيار بلا قاع؟ نحن في زمن الرداءة وللرداءة أهلها كما قال السياسي الجزائري الكبير عبد الحميد مهري. أهلها تجدهم في كل مكان و في كل مجال. تجدهم لا يقرِّبون إلا من هم على شاكلتهم خوفا من انكشاف عوراتهم و افتضاح سوءاتهم. في السياسة تجدهم يستبدلون رموزهم الحزبية كما يغيرون ربطات العنق. سمتهم التحلي بالانتهازية و التخلي عن الوعود. هدفهم الحصانة و تحصين المغانم و إن بذلوا في سبيل ذلك شيئا من المغارم. فأنى لنا من الشخصيات الوطنية التي بصمت التاريخ بمواقفها الثابتة و النبيلة في زمن أصبحت جل الهيئات السياسية أقرب الى تمثيليات ديكورية و شكلية لا يتعد غالبا دورها تأثيث المشهد حتى لا يبدو فارغا. في الاقتصاد والأعمال تجدهم يشكلون نواة منظومة الريع و لوائح "الكريمات". يتاجرون في الاراضي و العقارات و يستثمرون في المقاهي و المطاعم. فأنى لنا من توطين الصناعة وتملك التقنة وإنتاج الاكتفاء الذاتي من حاجياتنا. في الادارة تجدهم عن العمل متقاعسين و عن المبادرة مُحجِمين ووراء المغانم لاهثين وعن المجد الشخصي ساعين. يقدِّمون الولاء على الأهلية و الترك على الفعل و ذوي القربى على ذوي الخبرة. فأنى لنا من خدام الشعب الذين على أيديهم تقضى حوائج الناس. في الفن تجدهم من دعاة الميوعة و الضحالة و السطحية. تشهد عليهم افلامهم الهابطة و "كليباتهم" الماسخة. فأنى لنا من جيل الرواد والعمالقة وأصحاب الروائع الخالدة. في الرياضة تجدهم وراء الشهرة والمال يلهثون ولا يقدمون شيئا يذكر للوطن. يشهد عليهم غياب المغرب المتواصل عن منصات التتويج وطول انتظار عزف النشيد على الملأ. في الصحة تجدهم بقصصهم المخجلة و أخطائهم الفادحة التي تزخر بها الجرائد و المحاكم. في التعليم تجدهم وصمة عار على مهنة نبيلة نذرت نفسها لتربية و تنشئة الاجيال. في المحاكم تجدهم و في استوديوهات التحليل وفي دواليب التخطيط وفي شتى جوانب الحياة حتى لا تملك إلا أن تستعيذ الملك الجبار منهم ومن شر اعمالهم. إن الرداءة حين تستشري في المجتمع تقتل فيه مبادئ التضحية و المواطنة و التجرد و الابتكار و العمل الجماعي و تحل مكانه الأنانيات و الأحقاد و تغليب المصلحة الخاصة على الصالح العام فيتصدر اهلها الواجهة ويعدل أهل الكفاءة و الخبرة و الحنكة عن تحمل المسؤولية و ينزوون الى ركن اللامبالاة. اذاك لا مجال للحديث عن التقدم و الرقي وإن كان، فحبله قصير ما ينفك ينفرط عقده. فعندما تغيب الكفاءة تقيم الرداءة احتفالا تستدعي له كل قريباتها وقريناتها من قبيل المحسوبية و الرشوة و الغش و الميوعة و السطحية و الجهل و الفساد والخيانة و العجز...فيكرم أهل هذه الاخيرة و يسطع نجمهم في المجتمع في حين يتوارى الأكفاء عن المشهد و تبخس بضاعتهم. لقد اصبحنا نسبح للأسف في محيط الرداءة و نعيش وسطها ومِنّا من يمتدحها و الأدهى من هذا كله أننا نزرعها في الأجيال القادمة فتراهم ينقمون من قيم المجتمع و يقنعون بالسهل و يسعون وراء السراب ثم نقوم بعد ذلك بلعن تصرفاتهم و زمانهم. وما هم إلا بضاعتنا رُدّت الينا.