(2) تم في الجزء الأول من هذا البحث –ولو بإيجاز كبير- تحديد الانعكاسات الخطيرة للاعتقاد في أن الله يكره الإنسان على إتيان الأفعال التي سيحاسب عليها، مع توضيح سوء تفسير الجبرية ونسبيا الوسطية لنموذج النصوص القرآنية التي استشهدت بها. ومن خلال الجزء الثاني هذا سنستمر في مناقشة الشبهات التي علقت بالنص القرآني والمعيقات التي حالت وتحول دون قراءته قراءة عقلية توافق مقاصد النص وتستجيب لحاجيات المسلمات والمسلمين حاليا وتجعل خاصية صلاحية القرآن لكل زمان ومكان فعلية وواقعية، خاصة فيما يرتبط بموضوع المشيئة الإلهية ومسؤولية الإنسان فيما يقوم به من أفعال وموقع العدالة الإلهية منهما. الشبهات التي تواجه النص القرآني فيما يخص هذا الموضوع سنقف عليها من خلال عمل تطبيقي على النص 93 من سورة النحل، قوله تعالى: (وَلَوْ شَآءَ 0للَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً لكِن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). ثم نستحضر نصوصا أخرى في نفس الموضوع لكن بشكل عشوائي، *(...مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا...)، *(اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) *(إِن تَحْرِصْ عَلَىٰ هُدَاهُمْ فَإِنَّ 0للَّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِين) *(وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِندِكَ ۚ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ) (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِ0لْمُهْتَدِينَ). كل من قرأ هذه النصوص لابد وأن تتولد لديه الملاحظات التالية: -الالتباس والخلط، حيث يصعب تحديد من المقصود بعبارة (من يشاء)؟ هل الله أو الخلق؟ -تناقض ظاهر النصوص القرآنية إذا نجد مرة أن الله هو الذي يظل ويهدي وأخرى الإنسان هو الذي يضل ويهتدى. كما أن هناك عبارتي، (الله على كل شيء وكيل) (وقل كل من عند الله)، فماهي دلالتهما؟ أهي إكراه الله للإنسان على إتيان الأفعال؟ فإن كان الأمر كذلك، فكيف ستكون طبيعة الحكم الإلهي؟ أو بصيغة أخرى، بأي حق يهدي الله بعض خلقه ويضل البعض الآخر؟ وذلك الذي لم يهديه الله وأضله، فبأي حق يعاقبه؟ إنه إشكال مطروح ومنذ القديم لكن بحكم أن معظم المجتهدين السلفيين كان تفسيرهم للنص يتم بشكل معزول ويقف عند ظاهر النص أو حرفيته، مثل قوله تعالى: (وَلَوْ شَآءَ 0للَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً لكِن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)، فتفسير الجبرية لهذا النص قد أدى بها إلى مقولة أن هناك ظلم إلهي (علا الله عن ذلك علوا كبيرا) وقد قبلت بالأمر وقالت (بالظالم المطلق). أما التفسيرات السابقة الأخرى فنجدها مختلفة، فهناك من غلب على تفسيراته عدم الوضوح مثل الطبري في قوله: (بأن وفَّق هؤلاء للإِيمان به والعمل بطاعته فكانوا مؤمنين، وخذل هؤلاء فحَرَمَهم توفيقه فكانوا كافرين). ومثله قال القرطبي. أما ابن كثير فقد أعفي نفسه من عناء تفسير عبارة (يضل من يشاء ويهدي من يشاء). في حين "محمد الغزالي" في كتابه "عقيدة المسلم" قال:(نحن نجد أن إطلاق المشيئة في آية تقيده آية أخرى يذكر فيها الاختيار الإنساني صريحا). أي أن إضلال الله لشخص، معناه: إن هذا الشخص آثر الغي على الرشاد، فأقره الله على مراده، وتمم له ما ينبغي لنفسه...لكن تفسير الزمخشري للنص كان منطقيا جدا وشكل أرضية صلبة لانطلاق اجتهادات عقلية في إطار جوهر الإسلام. وبعد أن وقفنا على بعض ما آلت إليه اجتهادات السلف في الموضوع، فما هي القيمة المضافة التي سيأتي بها المنهج السياقي لتجاوز المعيقات السالفة الذكر وإثبات قيمتين دينيتين أساسيتين؟ هما: -حكم الله عادل -الإنسان مسؤول عن كل الأفعال التي سيحاسب عليها. بداية نعرف بمعنى: (كل من عند الله) و(الإيمان بالقدر خيره وشره) ونحدد علاقتهما بالموضوع. إن النصين معا لهما نفس المعنى وهو أن الله هو الدي خلق الخير وكذلك الشر، لأن وجود الشيء ونقيضه حكمة إلهية. فأي صفة في الوجود لا معنى ولا قيمة لها إلا بوجود نقيضها لأنها منه تكتسب الوجود والمعنى... فمثلا لا يمكن أن نتكلم عن مفهوم الحياة في غياب مفهوم الموت ولن يكون معنى لجهنم دون الجنة ونفس الشيء للكرم والبخل والأمانة والخيانة والكذب والصدق...ومنه فإن هاذين النصين بعيدين كل البعد عن الجبر بل هما نوع من الاختيار الذي أكرم الله به الإنسان من جهة وابتلاه به من جهة ثانية. ولنعود لموضوعنا الذي سنبدأه بتحديد المفهومين المفتاح وهما يهدي ويضل: إن معنى يهدي يأتي بمعنى الارشاد والتوجيه أو العون والتوفيق على اختيار سبيل الله. أما يضل فمعناها التيه والضلال وما يتبعه من هلاك بسبب ترك الله لكل من كذب وتولى عن كتبه ورسله... أما عن موقع النص من النصوص الأخرى في نفس الموضع فهو كالتالي: * (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا) (وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ 0للَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ 0لْعَزِيزُ 0لْحَكِيمُ) *(إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) * (إِنَّ 0لَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ 0للَّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ 0للَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) * (إِنَّ 0لَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ 0لصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ 0لأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ 0لنَّعِيمِ) * (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ۖ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) *(وَقَالَ 0لَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ 0للَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلاۤ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذٰلِكَ فَعَلَ 0لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى 0لرُّسُلِ إِلاَّ 0لْبَلاغُ 0لْمُبِينُ) *(وَلَوْ شَآءَ 0للَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً لكِن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) إذا تمعنا في ترتيب النصوص الذي اعتمدنا فيها تاريخ القرآن وتقسيم النصوص تبعا للموضوع، سنلاحظ أن كل نص يوضحه ويبينه النص الذي يليه إلى أن تكتمل الصورة عند النص العينة وهو، سورة النحل النص 93. ولاستخراج الافكار واستقراء الآيات والدلالات، سنقسم النصوص إلى وحدات، -الوحدة الأولى تتضمن النصوص الثلاث الأولى وفكرتها هي أن الله أنزل كتابه كعقيدة وشريعة وبعث الرسل للتبليغ والبيان وترك لخلقه حرية الاختيار بين طريق الله وطريق الشيطان. - الوحدة الثانية وتشمل الثلاث نصوص الموالية، ومضمونها هو تحديد من يهديه الله وهم 0لَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ 0لصَّالِحَاتِ وجزاءهم الجنة ونعيمها. ومن لا يهديهم الله أي يضلهم، فهم 0لَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ 0للَّهِ ومآلهم النار وجحيمها وبالتالي فالله لا يظلم أحدا. -أما النص ما قبل الأخير فهو خطاب الله تعالى للكافرين حيث يخلي مسؤوليته مما انتهوا إليه من الكفر وما يترتب عنه من عذاب ويخبرهم على أن اتخاذهم المشيئة الإلهية كذريعة لتبرير كفرهم باطلة. ثم يأتي النص الموضوع *(وَلَوْ شَآءَ 0للَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً لكِن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) إن تحديد مفاهيم النص الموضوع وتحديد موضعه من النصوص الأخرى جعل معناه واضحا. فعبارة (يضل من يشاء). بداية (من) هي اسم الموصول للعاقل وتعود على الإنسان وليس على الله كما فهم البعض، ومن تمة فالمعنى هو أن من شاء واختار الضلال من الناس، فالله وفقه في ضلاله وتركه عرضة للهلاك جزاء سوء اختياره بعد أن جاءه رسل الله بالحق من ربه وكان خاتمهم محمد ص الذي منذ أن نزلت أول سورة وهي سورة "اقرأ" وخلال كل مراحل نزول الوحي كان يبلغ الناس ويبين لهم ويذكرهم بأوامر الله ونواهيه في العقيدة والأحكام ، لكن هناك من تولى وكذب فكانت نهايته جهنم ولم ينفعه أن يتخذ من مشيئة الله ذريعة لتبرير توليه وكفره لأن الله لا يهدي القوم الظالمين كما جاء في كتابه. أما (يهدي من يشاء) وهي عكس ما سبق ومعناها أنه سبحانه يعين ويوفق كل من شاء من الناس واختار الايمان بالله وكتبه ورسله وجعل مآله الجنة ونعيمها. ومن باب العلم بالشيء، فإن تفويض الله حق الاختيار لخلقه فيما يقومون به من الأفعال التي سيحاسبون عليها ليس لضعف فيه لأن: (وَلَوْ شَآءَ 0للَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً)، إنه على كل شيء قدير، لكن شاءت حكمته وإرادته التي تعلو عن الهوى والعبث وتقوم على تقدير محكم وحساب دقيق وسياق واضح يتمثل في أن الله أنزل كتبه وأرسل رسله وترك حرية الاختيار للإنسان (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ). بمعنى أن الله قد حمل الإنسان، بعد التبليغ والبيان، أمانة ومسؤولية توحيده وطاعته وقد أبت السماوات والأرض والجبال تحمل هذه الأمانة إشفاقًا منها أن تفشل في القيام بالواجب. لكن الإنسان، وإن كان ظلوما جهولا، باختياره ذلك فإنه هو المخلوق العاقل الذي أنعم الله تعالى عليه بالعقل والقلب وبالسمع البصر كأسباب لنجاحه في تقييم الأمور والتمييز بين الشر والخير. فيجتنب الأول ويتبع الثاني حتى يتسنى له أن يكون من أولياء الله الذين مثواهم الجنة ونعيمها، إلا من تولى وكذب واختار أن يكون من أولياء الشيطان بعد أن تبين له الهدى، فيكون مقره جهنم وعذابها الأليم. ومن باب توسيع باب الرحمة بعباده قد ترك الله سبحانه وتعالى هامشا كبيرا للتوبة والتراجع عن الضلال والكفر لمن ندم وأناب. ومن باب جوده وكرمه كان على كل شيء وكيل بمعنى أنه يعين الذين آمنوا في الصعاب والابتلاء ويوفقهم في العمل والسعي الصالح. أما الكافرون فقد حرمهم الله عونه وتوفيقه وتركهم للضياع والهلاك جزاء عدم اتباعهم طريق الله/الحق، وهو الذي لم يخلق الجن والإنس إلا ليعبدوه أي ليتبعوا أوامره ويجتنبوا نواهيه بعد أن يأتيهم الحق، قال سبحانه: (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها... وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) وقوله كذلك:( رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل). وعلى أساس ما قدم من شروح وبراهين لا يسعنا إلا أن نسطر على أن الله عادل وأن الانسان مسؤول عن اختيار أفعاله وما يترتب عليها من فضل وشكر أو عذاب وعقاب. وقبل الختم لابد من الإشارة إلى كون النصوص القرآنية التي ترد فيها إحدى العبارتين: (المصيبة) و(السيئة) -والتي يستشهد بها بعض من ينكرون مسؤولية الإنسان في اختيار الافعال التي سيحاسب عليها- لا علاقة لها بالجبر والاختيار والعدالة الإلهية وسنقف على معناها في عمل آخر إن شاء الله. *باحثة في الديانات وقضايا المرأة