أثار أخونا الباحث المقتدر الأستاذ مصطفى بن عمور مسألة وقت الإفطار من الصيام انطلاقا من قول الله تبارك وتعالى : ( وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ ) . فذهب إلى أن الآية صريحة في ضرورة الإمساك إلى الليل ، والليل عنده هو الظلام لأن الله يقول في كتابه المحكم : ( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ) ، ويقول كذلك : ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ) . وعليه ، فما دام هناك ضوء ، فالنهار لم ينته والليل لم يبدأ ، فلا يصح الإفطار لمجرد غروب الشمس ، لأن الغروب داخل في النهار وليس في الليل . واستنتج حفظه الله أن الإفطار ينبغي أن يكون بعد صلاة المغرب بأكثر من خمسة عشر دقيقة حيث ينتشر سواد الليل ويندثر النهار . وقد ألحّ علي كثير من المتابعين أن أدلي بدلوي في الموضوع ، فأجبت طلبهم بهذا المقال المختصر راغبا في إثراء النقاش ، ومحفَّزا بما عهدت من أخي مصطفى من سعة صدر ورغبة في الحوار الجاد . أقول مستعينا بالله : الغروب أولُ اللّيل في البيان القرآني : إن وقت الغروب حيث تختفي الشمس مع إمكان الرؤية هو بداية الليل وفناء النهار، فهو لحظة برزخية تكون فيها الغلبة للّيل . أي أن الليل يبدأ عند الغروب ، فلا يكون الضوء المتبقي نهارا ، بل هو آثاره وذيوله فقط . وكتاب الله المعجز أبان هذه الحقيقة وجلاّها في مواضع عدّة وبأساليب متنوعة ، فلا يجوز الاكتفاء بآيتين أو ثلاث لمن أراد إدراك مفهوم الليل في القرآن الكريم . وسنستعرض الآيات الدالة على ما قرّرناه لتستنير الرؤية للجميع : الشاهد الأول : قال تعالى : ( وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ ، وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ، وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ، لا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) . دلّت الآيات على أن الليل يبدأ فتكون بقايا ضوء النهار عالقة به ملتصقة فيسلخها الله أي يزيلها ويذهبها ليبقى الليل صافيا من شوائب النهار . وليس هناك وقت يصدق عليه هذا التوصيف البديع إلا زمن الغروب وما بعده بيسير، فيكون السلطان لليل رغم وجود شوائب النهار وبقاياه . وآخر الآيات تأكيد لبدايتها : فالنهار لا يسبق الليل ، أي أنه لا يختفي تماما قبل حلول الليل ، فإنه يبقى إلى أول الغروب ، ثم ينتهي بالغروب لكن الليل يدرك بقاياه وآثاره ثم تنسلخ منه وتنمحي . الشاهد الثاني : يقول الحق سبحانه : ( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ ، يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ، كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ) . التكوير هو اللّف والإحاطة ، ويبدأ الليل بغروب الشمس هجومه على آثار النهار ، فيحيط بها ويلفّها من كل جانب حتى يهيمن عليها ويسود ظلامه . فالآية تؤكد أن الغروب هو بداية الليل لأنه زمن التكوير الليلي . الشاهد الثالث : قال المولى جلّ في علاه : ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) ، وفي المعنى نفسه قال : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ). صرّحت الآيتان بما لا يدع مجالا للشك بأن الليل يشتبك ويتداخل مع النهار في زمانين منفصلين ، الأول عند الغروب وهو قوله : ( يولج الليل في النهار ) ، أي يسلطه عليه فيدركه حتى يقضي عليه ، والثاني عند الفجر وهو قوله : ( ويولج النهار في الليل ) . والمقصود أن هجوم الليل الكاسح يبدأ بالغروب ، فلا يسمى نهارا بأي حال من الأحوال لأن السلطان يكون للّيل ، فكأنه يطارد فلول النهار قبل بسط ظلمته والاستواء على عرشه. الشاهد الرابع : قال جل شأنه مؤكدا المعنى ذاته : ( يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا ) ، وقال كذلك : ( يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ). بمجرد غروب الشمس يصبح الليل غشاء للنهار ، ويطلب القضاء على بقاياه بسرعة لا تستغرق عندما يكون النهار قصيرا إلا دقائق ، ثم تزداد قليلا حين يقصر الليل . والمعنى أن الغروب هو بداية الليل ، ولا يشوش عليه وجود فلول النهار وخياله المتلاشي . ومحتوى آية : ( يغشي الليل النهار ) ، نجده ذاته في هذه الآيات : ( وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ، وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا ، وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا ، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ) ( وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ) ( وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ) فالليل يغشى الشمس / النهار ويسجّيها /يغطيها بظلامه شيئا فشيئا عند الغروب . وهو عين قوله تعالى : ( وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ، والصبح إذا تنفس ) ، أي أقبل ظلامه ليغشى النهار ويُسجّي الشمس فيخنق حركة الإنسان إلى أن يتنفس النهار صباحا . خلاصة الآيات : يبدأ الليل بالغروب ، فتمكث بقايا النهار وآثاره على شكل ضوء خافت يطول إلى حوالي نصف ساعة أو يقصر تبعا لطول الليل والنهار حسب الفصول . ونظرا لأن السلطان يكون حينئذ للّيل ، أي أن الحكم له بالقوة ، فإنه يبسط ظلامه متتبعا آثار النهار حتى يخنقها تماما ، ولا يزال مهيمنا حتى يتنفّس الصبح عند الإسفار ( والليل إذ أدبر والصبح إذا أسفر ) . وما دام الغروب بداية الليل ، فإن الإفطار من الصوم يكون قد حان أجله لأن الله تعالى لم يحدّد لنا أي وقت من الليل نفطر فيه ، ولم يربط المسألة بالظلام ، بل قال : ( ثم أتموا الصيام إلى الليل ) ، فيصدق على أوله ، بل يجوز تأويل الآية هكذا : ثم أتموا الصيام إلى أول الليل ، وهو الغروب ، ولا تلتفتوا إلى آثار ضوء النهار فإنها كالعدم . وإن شئت قلت : الغروب آخر النهار وبداية الليل ، فهو نهار وليل ، بدليل الآيات الصريحة في أن الليل يدرك النهار ويغشاه ويلتف عليه عبر عملية التكوير. ولا يتغير حكم الإفطار بالرغم من ذلك ، لأن الله علقه على دخول الليل ، وما دام الغروب بداية إدراك الليل للنهار ، فالصائم يكون حينئذ قد أتم صيامه إلى دخول الليل . المنهاج النبوي يؤكد ما فهمناه من الآيات : نجد الشرح العملي والتأكيد النبوي لما قرّرناه في هذه الأحاديث الصحيحة : الحديث الأول : روى الإمام البخاري عن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَهُ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ يَوْمَ الخَنْدَقِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ: مَا كِدْتُ أَنْ أُصَلِّيَ، حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ تَغْرُبُ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَا أَفْطَرَ الصَّائِمُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا» فَنَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بُطْحَانَ وَأَنَا مَعَهُ، فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى - يَعْنِي العَصْرَ - بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا المَغْرِبَ. جملة : ( حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ تَغْرُبُ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَا أَفْطَرَ الصَّائِمُ ) صريحة في أن الغروب بداية وقت الإفطار حتى ولو لم تصلّ المغرب . الحديث الثاني : في صحيحي البخاري ومسلم من حديث عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا، وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ» هذا صريح في أن الغروب آخر النهار وأول الليل ، فهو تأكيد للآيات الدالة على أن الليل يدرك النهار فيغشاه . وقوله عليه السلام : ( فقد أفطر الصائم ) بصيغة الماضي مع التأكيد بقد ، ترهيب مبطّن من تأخير الفطر إلى اشتداد الليل ، وحديث ابن أبي أوفى يشرح لنا ظروف حديث الفاروق . الحديث الثالث : أخرج أحمد والحميدي والبخاري عن ابْن أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ ، فَقَالَ لِرَجُلٍ: «انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي»، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الشَّمْسُ؟ قَالَ: «انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي»، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الشَّمْسُ؟ قَالَ: «انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي»، فَنَزَلَ فَجَدَحَ لَهُ فَشَرِبَ، ثُمَّ رَمَى بِيَدِهِ هَا هُنَا، ثُمَّ قَالَ: «إِذَا رَأَيْتُمُ اللَّيْلَ أَقْبَلَ مِنْ هَا هُنَا، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ». هذه الرواية صريحة في أن النبي صلى الله عليه وسلم أفطر عند الغروب مباشرة ، وكان الصحابي يظن أن الفطر معلق بالظلام فاستغرب وتردد ، ثم أكد له رسول الله أن أول إقبال الليل ، وهو الغروب طبعا ، بداية وقت الإفطار . وقد ساق أخونا رواية أخرى غامضة ، مما جعله يفهم منها أن الرسول لم يفطر إلا عند الظلام ، وهو استنتاج معارض لما دلت عليه الآيات الواضحات والأحاديث الصريحات . وهذه الرواية التي ساقها الأستاذ مصطفى : ( صحيح البخاري : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى أَوْفَى - رضي الله عنه - قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى سَفَرٍ ، وَهُوَ صَائِمٌ ، فَلَمَّا غَرَبَتِ الشَّمْسُ قَالَ لِبَعْضِ الْقَوْمِ : يَا فُلاَنُ قُمْ ، فَاجْدَحْ لَنَا » . فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَوْ أَمْسَيْتَ . قَالَ « انْزِلْ ، فَاجْدَحْ لَنَا » . قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَمْسَيْتَ . قَالَ : انْزِلْ ، فَاجْدَحْ لَنَا . قَالَ : إِنَّ عَلَيْكَ نَهَارًا . قَالَ : انْزِلْ ، فَاجْدَحْ لَنَا . فَنَزَلَ فَجَدَحَ لَهُمْ ، فَشَرِبَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قَالَ : إِذَا رَأَيْتُمُ اللَّيْلَ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ هَا هُنَا ، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ ) . علق سيدي مصطفى بقوله : ( النبي عليه السلام لم يفطر بمجرد غروب الشمس فلم يطلب ماء أو تمرا لتعجيل إفطاره وإنما طلب من الصحابي ... أن يهيئ الإفطار ( اجدح لنا) ومع ذلك راجعه الصحابي بقوله إن عليك نهارا . وهذا ما يؤكد أمرين أولهما أن غروب الشمس جزء من النهار : إن عليك نهارا ( تذكر صلاة البصر)، وثانيهما أن غروب الشمس ليس من عادة النبي عليه السلام أن يفطر عنده ... والصحابي لم يفطن إلى أن إعداد الإفطار سيتزامن الانتهاء منه مع الوقت الحقيقي لقطع الصيام ولذلك بعد أن جلس النبي عليه السلام ومن معه لتناوله قال لهم : إذا رأيتم الليل اقبل من ها هنا –أي المشرق – فقد افطر الصائم ... ) وهذا الجواب : أولا : الرواية الأولى صريحة في أن طلب الجدح كان والشمس مشرقة تميل إلى الغروب ، فيكون الوقت الذي استغرقته عملية الجدح كافيا للغروب التام ، أي أن النبي أفطر قبل اشتداد الظلام . ثانيا : لو كان مع رسول الله ماء أو تمر لما طلب الجدح ، فلا مجال للاعتراض بكونه لم يأكل تمرا ولم يشرب ماء لمجرد الغروب . ثالثا : الصحابي كان يظن أن الإفطار مرتبط بالظلام لذلك تردد وأنكر ، فكانت القصة تعليما له ولغيره بأن الغروب هو وقت الإفطار . رابعا : قوله صلى الله عليه وسلم : ( إِذَا رَأَيْتُمُ اللَّيْلَ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ هَا هُنَا ، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ ) ، تعليم للصحابي وتأديب على إنكاره المبني على الظن المشوب بالتقدم على رسول الله . خامسا : لا يجوز الاعتماد على حديث واحد ، أو رواية من بين رواياته لتقرير حكم شرعي دون اعتبار الآيات والأحاديث الواردة في الموضوع . سادسا : أخرج الإمام أحمد هذا الحديث بإسناد صحيح على شرط الشيخين بهذه الرواية الصارمة : " إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ هَاهُنَا، جَاءَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ ". وهي صريحة في أن إقبال الليل يتزامن مع الغروب ، فيحل الإفطار مباشرة. الحديث الرابع : عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لَا تَزَالُ أُمَّتِي عَلَى سُنَّتِي مَا لَمْ تَنْتَظِرْ بِفِطْرِهَا النُّجُومَ". قَالَ: وَكَانَ النَبِيّ - صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا كَانَ صَائِمًا أَمَرَ رَجُلا، فَأَوْفَى عَلَى شَيْءٍ، فَإِذَا قَالَ: غَابَتِ الشَّمْسُ أَفْطَرَ. ( صحيحا ابن خزيمة وابن حبان، والمستدرك ) وصححه الحاكم والألباني والأرنؤوط . وهذا واضح في أن الليل يبدأ بالغروب ، وأن النبي كان يقدم الفطر على صلاة المغرب . الحديث الخامس : عن أنس قال : ما رأيت النبي صلى الله عليه و سلم قط صلى المغرب حتى يفطر ولو على شربة من ماء . ( مصنف ابن أبي شيبة وصحيحا ابن خزيمة وابن حبان ، والمستدرك ، ومسند أبي يعلى ، وسنن البيهقي وصححه الأرنؤوط وحسين أسد . وفي مصنف عبد الرزاق الصنعاني عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يُصَلِّي الْمَغْرِبَ إِذَا أَفْطَرَ الْمُعَجِّلُ» وفي سنن أبي داود والترمذي بإسناد صحيح عَنْ أَبِي عَطِيَّةَ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَا وَمَسْرُوقٌ، فَقُلْنَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، رَجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَحَدُهُمَا يُعَجِّلُ الْإِفْطَارَ، وَيُعَجِّلُ الصَّلَاةَ، وَالْآخَرُ يُؤَخِّرُ الْإِفْطَارَ، وَيُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ، قَالَتْ: أَيُّهُمَا يُعَجِّلُ الْإِفْطَارَ، وَيُعَجِّلُ الصَّلَاةَ؟ قُلْنَا: عَبْدُ اللَّهِ، قَالَتْ: «كَذَلِكَ كَانَ يَصْنَعُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ». وقد كان رسول الله يصلي المغرب حين تغيب الشمس ، وقبل الليل الأسود ، حتى إنهم كانوا ينطلقون بعدها يبصرون مواقع سهامهم ويسمون المغرب "صلاة البصر" ، وهذا أقرّ به الأستاذ مصطفى واعتمده فيما ذهب إليه وهو على عكس ذلك لأنه لم يجمع الأحاديث الواردة في المسألة. فإذا كان النبي يقدم الإفطار على صلاة المغرب ، فهذا يقتضي أنه كان يفعل ذلك قبل حلول الظلام. ويشهد لذلك ما روى أحمد وأبو داود وابن الجارود والحاكم بإسناد حسن عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام عِنْدَ الْبَيْتِ مَرَّتَيْنِ، فَصَلَّى بِيَ الظُّهْرَ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ وَكَانَتْ قَدْرَ الشِّرَاكِ، وَصَلَّى بِيَ الْعَصْرَ حِينَ كَانَ ظِلُّهُ مِثْلَهُ، وَصَلَّى بِيَ الْمَغْرِبَ حِينَ أَفْطَرَ الصَّائِمُ، وَصَلَّى بِيَ الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ، وَصَلَّى بِيَ الْفَجْرَ حِينَ حَرُمَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ عَلَى الصَّائِمِ. في رواية عند أحمد : ( وَصَلَّى بِهِ الْمَغْرِبَ حِينَ أَفْطَرَ الصَّائِمُ، وَحَلَّ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ ) جملة : ( وَصَلَّى بِيَ يَعْنِي الْمَغْرِبَ حِينَ أَفْطَرَ الصَّائِمُ ) ، صريحة في أن دخول وقت الإفطار يتزامن ودخول وقت صلاة المغرب ، وهو الغروب. اعتراض: روى الإمام مالك في موطئه عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ كَانَا يُصَلِّيَانِ الْمَغْرِبَ حِينَ يَنْظُرَانِ إِلَى اللَّيْلِ الأَسْوَدِ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَا ، ثُمَّ يُفْطِرَانِ بَعْدَ الصَّلاَةِ ، وَذَلِكَ في رَمَضَانَ. وقد احتج به الأستاذ مصطفى على مذهبه ، وهذا الجواب : أولا : هذا الأثر يصلح دليلا على جواز تأخير الإفطار إلى سواد الليل ، ولا يصلح حجة على منع الإفطار بمجرد الغروب ، لأن الفعل المجرد لا يفيد إلا الجواز حتى ولو كان الفاعل هو رسول الله ، فكيف إذا كان الفاعل صحابيا ؟ بل إن رسول الله كان يواصل أحيانا إلى ما بعد العشاء ، فما احتج أحد بذلك على حظر الإفطار حين الغروب. وهذا الذي قلناه هو ما فهمه الجمهور من أثر الخليفتين رضي الله عنهما ، ففي معرفة السنن والآثار (6/286) للبيهقي : قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْكِتَابِ: كَأَنَّهُمَا يَرَيَانِ تَأْخِيرَ ذَلِكَ وَاسِعًا، لَا أَنَّهُمَا يَعْمَدَانِ الْفَضْلَ لِتَرْكِهِ بَعْدَ أَنْ أُبِيحَ لَهُمَا، وَصَارَا مُفْطِرَيْنِ بِغَيْرِ أَكَلٍ وَشُرْبٍ، لِأَنَّ الصَّوْمَ لَا يَصْلُحُ فِي اللَّيْلِ، وَلَا يَكُونُ بِهِ صَاحِبُهُ صَائِمًا وَإِنْ نَوَاهُ. ثانيا : تقدم حديث سيدنا عمر : «إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا، وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ» ، ومعه كل الأحاديث المرفوعة الدالة على أن الغروب أول الليل ، وأن النبي كان يفطر قبل الصلاة ، ويصلي قبل الظلام. فإذا خالف فعل الصحابي روايته الصريحة ، أخذنا بما روى وتركنا فعله . ثالثا : إنما فعل ذلك الخليفتان مرة أو مرات محدودة، فمن عادة الرواة أن يعبروا عن المرة الوحيدة بلفظ "كان" الدال على الدوام ، وقد نبه العلماء على وقوع هذا في الأحاديث المرفوعة . ولدينا روايات صريحة في أن ذلك لم يكن عادة الفاروق رضي الله عنه : روى مالك في الموطأ عن خالد بن أسلم أن عمر بن الخطاب أفطر ذات يوم في رمضان ، في يوم ذي غيم ورأى أنه قد أمسى وغابت الشمس ، فجاءه رجل فقال : يا أمير المؤمنين ، طلعت الشمس . فقال عمر : الخطب يسير وقد اجتهدنا. وهو في مسند الشافعي من طريق مالك . قلت : الغيم غير الليل الأسود ، ففي الأول يكون هناك مجال للرؤية ، وفي الثاني لا مجال . والأثر صريح في أن الفاروق أفطر لمجرد اعتقاده غروب الشمس ، أي أنه لم ينتظر شدة الظلام واسوداد الليل . فدل ذلك على أنه كان يفعل بمدلول الحديث المرفوع غالبا ، ويؤخر إلى سواد الليل حينا لبيان الجواز . وفي مصنفي عبد الرزاق وابن أبي شيبة عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، قَالَ : كَانَ عُمَرُ يَكْتُبُ إلَى أُمَرَائِهِ أَنْ لاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُسوِّفِينَ لِفِطْرِكُمْ ، وَلاَ تَنْتَظِرُوا بِصَلاَتِكُمَ اشْتِبَاكَ النُّجُومِ. في لفظ : «أَنْ لَا تَكُونُوا مِنَ الْمَسْبُوقِينَ بِفِطْرِكُمْ، وَلَا الْمُنْتَظِرِينَ بِصَلَاتِكُمُ اشْتِبَاكَ النُّجُومِ» وفي مصنف عبد الرزاق عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفْلَةَ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: «صَلُّوا صَلَاتَكُمْ هَذِهِ الصَّلَاةَ، وَالْفِجَاجُ مُسْفِرَةٌ لِلْمَغْرِبِ» وفي مصنف ابن أبي شيبة عَنْ قَيْسٍ ، قَالَ : نَاوَلَ عُمَرُ رَجُلاً إنَاءً إلَى جَنْبِهِ حِينَ غَرَبَتِ الشَّمْسُ ، فَقَالَ لَهُ : اشْرَبْ ، ثُمَّ قَالَ : لَعَلَّك مِنَ الْمُسَوِّفِينَ بِفِطْرِهِ ؛ سَوف سَوف. رابعا : حميد بن عبد الرحمن لم يدرك الفاروق ولم يسمع منه ، لكنه أدرك سيدنا عثمان وكان صغيرا ، فذكر سيدنا "عمر" في الأثر خطأ من الرواة ، أو نسيان من حميد، أو يكون الجزء المتعلق به منقطع السند فلا يصح لجهالة راويه ، ثم إنها رواية شاذة مخالفة للآثار عن الفاروق . فيصح الأثر عن عثمان دون عمر رضي الله عنهما . خامسا : لا يجوز الاستناد إلى فعل طائفة من الصحابة دون غيرهم عند تقرير الأحكام العظيمة. فإذا صح ما روي عن الفاروق وعثمان ، فقد صح عن غيرهما خلافه : - في مصنف ابن أبي شيبة عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَزِيدَ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَقُولُ لاِبْنِ النَّبَّاحِ : غَرَبَتِ الشَّمْسُ ؟ فَيَقُولُ : لاَ تَعْجَلْ ، فَيَقُولُ : غَرَبَتِ الشَّمْسُ ؟ فَيَقُولُ : لاَ تَعْجَلْ ، فَيَقُولُ : غَرَبَتِ الشَّمْسُ ؟ فَإذَا قَالَ : نَعَمْ ، أَفْطَرَ ، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى. وعن البيهقي في السنن الكبرى عن حِبَّانَ بْنَ الْحَارِثِ : أَتَيْتُ عَلِي بْنَ أَبِى طَالِبٍ وَهُوَ مُعَسْكِرٌ بِدَيْرِ أَبِى مُوسَى، فَوَجَدْتُهُ يَطْعَمُ فَقَالَ : ادْنُ فَكُلْ. فَقُلْتُ : إِنِّى أُرِيدُ الصَّوْمَ. فَقَالَ : وَأَنَا أُرِيدُ الصَّوْمَ. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ قَالَ لاِبْنِ النَّبَّاحِ : أَقِمِ الصَّلاَةَ. وهذا يذكرنا بما جرى للصحابي مع رسول الله في قصة الجدح ، فابن النباح مؤذن أمير المؤمنين استنكر تعجيله بالإفطار قبل الظلمة . وفي هذا الأثر رد على إخوتنا الشيعة لأنه عن الإمام الأول. -وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود فِي بَيْتِهِ، فَوَجَبَتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} ثُمَّ قَالَ: «هَذَا وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، حِينَ أَفْطَرَ الصَّائِمُ، وَبَلَغَ وَقْتُ هَذِهِ الصَّلَاةِ» . -وفي مصنف ابن أبي شيبة عَن عَلْقَمَةَ ، قَالَ : أُتِيَ عَبْدُ اللهِ بِجَفْنَةٍ ، فَقَالَ لِلْقَوْمِ : اُدْنُوَا فَكُلُوا ، فَاعْتَزَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ : مَا لَكَ ؟ قَالَ : إنِّي صَائِمٌ ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ : هَذَا وَالَّذِي لاَ إلَهَ غَيْرُهُ حِينَ حَلَّ الطَّعَامُ لآكِلٍ. - وفي مصنف ابن أبي شيبة عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَيْمَنَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: «دَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَأَفْطَرَ عَلَى عِرْقٍ، وَإِنِّي أَرَى الشَّمْسَ لَمْ تَغْرُبْ» وعند سعيد بن مَنْصُور فِي السّنَن عَن أَيمن أَنه نزل عَلَى أبي سعيد فَرَآهُ يفْطر قبل مغيب القرص. قلت : أيمن هو الذي ظن أن الشمس لم تغب لأنه لم ير الظلام، أما سيده أبو سعيد الخدري فيدري أنها غابت وحلّ له الإفطار. والآثار هذه صريحة في أن موالينا عليا وابن مسعود والخدري كانوا يفطرون عند الغروب. نتائج البحث: أولا : يبدأ الليل في القرآن بغروب الشمس الذي هو أوله ، ولا عبرة بالإبصار حينئذ. ثانيا : كان رسول الله يفطر حين تغيب الشمس وقبل الصلاة أي قبل الظلمة ، ولم نجد حديثا شاذا عن هذه السنة إلا أن ينوي الوصال ، وهو خاص به. ثالثا : كان الصحابة يفطرون عند الغروب ، وما روي عن الفاروق من الإفطار عند الليل الأسود لم يصح ، والمشهور عنه خلافه . وصح ذلك عن ذي النورين عثمان ، وليس فيه إلا جواز التأخير إلى الظلمة أحيانا . رابعا : جمعُ الآيات والأحاديث والآثار الواردة في الموضوع هو الطريق القويم لإدراك الحكم الشرعي السليم. استدراك : قوله تعالى : ( فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً ) ، خرج مخرج الغالب . أي أن الغالب على الليل هو الظلام باستثناء أوله لحظة الغروب ، والغالب على النهار الضياء والإبصار باستثناء أوله لحظة الفجر ، والنادر لا حكم له ولا عبرة به ، لذلك قرّر الله أن آية الليل ممحوّة بالظلمة ، وأن آية النهار مبصرة بالضوء ، ولم يعر للغروب والفجر اهتماما لأنهما قصيران في حكم العدم . وفي الختام أحيي الأستاذ مصطفى وأشكره على تحريك الرغبة في بحث المسألة. رمضان مبارك كريم [email protected]