جلست مع صديق على مقعد عمومي في مدينة أجنبية متقدمة، والراجلون ذاهبون آيبون بسحناتهم المختلفة وأبشارهم المتنوعة وملابسهم المتباينة. فلم ألاحظ أي اختلاف يميزهم عن أهل وطني، يؤهلهم للتفوق عليهم في الميدان الحضاري. فسألت جليسي: ما الذي جعل هؤلاء القوم، الذين لا يختلف ظاهرهم عن أبناء بلدنا، في الشمال الإفريقي، يحتلون الرتبة الأولى بين الدول في العالم في التقدم التقني والمادي بصفة عامة. أجاب جليسي دون أن يمنح نفسه مهلة تفكير، وكأنه كان يتوقع مني هذا السؤال: إن السبب يرجع إلى أن هؤلاء هم أبناء وحفدة المهاجرين الذين يحملون معهم عقلا منفتحا ونفسا طموحة لتحسين وضعيتهم المادية والاجتماعية في ما تهيأ لهم من فرص العمل. ومازال الوافدون على نفس النهج، سواء في تحصيل العلوم في الجامعات أو في المهن والحرف المتوفرة. فحققوا بعملهم المنتظم الدؤوب التقدم الذي بوّأهم هذه المكانة في العالم. دفعني رد جليسي إلى التفكير في الهجرة التي عرفها الإنسان منذ فجر التاريخ، والتي تحولت في وقتنا الحاضر إلى ظاهرة، ذات بعد عالمي، محفوفة بالمخاطر يقتحم أهوالها سكان عدد من الهاربين مما يعانونه في مجتمعاتهم من شظف العيش وويلات الحرب وانعدام الأمن، يتحدّوْن القوانين الجارية عازمين على أن يجدوا لهم في الدول المستقبلة ما يحقق أحلامهم، فصارت بذلك حركة الهجرة ظاهرة مطروحة للدراسة في جدول أعمال الكثير من الدول الأوربية بصفة خاصة، لما توفره للدول المستقبلة من يد عاملة ضرورية لنموها وتطورها وما تمنحه للمهاجرين الوافدين من فرص العمل يكفيهم عناء البطالة ويكسبهم مهارة مهنية ترفع من مستوى عيشهم وعملهم. غير أن ظروف الدول المستقبلة المتأزمة اقتصاديا والمشاكل الطارئة التي تهدد أمن مواطنيها، والسياسة الوطنية التي تعمل كل دولة في إطارها، تفرض عليها، أولا وقبل أي شيء آخر، الاهتمام بضمان الشغل والأمن والخدمات الاجتماعية لمواطنيها. في هذه الحالة، تجد بعض الدول نفسها مضطرة إلى إغلاق حدودها الجيوسياسية في وجه هؤلاء المعذبين من البشر، الذين يشكل استقبال تدفقهم في ظروف الأزمة الاقتصادية التي حلت بها في السنوات الأخيرة، ضغطا على ميزانيتها المتذبذبة، رغم وعيها الكامل بأن هذا الإغلاق لا يختلف في المنظور الإنساني عن إغلاق قلوب الشعوب التي زرع الله فيها بذور الرحمة والمواساة، وما تفرضه القيم الإنسانية من إسعاف المحتاجين المضطرين في إطار المواثيق الدولية، حفاظا على كرامة الإنسان، التي تعمل في إطارها الكثير من وكالات الأممالمتحدة والمنظمات المدنية غير الحكومية، من أجل استئصال جذور الجوع والفقر وانعدام الأمن الذي يؤدي إلى هذا النوع من الهجرة غير المنظمة. إن القيم الإنسانية التي تتشبث بها الشعوب، والتفاعل الساري بين المجتمعات مهما بعدت المسافات، وعجز دولة بمفردها، كيفما كانت قوتها، عن حل مشاكل الهجرة وغيرها من المشاكل العامة التي يطرحها العصر، يدعو الدول بالتالي، إلى الاتفاق والالتزام بالتعاون في ما بينها، لمواجهة التحديات التي يفرضها العصر الحاضر. إن الذين يقتحمون مصاعب الهجرة، والهجرة السرية بصفة خاصة، عادة هم الشباب الذين ليس لهم حظ الحصول على تأشيرة الدخول إلى البلدان التي يرومون الوفودعليها، بسبب الظروف الإدارية التي تفرضها دول المهجر، فتضطر نفوسهم الأبية الطامحة إلى مستقبل أفضل، إلى اقتحام المخاطر وركوب أهوال البر والبحر متشبثين بأي أمل، مهما كان واهيا، من أجل الوصول إلى البلد المنشود قصد تحسين وضعيتهم الاقتصادية والاجتماعية، ومساعدة أفراد عائلاتهم التي تركوها خلفهم. يحفزهم على ذلك ما يشاهدونه في الشباب المهاجرين من النجاح الذي حققه طموحهم الكبير وعزمهم الأكيد واستعدادهم النادر على العمل بكل ما أوتوا من قوة من أجل التخلص من أوضاعهم السيئة التي كانت تفرضها عليهم ظروف العيش في بلدانهم، وما تقدمه لهم وسائط الإعلام، من الشواهد على ما يحققه بعض أبناء المهاجرين من الارتقاء إلى مراتب عالية في المجال السياسي والعلمي والفني والرياضي في بلدان المهجر، يفتخر ويتباهى بهم أبناء بلدهم الأصليون، كما يتباهى بهم المضيفون أنفسهم، بفضل طموح آبائهم وأمهاتهم الشباب المهاجرين الأولين، رغم قلة بضاعتهم في المعرفة والتوجيه. مما يدل دلالة واضحة على أن قيمة كل إنسان، تكمن في طموحه وجده واجتهاده، وفي ما يسديه من خدمات لأبناء المجتمع الذي يحتضنه ويعيش فيه، وما يتحلى به من الفضائل وقيم الأخلاق، وما يساهم به من عمل في رفع شأن مجتمعه الذي ينتمي إليه. ورغم اللغط والصخب والأحداث المؤسفة التي تتعالى منها أصوات تدين جميع المهاجرين بسبب جريمة ارتكبها أحدهم، فإن أصواتا أخرى تعلن بقوة وإصرار أن لا علاقة لازمة بين الوطن أو الأمة وبين ما يأتيه الإنسان من إحسان أو أوزار. والمتفحص في التاريخ يجد من الدلائل ما يكفي للبرهنة على هذه الحقيقة وعلى مساهمة المهاجرين الغرباء في ازدهار البلد الذي وفدوا عليه واستوطنوه بفضل جهودهم ومثابرتهم على العمل بجد وإخلاص. وفي شمال أمريكا والقارة الأوسترالية أكبر دليل على نجاح المهاجرين في البلدان التي أقاموا فيها وحققوا بعرق جبينهم ما تحظى به اليوم من التقدم والرخاء. وفي أوربا القريبة منا دليل آخر على ما ساهمت به سواعد المهاجرين من إعادة بنائها بعدما دمرها أبناؤها الأوربيون في الحربين العالميتين. إن ما نشاهده يوميا من معاناة المهاجرين، يدفع إلى التفكير في الأوضاع المزرية التي يعيشها عدد من الشبان الذين يحملون طموحا كبيرا في نفوسهم، ولا يرون تحقيقه إلا في الدول الغربية المتقدمة اقتصاديا، فيضطرهم طموحهم أحيانا إلى المغامرة والمخاطرة بحياتهم. بينما يجد غيرهم من الذين تتم الموافقة على إقامتهم من الحكومات المستقبلة ومن الجمعيات المدنية والمواطنين المتطوعين من المساعدة في الشؤون المالية والإدارية والتعليمية ما يؤهلهم للاندماج في المجتمع الغريب عنهم لغة وثقافة، وييسر لهم إيجاد عمل يضمن لهم العيش الكريم والمساهمة في تقدم المجتمع الذي آواهم. إن وضع المهاجرين الراهن يتطلب، في ما يبدو، من الرؤساء السياسيين وممثلي الشعب المنتخبين ودكاترة الاقتصاد المتمكنين ورجال الدين الخيّرين أن يجدوا الحلول الناجعة لهؤلاء المهاجرين، سواء في البلدان المستقبلة أو المصدرة، لاستئصال جذور داء البطالة والفقر وعدم الأمن الذي تستشري أعراضه في جسم كل البشر، لعلهم يخففون من المآسي التي يعاني منها هؤلاء المعذبون. وأحسب أن هذا لا يمكن تحقيقه، في الأجل القريب، إلا إذا اعتبرت المجتمعات المستقبلة أن المهاجرين،على اختلاف ثقافاتهم وعاداتهم، أفراد من أسرة بشرية واحدة، في حاجة إلى إسعافات أولية، من أجل أن يندمجوا في بيئتهم الاجتماعية الجديدة، كما يشاهَد ذلك في الإجراءات التي وضعتهاعدد من المؤسسات الحكومية المستقبلة وعمل المتطوعين من أجل أن يندمج هؤلاء الوافدون في المجتمع الذي يحتضنهم، يتبادلون معه المصالح في جو يسوده الاحترام المتبادل والتعاون على التنمية، وفسح المجال لإلحاق أبنائهم بمدارس تعليمية تمنحهم فرصة المعاشرة، تساعد على إبعاد الشعور بالتوجس خوفا من الآخر والتربية على التعايش وعدم النظر إلى بعضهم البعض كنظرة غريب إلى الغريب.