الملك محمد السادس يعزي أفراد أسرة المرحوم عبد القادر لشهب        انعقاد الاجتماع الخامس للجنة العسكرية المختلطة المغربية – الموريتانية    نظام الجزائر على شفا الهاوية.. هل تقترب لحظة الحسم؟    برفقة وفد من رجال الأعمال الفرنسيين.. السفير الفرنسي في الرباط يواصل زيارة الأقاليم الجنوبية        الحكومة تخصص 14 مليار درهم في مالية 2025 لاحداث مناصب الشغل    تبخر مشروع بناء قاعة سينمائية بالناظور بسبب عدم التزام الجهة المنظمة لمهرجان سينما الذاكرة المشتركة    اختتام فعاليات الدورة السابعة من مهرجان القصبة للفيلم القصير    "النخلة" يتفاعل مع اعتقال تالموست    فتاح: الحكومة "متفائلة جدا" بشأن النمو الاقتصادي في 2025    وزارة التربية الوطنية ترخص للأساتذة تقديم ساعات إضافية في المدارس الخصوصية    لقجع: أسعار بعض الأدوية في المغرب مضاعفة 5 مرات ونرفض الاحتكار وفرض أثمنة مرتفعة بحجة "الصناعة الوطنية"    المغرب يجدد التأكيد أمام مجلس السلم والأمن على دعمه لعملية سياسية شاملة في ليبيا    الحرس المدني الإسباني يحجز أكثر من 4.7 أطنان من الحشيش بالتعاون مع المديرية العامة لمراقبة التراب الوطني    هيئة رئاسة فرق الأغلبية تتجاهل المبادرة البرلمانية لتقريب وجهات النظر بين وزير العدل والمحامين    الأحمر يُوشّح تداولات بورصة الدار البيضاء    عاجل.. تأجيل محاكمة إلياس المالكي لهذا السبب    منيب: المهداوي مظلوم والمغرب يعيش تكميم الأفواه بكل الطرق    المرض يُغيب المالكي عن المحكمة .. والدفاع يرفض المزايدة بالأمازيغية    "أكديطال" تنخرط في مشروع للطب 4.0    لقاء مغربي إسباني بالرباط لبحث سبل تأهيل وتحديث قطاع اللحوم الحمراء    يوعابد: العاصفة الجوية "دانا" ستؤثر على المغرب ولكن بكيفية ضعيفة    تقديم كتاب بجنيف عن صحراء المغرب    إتحاد طنجة يبحث عن ملعب لاستضافة المغرب التطواني بدلا من ملعب سانية الرمل    سبتة تطالب مدريد بالدعم المالي للتعامل مع قضية القاصرين في المدينة    وزير النقل يريد ربط الحسيمة بخدمات القطار بدون سكة حديدية!    حملة توعية بضرورة الكشف المبكر عن سرطان الرئة    "لارام" تورط جامعة كرة القدم في حفل "سخيف" لتقديم قميص المنتخب الوطني    مجلس عمالة الدار البيضاء يخصص 150 مليون لكل من الرجاء والوداد    "تصريح خطير".. وزير المالية الإسرائيلي: 2025 هو "عام السيطرة" على الضفة الغربية    التغير المناخي يهدد حياة اللاجئين في مناطق النزاع والكوارث الطبيعية        الجيش الإسرائيلي يعلن فتح معبر جديد لدخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة    تقارير.. المغرب من أكبر مستوردي الأدوية الروسية في إفريقيا    التمسماني: طنجة كانت وستظل مثالًا يحتذى به في احترام التنوع الثقافي والرياضي    أخنوش أمام قمة الرياض: جلالة الملك يضع القضية الفلسطينية ضمن ثوابت السياسة الخارجية للمملكة    الدولار إلى أعلى مستوى خلال أربعة أشهر    قمة الرياض تؤكد على مركزية القضية الفلسطينية        أبو خلال مرشح للعودة إلى عرين أسود الأطلس لتعويض إلياس أخوماش المصاب        كيوسك الثلاثاء | الوقاية المدنية أنقذت أزيد من 25 ألف شخص من الغرق في 2024    تحسين ظروف السكن ل16 ألف و300 أسرة كمعدل سنوي خلال الولاية الحكومية الحالية    التصفيات الإفريقية تقترب من الحسم    بروفايل |يوسي بن دافيد.. قائد دبابة "ميركافا" بجيش الإحتلال على رأس "مكتب الاتصال الإسرائيلي" في الرباط    مقتل 4 جنود إسرائيليين شمال قطاع غزة    دراسة: تناول الدهون الصحية يقلل من احتمالات الإصابة بالسرطان    الصين تطلق بنجاح صاروخا تجاريا على متنه 15 قمرا اصطناعيا    قمة الرياض مكرر.. كل شيء تغير، ولا شيء تغير ..    علاج واعد جديد لفقدان السمع المفاجئ الحاد    خلط في خبر وفاة محمد المسيح وشقيقه عبد الاله    نصائح للوقاية من آلام الظهر والرقبة بسبب الجلوس لفترات طويلة    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هَويّةُ المُتوسِّطي وحِوَار الضِفّتيْن
نشر في هسبريس يوم 11 - 05 - 2016

هذا العرض أعدّ ضمن ندوة "الموروث التاريخي، والثقافي، والحضاري، وهويّة المتوسّطي وحوار الضفتين" فى إطار فعاليات ووقائع "المهرجان الدّولي للسّينما والذاكرة المشتركة" فى دورته الخامسة المنعقد مؤخراً بمدينة الناظور من 2 إلى 7 من الشّهر الجاري ( مايو)2016 .
بحكم الموقع الجيوستراتيجي الممتاز الذي تتميّز به البلدان الواقعة على جانبي ضفّتي المتوسّط المغاربيّة منها الواقعة فى شمال غرب إفريقيا، أوالواقعة جنوب غرب أوربّا ، حيث كانت وما تزال هذه البلدان تشكّل حلقة وصل متّصلة، وآصرة تقاربٍ وتدانٍ وثقى منيعة، وملتقى حضارات متعدّدة المشارب ،ومشتل ثقافات متنوّعة،وجسوراً تواصلية متماسكة بين غربيّ الضفتين المتوسطتين، وعليه فقد إعْتبُرت هذه الأصقاع المترامية الاطراف، من البلدان القليلة التي حباها الله موقعاً مرموقاً على الصّعيد الجغرافي، ممّا هيّأ لها أن تضطلع بدور تاريخي، وحضاري، وثقافي،وعلمي مشترك على إمتداد العصور والدّهور .
"إسبانيا والمغرب نموذجاً"
خلال هذه العجالة سنسلّط الأضواءَ على المغرب وإسبانيا كنموذج فريد ، على أن نعود، أو بالأحرى يعود أحد الكتّاب الأكارم، أو إحدى الكاتبات الكريمات للحديث عن باقي البلدان للتعريف بباقي البلدان الأخرى التي تكوّن فيما بينها سلسلة حصينة موصولة الحلقات ،موثوقة العُرى كانت تمتدّ يوماً مّا فى شقّها الجنوبي– قبل أن أن يجزّئها، ويقسّمها الإستعمار - من ملتقى البحرين طنجة بمحاذاة المحيط الأطلسي الهادر إلى منحنى نهر النيجر والتخوم السينغالية، جنوباً، ومن نفس المنطلق إلى الحدود الليبية المتاخمة لمصر المحروسة شرقاً،وهي نفس الطريق التي قطعها الرحّالة المغربي الشّهير إبن بطّوطة الطنجي فى القرن الرابع عشر وما وراءها من البلدان، والأمصار، والأصقاع النائية البعيدة لما وراء بلاد فارس، والسّند، والهند، والتخوم الصينية وما أطلق عليه هو نفسه من بلاد الوقواق.. دون أن يحمل معه فى جيوب سترته، أوعباءته، أوجلبابه، أو مخلاته أيَّ وثيقة سفر..!.
فأقول إنّه بحكم الموقع الجغرافي الفريد ، فقد تميّز المغرب منذ أقدم العهود السحيقة بتعدّد حضاري، وتنوّع ثقافي ثريّ ، حيث تعاقبت عليه،وظهرت على أديمه - مثله مثل سائر جاراته البلدان المغاربية الأخرى- دول، وحضارات، وثقافات قديمة على إمتداد التاريخ ، منها الحضارات الفينيقية، والبونيقية، والموريطانية، والرّومانية،وصولاً إلى الفترة الإسلامية التي تميّزت بإعتناق ساكنة هذه البلدان للإسلام.ويشير العلاّمة المرحوم عبد العزيز بنعبد الله - فى حالة المغرب على وجه الخصوص- إستناداً إلى مؤرخين ثقات من أمثال ابن خلدون،وابن الخطيب، والبكري،وسواهم :" أنّ الحِمْيرييّن بقيادة صالح بن منصور الحِمْيَري هم مَنْ نشر الإسلامَ بين الأمازيغ في منطقة الرّيف المغربي وأقاموا إمارة نكور أو إمارة بني صالح ، وكانت بالتالي هي أوّل إمارة إسلامية ظهرت فى المغرب سنة 710م ببلاد الرّيف "،والتي وصل نفوذها حتى تخوم مدينة مكناس . ثم أسّست بعد ذلك أيّ بعد إنصرام 78 سنة بعد هذا التاريخ دولة الأدارسة سنة 788م. وكان مؤسّس هذه الدّولة - كما هو معروف- هو المولى إدريس الأوّل ابن عبد الله، الذي حلّ بالمغرب الأقصى وإستقرّ بمدينة وليلي الرّومانية المعروفة باللاّتينية : ب (Volubilis) حيث إحتضنته قبيلة آوربة الأمازيغية، ودعمته حتى أنشأ دولته. ومعروف كذلك أنّ دولاً أخرى تأسّست قبل وصول الإسلام إلى هذه الرّبوع من أمثال (نوميديا ،موريتانيا، تنجيس )،وتعاقبت على المغرب بعد كلٍّ من إمارة بني صالح بالنكور ، والأدارسة بوليلي بالتوالي دولُ المُرابطين، والمُوحّدين، والمَرينييّن، والسّعديين، وصولاً إلى الدولة العلوية الحالية. تاريخ المغرب وتراثه - والحالة هذه - مستوحيان من ينابيع أصيلة،وروافد وافدة متداخلة متعدّدة، وإن إختلفت مصادرها،وأصولها، وينابيعها،وتباينت لغاتها وألسنتها بين أمازيغية أصيلة، وعربية إسلامية، وصحراوية حسّانية، وما فتئت العديد من النصوص، والوثائق، والمظانّ، وأمّهات الكتب والمخطوطات، والأشعار، والآداب، والفنون، والعلوم التي أبدعها كتّاب، وفلاسفة، وعلماء،وشعراء، ومؤلفون مغاربة أقاموا واستقرّوا، أو ولدوا وترعرعوا، فى هذا الشقّ القصيّ الجميل الكائن فى الشمال الغربي لإفرقيا، إلى جانب المعالم التاريخية، والمآثر العمرانية، والقلاع الحصينة، والدّور، والقصور، والجوامع والصوامع، والبساتين الفسيحة، والحدائق الغنّاء التي أبهرت الناظرين على إمتداد العصور والدهور،ما فتئت شاهدةة على أوج مجده العتيد، و إشعاع ماضيه التليد.
ذيل الطاووس !
وعن إطلاق إسم" ذيل الطاووس"، على المغرب هذا الصّقع النائي البعيد ،الذي كان يُطلق عليه حتى وقت قريب ب " المغرب الاقصى" يُحكى أنّ رحّالة من أهله زار ذات مرّة بغداد التي كانت تُسمّى إبّانئذ مدينة السّلام ..! ، ( ويا حسرتاه ويا لسخرية الأقدار..) فى زمن لم تكن فيه القارّة الأمريكية قد إكتشفت بعد ، وكان الناس يعتقدون فى ذلك الأوان أنّ العالم ينتهي عند هذا السّاحل الأقصى الذي يوجد ببلاد المغرب،وكذا فى إسبانيا بمنطقة جليقة أو غاليسيا حيث يوجد مكان إلى اليوم يسمّى (فينيشتيرّي) ومعناه حيث تنتهي الأرض، ويقال إنّ الفاتح عقبة بن نافع دخل بحصانه فى مياه المحيط الأطلسي على الشواطئ المغربية حتى غطّتت مياهُ البحر قوائمَ فرسِه ، وإستلّ سيفَه ورفعه إلى أعلى فى العنان مخاطباً المحيطَ الزّاخر،والبحرَ الهادر قائلاّ له : "والله لو كنت أعلم أنّ وراءك أرضاً لفتحتها بسيفي هذا "...! المهمّ أنّ رحّالتنا عندما كان ببغداد رمقته عيون الخليفة، وما أن أبلغوه بوجود هذا الغريب بالمدينة حتّى أمر جندَه بإحضاره إليه فوراً، فلمّا مثل بين يديّ الخليفة قال له متهكّماً، وساخراً،مزدرياً : يا مغربي قيل لي إنّك قدمتَ من بلدٍ قصيٍّ بعيد ، وقيل لي كذلك أنّ الدّنيا هي على شكل طائر كبير، ذيله المغرب الأقصى (مستهزئاً ). فأجابه الرحّالة المغربي على الفور: أجل يا أميرَ المؤمنين هذا صحيح، ولكنّ الذين أخبروكم بذلك نسوا أن يقولوا لكم أنّ هذا الطائر هو الطاووس..وأنّ أجملَ ما فى الطاووس ذيلُه ....!
تفاعل وتمازج الضفتين
من المعروف أنّ السكان الأصلييّن الأمازيغ قد تفاعلوا وتمازجوا مع ثقافات مختلف شعوب ضفّتي حوض المتوسّط، وإفرقيا، كما ظهت على إمتداد تاريخ المغرب تأثيرات، وتفاعلات لشعوب مثل الفينيقييّن،والقرطاجيين، والرّومان، والوندال،(ينطق هذا الإسم فى اللغة الإسبانية فَاندالوسْ)،( الذي إختلط وأحدث لبساً لدى بعض المؤرّخين لكونه قريباً فى النطق من كلمة " الأندلس"..!) ثم البيزنطييّن، كما تفاعلوا فيما بعد مع العرب الوافدين مع الفتوحات الإسلامية ،ثمّ مع الحضارات الشرقية، وقد ظهرت سمات هذه التأثيرات في اللغة الأصليّة للأمازيغ لتي تمازجت مع اللغات الأخرى، ونتجت عنها فيما بعد العاميّة المغربية التي تمخّضت،وإنبثقت عن اللّغتين الأمازيغية والعربية ثمّ لحقتها كلمات وتعابير من لغات لاتينية دخيلة أبرزها الإسبانية والفرنسية،والبرتغالية وسواها الشئ الذي جعل المغرب يحظى بتنوّع ثقافي، وتعدّد لغوي أسهم بقسط وافر في إغناء هوّية سكّانه،وإثراء لحمة لسانه، على إختلاف مشاربهم، وشرائحهم وتعدّدها وتميّزها وينابيعها الأمازيغية ،والعربية ،والحسّانية فضلاً عن روافدها الإفريقية، والأندلسية، وتأثيرات روافد حوض المتوسط، وسواها من التأثيرات الأجنبية الأخرى ، فضلاً عن المكوّنات المستحدثة التي أفضت إلى تنوّع ثقافي ولغوي مميّز،.ويؤكّد العلامة المرحوم عبد العزيز بنعبد الله فى بحث رصين له:" أنّه عكس ما يُعتقد، فإنّ العامية المغربيىة هي أقربُ اللهجات العربيّة إلى الفصحى التي زادتها غنىً، وثراءً ،وتعدّداً،وتنوّعاً الأمازيغية لغة البلاد الأصلية ".
المغرب إذن بلد متعدّد الأعراق والإثنيات، وهو يزخر بثقافة متنوّعة،. تمتدّ جذورها فى عمق تاريخه الطويل، بالإضافة إلى سكّانه الأصليين من الأمازيغ فقد توافدت عليه العديد من الهجرات المتوالية القادمة من المشرق، ومن جنوب صحراء إفريقيا، ومن الشّمال، وكان لكلّ هذه المجموعات البشرية أثر كبيرعلى التركيبة الإجتماعية للمغرب التي عرفت معتقدات سماوية منذ أقدم العهود، كاليهودية،والمسيحية،وأخيراً الإسلام. ولكلّ منطقة من المناطق المغربية خصوصيّاتها التي تتميّز بها عن سواها من المناطق الأخرى، والتي أسهمت في صنع فسيفساء الثقافة المغربية، ووضع الإطار المتميّز للإرث الحضاري المغربي، الذي أصبح ذا طابع معروف فى العالم أجمع. هذه الخصوصيّات المكوّنة لنسيجه الإجتماعي هي التي تطبع هذه الأنسجة الحضارية الثريّة ذات الألوان الفسيفسائية المتنوّعة ،حيث تنطوي تحت هذه العناصر برمّتها مكوّنات العديد من المظاهر الثقافية ، والحضارية التي تطبع المغرب بطابع خاص ومميّز .
المكوّنات الأساسية للهويّة الوطنية
الدّفاع عن اللغة العربية فى هذه الربوع ، لا ينبغي أن يثنينا أو يبعدنا ،أو يقصينا أبداً عن العناية، والإهتمام، والنّهوض، والدّفاع كذلك بشكلٍ متوازٍ عن عناصر هامّة، وأساسيّة أخرى فى المكوّنات الأساسية الأصليّة والأصيلة للهويّة الوطنية فى هذا البلد وهي اللغة الأمازيغية وثقافتها،وفنونها، وحضارتها، وموروثاتها، وتقاليدها وعاداتها، وفى حالة البلدان المغاربية على سبيل المثال ، معروف أنّ اللغات الأمازيغية الأصليّة فيها قد تعايشت مع لغة الضّاد منذ وصول أو دخول الإسلام إلى هذه الأصقاع،فى مجتمعات تتّسم بالعدّد، والتنوّع، والإنفتاح ،ليس بين لغاتها ولهجاتها الأثيلة المتوارثة وحسب، بل وحتى مع اللغات الأجنبية الأخرى كالفرنسية، والإسبانية ،والإنجليزية، والإيطالية وسواها، هذا التعايش المتناغم أفضى إلى ظهور ونبوغ علماء أجلاّء فى هذه اللغة أو تلك ، وكان الشاعر "العربيّ" الأرومة فى هذا السياق يفتخر، ويتباهى، ويزهو بإخوانه من البربرالأمازيغ ، والعكس صحيح، قال قائلهم : (وأصْبَحَ البِرُّ مِنْ تِكْرَارِهِ عَلَماً / عَلىَ الخَيْرِ وَالنُّبْلِ والمَكْرُمَات) . فكلمة البِرّ (بكسر الباء) التي تعني الخيرَ والإحسان إذا كُرّرت مرّتين أصبحت (برّبرّ).(البربر) التى لم يأنف حجّة التاريخ ،وقيدوم علم الإجتماع صاحب المقدّمة عبد الرحمن إبن خلدون بأن يضعها ويدبّج بها عنوانَ كتابه الموسوعي الكبير الذائع الصّيت وهو: ( كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر) . وهذا شاعر آخر من "الرّيف " ينشد متحسّراً على مدينته ( لعلّها مدن أوحواضر النكور، أو المزمّة، أوبادس) التي إندرست، وإندثرت، وتلاشت بعد التعايش والإزدهار الذين عرفتهما من قبل، مُستعمِلاً ثلاث لغات فى بيت واحد من الشّعر وهي : العربيّة ، والرّيفيّة، والسّودانية، فقال: ( أثادّرثْ إِينُو مَانيِ العُلُومُ التيِ دَكَمْ/ قَدْ إنْدَرَسَتْ حَقّاً وَصَارَتْ إلى يَرْكَا ) .وقيل إنّ " يَرْكَا " باللغة السّودانية تعني الله، وبذلك يكون معنى البيت فى هذا السياق: أيا داري أين العلومُ التي كانت فيك، قد إندرست حقّاً وصارت إلى الله !.
التعدّد الثقافي والتوّع الحضاري
الحديث عن التعدّد الثقافي والتوّع الحضاري بين الضفتين يحلو، ويطول، والتاريخ لا يُقرأ في هنيهة، إنّ الزّائر الذي يأتي للمغرب يلمس التاريخَ حيّاً نابضاً قائماً في كلّ مظهر من مظاهر الحياة ، دراسة هذا التاريخ، و التعمّق فيه وإستخراج العناصر الصالحة منه أمرٌ لا مندوحة لنا عنه، وهو أمر ينبغي ان يولى أهميّة قصوى ،وعناية فائقة ،وتتبّعاً متواصلاً من طرف الدّولة والخواصّ ، ومن لدن مختلف الجهات العلمية والتاريخيىة التي تُعنى بهذه المواضيع للتعريف بهذه الذخائر، ونشر الوعي وتأصيله بشأنها لدى أبناء جلدتهم ، ولعمري إنّ لفي ذلك تجسيداً وتجسيماً للعهود الزّاهرة التي عاشها أجدادنا على إمتداد العصور الحافلة بالعطاء الثرّ ، والتعايش والتسامح، والتآخي والتداني، والإشعاع الثقافي والعلمي الباهر الذي شكّل وما يزال يشكّل من هذه الأرض الطيبة المعطاء جسراً حضارياً متواصلاً بين الشرق والغرب، وبين مختلف الأجناس، والأعراق، والإثنيات ،والملل، والنحل، والديانات ، كلّ أولئك أعطوا لهذا البلد شخصية خاصّة ،وطابعاً مميزاً فى هذا الصُّقع القصيّ الجميل من العالم .
العناصرالصّالحة المشتركة، والمكتسبات الهامّة لمورثاتهما الثريّة، الحضارية منها والتاريخية، والثقافية، واللغوية، تحفز البلدين الجارين (المغرب وإسبانيا) أكثر من أيّ وقتٍ مضى لوضع قاطرة التعاون الثنائي بينهما على السكّة الصّحيحة ، لتقريب المسافات، وإستغلال، وإستخراج كلّ العناصرالإيجابية بينهما، في عصرٍأصبحت فيه التكتّلات الإقتصاديّة، والسياسيّة، والثقافيّة، والبشريّة، والإنسانيّة بين الدّول والشعوب تتبلور بشكل لم يسبق له مثيل، وذلك لزيادة تعزيز الأرضية الصّلبة لعلاقاتهما المتينة فى مختلف مرافق الحياة المعاصرة ،وتقوية أوجه التعاون بينهما فى مختلف المجالات .
إنّ إسبانيا والمغرب بحكم موقعهما الجغرافي والجيوستراتيجي المتميّز، كبلدين متقابلين ، إنطلاقاً من"ماضٍ" حضاريّ تقاسماه ، و"ثقافةٍ" رفيعةٍ نَسَجَا خيوطها سويّاً، و"إشعاعٍ" متألق إنصهرا فى بوتقته، وبحكم"الحاضر" الواعد الذي يعيشانه ، و"المستقبل" المشترك الذي يتطلّعان إليه ، كلّ ذلك يجعل منهما بلديْن واعييْن كلّ الوعي بالدّور الحيوي الهامّ المنوط بهما لتحقيق المزيد من التقارب،والتداني، والتعاون، والتفاهم، والعمل على نَسْج عُرَى صداقة أوثق، وترسيخ أواصر مودّة أعمق.ومدّ جسور العاون بينهما فى مختلف الميادين. الصّداقة القائمة بينهما ، والتعاون المثمر الذي يجمعهما يَعكسان مقدارَ الرّغبة التي تحدوهما لزيادة بلورة طموحهما ، وتوسيع وتعميق تعاونهما فى شتىّ المجالات، والقطاعات السياسيّة، والتجاريّة،والاقتصاديّة، والثقافيّة، والعلمّية، والإجتماعيّة، والسياحيّة، وفى مخططات التعاون الثنائيّة، والمشاريع الإستثمارية، والإنمائيّة، والصناعية الكبرى المشتركة إلخ . كلّ ذلك ينبغي أن يواكبه تبادلٌ ثقافيٌّ خِصب متنوّع ، وتعاون علمي مكثّف يزيدهما تعارفاً وتقارباً ،وتفاهماً وتناغماً، وإشعاعاً وتألّقاً ،ويعمل على زيادة تمتين أواصرالصّداقة والمودّة، وتوفير الإحترام المتبادل بينهما. وعليه فإنّ القولة المأثورة القائلة: "إنّ المغربَ يضاهي دوحةً عُظمىَ، جُذورُها ضاربةٌ فى عمق التراب الإفريقي، وتتنفّس أغصانُها الباسقة ،وأوراقُها اليانعة فى الرّبوع الأوربية" ستظلّ فى نظر الملاحظين حقيقة ماثلة لا مراء فيها بين البلدين..!.
ولا غرو ولا عجب فالمروث التاريخي، والثقافي، والحضاري المشترك الزّاخر بين البلدين يشكّل ولا ريب أرضية صلبة، وحقلًا خصباً ممّا جعلهما ينفردان بخصوصّيات، ومميّزات قلّما نجدها لدى سواهما من البلدان الأخرى ،الشئ الذي أفضي الى خلق نوعٍ من الإستمرارية والتواصل الدائمين في علاقات البلدين منذ عدّة قرون ،إذ يرجع التبادل الدبلوماسي بينهما منذ القرن السّابع عشر حيث بدأ بشكلٍ إنفرد به المغرب، وكان له قصب السّبق فى ذلك ، حيث كانت البعثات، والسّفارات، والرّحلات الدبلوماسيّة المغربية هي البعثات الوحيدة الأولى التي زارت إسبانيا بدءاً أو إنطلاقا من بعثة إبن عبد الوهّاب الغسّاني سفير السّلطان المولى إسماعيل خلال حكم العاهل الاسباني كارلوس الثاني (1691-1690)، ومروراً بالسّفراء الزيّاني(1758) وأحمد المهدي الغزال (1766) وإبن عثمان المكناسي(1779) والكردودي (1885) إلخ.
دور المثقفين المغاربة والإسبان
وما فتئ المثقفون، فى كلتا الضفّتين يؤكّدون التواصل الحاصل بين الضفتين ، والدّور المحوري الهامّ الذي تلعبه الثقافة،أو ينببغي أن تضطلع به الثقافة على وجه الخصوص فى توثيق وتعميق العلاقات بين الشعوب الواقعة على جانبي الضفتين بما فيهما الشعبان الإسباني والمغربي، للتصدّي للأفكار الجاهزة، والأحكام المسبّقة، والخاطئة المنتشرة،والمُستشرية فى البلدين، فقد أصبح الإهتمام فى بثقافة الضفتين يتنامى بالفعل بشكلٍ مُرضٍ بينهما، خصوصاً في أوساط النّخب الثقافية، وكذا عند فئات واسعة من الجمهور، من شأنه أن ينسج جسورَ الاهتمام لمعرفة واقع وثقافة وتاريخ البلد الآخر. وينبغي على الجانين التصدّي فى هذا السياق للمفاهيم الخاطئة التي لا تقدّم صّورتهما الحقيقية ، والتي تنتشر أساساً لدى الشرائح ذات الثقافات المحدودة ،وبالتالي فالوسيلة الوحيدة لمحو هذه التصوّرات الخاطئة هي العمل سوياً على واجهات التربية، والاعلام، والثقافة،والفنون. إنه مجال يتطلب، منّا بذل مَجهودٍ مُضنٍ من أجل تعبئة مختلف وسائل الإعلام قصد نقل الصّورة الحقيقية والإيجابية عن كلا الجانبين، وتصقيلها،وتقديمها بالشكل الصّحيح غير المغلوط . ولم يألُ المثقفون الإسبانُ والمغاربةُ بالفعل وسعاً فى بذل الجهود المتواصلة والإضطلاع بدور طلائعي فى تطوير وتفعيل وتقوية العلاقات الثنائية بينهما، وعلى سبيل المثال وليس الحصر، فى هذا السياق يجدر بنا التذكير ببعض الجهود المبذولة فى هذا السبيل خلال العقود والأعوام الأخيرة من طرف مثقفي البلدين، ففى عام 1978 تمّ تأسيس "مجموعة المثقفين الإسبان والمغاربة" التي ضمّت صفوةً من الكتّاب، والأدباء، والمفكّرين المغاربة والإسبان التي نافت على 40 مثقفاً من المغرب ( كاتب هذه السّطور كان من بين الموقّعين على هذه الوثيقة) ، و46 مثقفاً من إسبانيا الذين طالبوا بضرورة تحريك وتفعيل العلاقات الإسبانية المغربية على مختلف المستويات ، وإعطائها نفساً جديداً ، وإذكاء روح التعاون والتفاهم والحوارالدائم بينهما. وقد أفضت هذه البادرة المبكّرة إلى تنظيم عدّة ندوات، وطاولات مستديرة هامّة حول مختلف أوجه التعاون الثقافي، والأدبي، منها" معاهدة الصداقة وحسن الجوار والتعاون" بين الطرفين التي ألحّت بدورها على ضرورة تفعيل وتحريك الجانب الثقافي بينهما. فضلاً عن إتفاقية الشّراكة بين المغرب والإتحاد الأوربيّ. كما أوصت القمة الإسبانية المغربية المنعقدة عام 1996 بإنشاء " لجنة إبن رشد"، التي تمّ تأسيسها بإشبيلية عام 1997، وتنظيم عام1998 ندوة " المغرب وإسبانيا : الحوار والتعايش". وبمبادرة من جماعة من المثقفين، ورجال الأعمال، والسياسة المغاربة تمّ تأسيس "منتدى الحوار المغربي- الإسباني" الذي عبّر عن إقتناعه الرّاسخ هو الآخر بأهمية العلاقات بين البلدين، وضرورة تطويرها وتنويعها فى مختلف المجالات، وإرساء قواعد ثابتة ودائمة للحوار والتفاهم والتعايش بين الطرفين.كما تمّ تأسيس "مركز الدّراسات الأندلسية والحوار بين الثقافات"، وتنشيط النادي الاقتصادي للمقاولين من خلال المجلس الاقتصادي المغرب- إسبانيا وسواها من المبادرات،والخطوات الأخرى التي كانت تهدف برمّتها إلى هذه الغايات، والأهداف التي تخدم المصالح المشتركة للبلدين .
ينبغي لنا والحالة هذه، البحث عن كثب عن الوسائل الناجعة، والآليات العاجلة لزيادة إثراء الحوار الثقافي القائم بين البلدين لإقرار أرضية صلبة للتفاهم بينهما فى مختلف المجالات،السياسية، والإقتصادية، والتجارية تتماشى وتتناغم مع المعطيات التاريخية،والموروثات الثقافية المشتركة بينهما، وإقتناعهما بالتأثير الإيجابي المتبادل بين ضفّتيْ البلدين على إمتداد القرون، ممّا جعل من منطقة حوض المتوسّط عبر التاريخ فضاءً ثقافياً خصباً، كان له تأثير بليغ على أوربّا، وشمال إفرقيا، ومختلف البلدان المجاورة ، كما جعلت "الأندلس" فى عزّ أوجها منهما بلدين متلاحمين، ومتقاربين، ومتشابهين، ومشتركين فى العديد من المظاهر الحضارية، والثقافية، واللغوية، والأدبية، والإبداعية، وفى مختلف الأشكال الفنيّة، والتصاميم المعمارية ، والهندسية ،ومرافق الحياة الأخرى، هذه التأثيرات،والبصمات المتشابهة طبعت البلدين إلى حدٍّ أصبح معه المغرب ينفرد بعلائق تاريخية وطيدة، وخصوصيّات ثقافية مميّزة مع جارته إسبانيا بين الضفّتين .
اللغة والثقافة الإسبانيتان
ويلاحظ فى الوقت الرّاهن حضور متزايد للّغة والثقافة الإسبانيتين فى مختلف ربوع المغرب اللتين كادتا فى المدّة الأخيرة على التلاشي، والزّوال، والإندحار ، إلاّ أنّ لغة وثقافة "سيرفانطيس" طفقتا تسترجعان مكانتيْهما السّابقتيْن لدى المغاربة الذين زاد إهتمامُهم لتعلّم هذه اللغة الجميلة، والتفاعل على أوسع نطاق مع الأنشطة الثقافية التي تنظمها المعاهد الثقافية الإسبانية الموجودة بالمغرب ،والتي تحمل إسمَ صاحب "دون كيشوت"(سيرفانطيس) الذي طبّقت شهرته الآفاق، الشئ الذي يبشّر بتفاؤل كبير بمستقبل الثقافة الاسبانية فى هذا البلد الذي يعتبر بل هو أقرب بلد من إسبانيا جغرافياً، وتاريخياً، وتقافياً، وإجتماعياً، وطبعاً، وتطبّعاً ! ، ولا شكّ أنّ التبادل الثقافي بين البلدين سيزداد زخماً ومتانة بين الأجيال الجديدة المقبلة في أفق بلورة فضاء مشترك يتقاسمه الشّعبان على مختلف الواجهات.
هذه الجهود المتواصلة، والاتصالات المبكّرة والحثيثة بين المغرب وإسبانيا خلقت نوعاً من الإستمرارية ، زادها العنصرُ الجغرافي بينهما متانةً وقوّةً وتواصلاً ، فضلاً عن الجانب الحضاري والثقافي المميّز الذي يُعتبر عنصراً فريداً في بابه في تاريخ الأمم ،كلّ هذه الخصوصيّات طبعت علاقات البلدين على إمتداد الحقب والعهود. ولعَمْرِي إنّ هذا التقارب والتواصل والحوارالدائم القائم بينهما الذي لم ينقطع ، ولم يفترّ قطّ عبر القرون لهو خير رصيدٍ، وضمان لبناء مستقبل واعد حافل بالآمال الكبيرةبينهما .
العلاقات الثنائية بين البلدين
آخر قّمة مغربية - إسبانية عقدت بالعاصمة الإسبانية مدريد على مستوىً عالٍ والمتمثلة فى إجتماع اللجنة المختلطة بين البلدين لم تأت محض صدفة بل جاءت بعد أن أصبحت ظروف تحسين وتطوير العلاقات الثنائية بين البلدين جدّ مواتية فى الوقت الرّاهن أكثر من أيّ وقتٍ مضى، فالعلاقات الثنائية القائمة بينهما تعكس بشكل جليّ التوافق السياسي المتناغم السائد بين البلدين فى الوقت الراهن، ذلك أنّ الظرفية الحالية التي يجتازها العالم اليوم فى مختلف المجالات السياسية، والأمنية، والإقتصادية، ومحاربة الإرهاب، ومكافحة الجريمة المنظَّمة، والاتّجار في المخدرات، ومُعضلة الضغط المتزايد للهجرة غير الشرعية من إفريقيا جنوب الصّحراء ومكافحتها،والقضاء على آفة وشأفة البطالة،والتقريب بين الفوارق الإجتماعية، وضمان الحريّات العامّة، والضرورة المُلحّة َلصَوْن حقوق الإنسان بشكلٍ جدّي وشفّاف،والدفاع عن المصالح العليا للبلدين ،والحفاظ على أمنهما،وإستقرارهما ،كلّ ذلك يحتّم عليهما مزيداً من العمل المشترك الحثيث فى هذا الإتجاه .
وهذا ما تمّ تدارسه، وتبنيه بالفعل خلال هذه القمّة الأخيرة في لقاء تجنب خلاله الطرفان مختلف المسائل، والمشاغل الشائكة، والنزاعات العالقة بين البلدين التي من شأنها أن تثير نوعاً من الجدل أو التباعد أو التنابذ بيهما والتركيز فى المقام الأوّل على المصالح الحيوية الهامة المشتركة التي تحظى بإهتمامهما الأولويّة، وإنشغالاتهما الآنيّة فى الوقت الراهن، وفى طليعتها معضلة مكافحة الإرهاب. و قد حرص البلدان خلال هذه القمّة على مناشدة ضرورة تفعيل الاتحاد المغاربي، باعتباره شريكاً إستراتيجياً هامّاً للبلدان المُطلة على ضفّتي حوض المتوسط فى شقيّه الشمالي والجنوبي. وجدّدا التأكيد في بيانهما المشترك الصادر بعد القمّة على دور الاتحاد المغاربي في الحوار مع الاتحاد الأوروبي ومبادرة "5+5" التي ستسضيف الرباط اجتماع وزراء خارجيتها الأوروبيّين والمغاربيّين لاحقاً. ونالت جهود تطوير "الاتحاد من أجل المتوسط" حيّزاً مهمّاً من المباحثات المغربية - الإسبانية التي عرضت لتطورات نزاع الصحراء والملفات الإقليمية وتنسيق الجهود في الحرب على الإرهاب، وأحقيّة المغرب فى مطالبه وتوقه لإستكمال وحدته الترابية.
وجاءت هذه القمّة المغربية الإسبانية بعد أن عرفت العلاقات بين البلدين بالفعل تطوراً كبيراً في السنوات الأخيرة أملته حاجة البلدين لرفع التحديّات ، ، نظراً للإضطرابات الخطيرة التي عرفتها بعض البلدان العربية المجاورة، والأزمة الاقتصادية والعولمة. ولا يألو المغرب وُسْعاً لبذل جهوده الدؤوبة على هذه الجبهات ، كلّ ذلك وسواها من المُعطيات التي تحتم على البلدين أن يعملا متلاحمين يداً فى يد من أجل التغلب على التحدّيات، وتجاوز الإكراهات التي تفرض نفسها عليهما على وجه الخصوص، وعلى المنطقة بشكل عام.
فليس من باب الصّدفة أن يصبح المغرب شريكاً إقتصادياً إستراتيجياً مرموقاً لإسبانيا على المستوى الإفريقي ، كما أنه ليس إعتباطاً من جهةٍ أخرى، أن تصبح إسبانيا الشريك الأوّل للمغرب على المستوى الخارجي وواحدة من المستثمرين الرئيسييّن فيه،متقدمةً حتى على فرنسا فى هذا القبيل التي كانت حتى الأمس القريب "الوِجهة المأثورة" التي لا محيد للمغرب عنها بشكل مبالغ فيه ، ولقد حققت إسبانيا هذاه الغاية بفضل الفرص الهائلة التي يوفّرها المغرب، البلد المنفتح على العالم لفائدة المقاولين، والصنّاع، والمستثمرين الإسبان وغير الإسبان.
و الأرقام خير شاهد على ذلك، فإسبانيا أصبحت بالفعل للمرّة الأولى في التاريخ، أوّلَ شريكٍ تجاريٍّ للمغرب الذي أضحى هو الآخر ثاني أكبر زبون لإسبانيا من خارج الاتحاد الأروبي بعد الولايات المتحدة الأمريكية. وبلغت قيمة صادرات إسبانيا للمغرب سنة 2013 ما مجموعه 5,508 مليار أورو، أي بزيادة قدرها 4 بالمائة مقارنة مع سنة 2012. بوجود ما ينيف على أزيد من 800 مقاولة إسبانية تشغّل آلاف الأشخاص. وبالتالي يبقى المغرب الوجهة الأولى إفريقيّاً، وعربيّاً للصّادرات الإسبانية بفضل أزيد من 20 ألف مقاولة تصدر منتجاتها إلى المغرب، وهو دليل على الثقة والشّفافية، وتوفير فرصٍ إستثمارية هائلة في جميع المجالات بمعدّل 52 في المائة من الاستثمارات الإسبانية في إفريقيا، متبوّئاً بذلك مكانة بارزة لدى المستثمرين الإيبيريّين. وبفضل الموقع الجغرافي المتميّز للمغرب، وتحديث بنياته التحتية، وإستقراره الاقتصادي والسياسي، فإنه أصبح يتمتّع بعلاقات إستراتيجية تقليدية متميّزة مع أقرب بلدٍ جار أوربيّ له في جنوب البحر الأبيض المتوسط بإمتياز.
المغربَ دوحةً عُظمىَ
إنّ القولة المأثورة: "إنّ المغربَ يضاهي دوحةً عُظمىَ، جذورها ضاربة فى عمق التراب الإفريقي، وتتنفّس أغصانُها الباسقة ،وأوراقُها اليانعة فى الرّبوع الأوربية" ستظلّ فى نظر الملاحظين حقيقة ماثلة لا مراء فيها بين البلدين، فالصّداقة القائمة بينهما ، والتعاون المثمر الذي يجمعهما يَعكسان مقدارَ الرّغبة التي تحدوهما لزيادة بلورة طموحهما ، وتوسيع وتعميق تعاونهما فى شتىّ المجالات، والقطاعات السياسيّة، والتجاريّة،والاقتصاديّة،والثقافيّة، والعلمّية،والإجتماعيّة، والسياحيّة، وفى مخططات التعاون الثنائيّة، والمشاريع الإستثمارية،والإنمائيّة، والصناعية الكبرى المشتركة إلخ . كلّ ذلك ينبغي أن يواكبه تبادلٌ ثقافيٌّ خِصب متنوّع ، وتعاون علمي مكثّف يزيد هما تعارفاً وتقارباً ، وتفاهماً وتناغماً، وإشعاعاً وتألّقاً ،ويعمل على زيادة تمتين أواصرالصّداقة والمودّة، وتوفير الإحترام المتبادل بينهما.
أصبحت ظروف تحسين وتطوير العلاقات الثنائية بين البلدين بالتالي جدّ مواتية فى الوقت الرّاهن أكثر من أيّ وقتٍ مضى، فالعلاقات الثنائية القائمة بينهما تعكس بشكل جليّ التوافق السياسي المتناغم السائد بين البلدين فى الوقت الراهن، ذلك أنّ الظرفية الحالية التي يجتازها العالم اليوم فى مختلف المجالات السياسية، والأمنية، والإقتصادية، ومحاربة الإرهاب، ومكافحة الجريمة المنظَّمة، ومعضلة الهجرة غير الشرعية ، ومكافحتها،والقضاء على آفة البطالة،والتقريب بين الفوارق الإجتماعية، وضمان الحريّات العامّة، وَصَوْن حقوق الإنسان،والدفاع عن المصالح العليا للبلدين ،والحفاظ على أمنهما،وإستقرارهما ،كلّ ذلك يحتّم عليهما مزيداً من العمل المشترك فى هذا الإتجاه.
إستشراف آفاق المستقبل
البلدان إذن مطالبان للعمل سوياً من أجل إستشراف آفاق المستقبل، ومجابهة التحدّيات الأمينة، والبيئية، والسياسية بشكل مشترك. أخذاً بعين الإعتبار بالموقع الجيو- إستراتيجي الممتاز للمغرب كبوّابة لإفريقيا والعالم العربي ، وكذلك الموقع المتميّز لإسبانيا كبوّابة لأوروبا، والعمل من أجل إعطاء دفعة قوية للعلاقات الثنائية بينهما في شتىّ المجالات، فالمكانة التي تحتلها إسبانيا في وجدان وقلوب المغاربة كبلد تربطها بهم العديد من الأواصر التاريخية الوثقى، والثقافية، والإنسانية، والاقتصادية، والخصائص المشتركة بينهما تقدّم الدليل على أنّ المدّ والجزر الذي قد تعرفهما العلاقات الثنائية في بعض الأحيان لا يمكن أن تؤثّر على الثوابت التي تقوم عليها روابط البلدين ولا على القواسم المشتركة بينهما .
ولا شكّ أنّ الرّغبة لدي الطرفين الإسباني والمغربي ملحّة وأكيدة لإحياء مشروع الربط القارّي الثابت المتعلق بضفتيْ مضيق جبل طارق، ومشروع تعزيز الربط الكهربائي. وإضفاء دينامية جديدة على العلاقات الثنائية،وسبر آفاق التعاون فى مختلف المجالات ، وتوطيد دعائم شراكة إستراتيجية للمستقبل لما فيه مصلحة الشعبين الجارين.
هذا الزّخم في العلاقات القائمة فى الوقت الراهن بين البلدين يعكسه كذلك تطوّر ملموس وهائل في تعاونهما الثنائي في المجالات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والإنسانية، والدبلوماسية، وهما في إطار العولمة، يستشرفان آفاقاً جديدة للتعاون لرفع التحدّيات العديدة للقرن الذي نعيش فى كنفه. وقد وقّع كلٌّ من المغرب وإسبانيا مؤخراً على عددٍ من إتفاقيات التعاون الثنائي في مجال التنمية، والتعاون الثقافي، والتعليمي، والرياضي ، وأخرى في المجالات الدبلوماسية، والسياحية، والنقل، والإدارة الإلكترونية،وسواها من المجالات الحيوية الأخرى. وذلك نظراً لتقاسم البلدين لرؤىً سياسية متناغمة ومشتركةً بشأن مختلف القضايا الإقليمية والدولية،ومراعاة منهما لمصالحما المشتركة .
التذكير بما لا ينبغي نسيانه
إلاّ أنّه لكي نكون واقعييّن فى هذا الطّرح، تجدر الإشارة أنّه على الرّغم من هذا الزّخم الهائل الذي يطبع العلاقات الثنائية الإسبانية المغربية، والبريق اللمّاع الذي يضيئها،ويوحي للعيان أنّها على خير ما يُرام فى مختلف المرافق، والقطاعات والقضايا، والتي رصدنا بعضاً من جوانبها آنفاً ،فإنه لا ينبغي لنا أن نغفل أو ندير ظهورنا لقضايا أخرى ثنائية هامّة عالقة وشائكة،وإكراهات مؤرقة ما زالت تثقل كواهلنا ، وتقلق مضاجعنا، وهي تواجهنا بإلحاح وعناد، ولا ينبغي لنا أن نتّبع حيالها سياسة النّعامة فى إخفاء رأسها فى الرّمال، وعدم رؤية الواقع الحقيقي الذي نعيشه، ونلمسه،وتجسيده حيالها، ويمكن حصربعض هذه القضايا ضمن النقاط التالية :
سبتة ومليلية
مداخل المدينتين السّليبتين سبتة ومليلية خيرُ مثال على الوجه الآخر الخفيّ المؤلم لهذه العلاقات ،والشّعور بالحسرة والحيرة الذي يعتمل فى قرارة نفس كلِّ مواطنٍ عندما يَعْبُرُ هاذين المَعبرين ذهاباً أو إيّاباً،اللذين يفصلان ،ويشرخان بقعة جغرافية واحدة متماسكة، ويشطرانها شطرين تنشطر معها أهواءُ السكّان الآمنين،وتتضاعف معاناتهم، ومشاعرُهم،وأحاسيسُهم،وتطلعاتُهم لعناق بعضهم البعض من الجانبين،والإجتماع بإخوانهم فى الجانب الآخر من الأسلاك الشائكة، أوالأسوار العالية التي تفصل بينهما،فى زمن تهاوت فيه كلّ الجدران مهما كان علوّها وعتوّها .
المدينتان المغربيتان السّليبتان،إذن والجزر الجعفرية ، وصخرة النكور ،والجزر الصغيرة المحاذية لرمال شاطئ "الصّفيحة" بأجدير (قرب مدينة الحسيمة) وجزيرة بادس،وجزيرة ليلى تورة التي ما زالت ترزح تحت نير المستعمِر، هي جميعاً بمثابة ( نواقيس) رنّانة صادحة، " نقيس" بها مدى ضرب " النّوى" أو "التقارب" بين البلدين !
الغازات السامّة فى الرّيف
وموقف إسبانيا من إستعمالها للغازات السامّة، والأسلحة الكيمياية المحظورة فى حرب الرّيف ، فهل فى مقدور إسبانيا اليوم الإقدام على خطوة تاريخية جريئة لرأب الصّدع، والمصالحة النهائيّة مع جارها فى الجنوب بتقديمها إعتذار للشعب المغربي، وبشكل خاص للمتضرّرين الفعلييّن وتعويضهم عن هذه الجريمة النكراء،وقد أصبح هذا الموضوع الحيوي الهام يستأثر ليس بإهتمام الرّأي العام المغربي والإسباني وحسب،بل والدّولي كذلك على حدّ سواء، والمتعلق بالتظّلم المجحف،والأضرار الجسيمة والبالغة التي حاقت، ولحقت بالعديد من الأسر والعائلات التي ما زالت تعاني فى مختلف مناطق الريف ونواحيه من الآثار الوخيمة التي خلفتها جريمة إستعمال هذه الأسلحة الكيمياوية الفتّاكة المحظورة من طرف إسبانيا بعد الهزائم المنكرة التي تكبّدتها فى حرب الرّيف التحرّرية الماجدة ؟ (أنظر مقالنا المنشور مؤخراً فى " هسبريس" ( فصل المقال فيما عاناه أهل الريف من الغازات السامّة من أهوال).
قضية الهجرة السريّة أوغير الشرعيّة
على الرّغم من الجهود الحثيثة المبذولة فى هذا المجال،لمحاربة أو جعل حدّ للهجرة السريّة واللاّشرعية التي تفاقمت بشكل يدعو للقلق فى المدّة الأخيرة، ما فتئت التساؤلات تطرح بإلحاح عن الإجراءات والخطوات التي إتخذها أو ينوي إتخاذها المغرب وإسبانيا لإيجاد الحلول المناسبة لمواجهة هذه المعضلة الإنسانية العويصة المتمثّلة فى هذه الهجرات التي جعلت من المغرب مقرّاً، وممرّاً، ومستقرّاً لها من مختلف الجهات،والوِجهات ،ماذا تمّ حتى الآن فى هذا القبيل لمواجهة هذا الزّحف العرمرم الذي يعرفه المغرب من كل صوب وحدب الذي أمسىَ ينذر بعواقب قد لا تُحمد عقباها على المدى القريب ..؟
مسألة طرد وإبعاد الموريسكييّن
إشكالية طرد أوإبعاد "الموريسكيين" الأندلسيّين المسلمين "المُهَجّرين" قهراً وقسراً من مواطنهم والذين إستقرّ معظمُهم فى المغرب، والجزائر وتونس (معروف أنّ العاهل الإسباني السّابق خوان كارلوس الأوّل سبق له أن قدّم إعتذاراً لليهود الذين أُبْعِدُوا من إسبانيا ،ولم يقم هو ولا خلفه العاهل الإسباني فليبي السادس بنفس البادرة التاريخية حتى الآن مع الموريسكيين المسلمين).ينبغي لإسبانيا أن تتحمّل مسؤوليتها التاريخية حيال هذ الحيف والتظلّم الذين لحقا بهم ،وجبرمحنتهم بعد النّبذ المُجحف الذي تعرّضوا له ظلماً،وعدواناً، وعنوةً من ديارهم فى شبه الجزيرة الإيبيرية(أنظر مقالنا الأخير حول هذا الموضوع بعنوان: ( ذاكرة الأندلسيين والشتات الموريسكي) المنشور فى " هسبريس" بتاريخ الخميس 05 ماي 2016 - 08:14).
الطريق إذن ،على ما يبدو بين البلدين، ليس طريقاً مفروشاً بالورود والياسمين ، بل تعلوه كذلك مطبّات ، وفجوات،وتُعيقه منعطفات، ومنعرجات ينبغي تذليلها ،وتجاوزها، والتغلّب عليها بإرادة سياسية قويّة، وحكمةٍ ورزانةٍ وثبات من لدن الطرفين .
*عضو الأكاديمية الإسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم –بوغوطا- ( كولومبيا).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.