"الخارجية" تعلن استراتيجية 2025 من أجل "دبلوماسية استباقية"... 7 محاور و5 إمكانات متاحة (تقرير)    خمسة جرحى من قوات اليونيفيل في غارة إسرائيلية على مدينة جنوب لبنان    حرارة منخفضة وزخات مطرية في توقعات طقس الجمعة    المنصوري: وزراء الPPS سيروا قطاع الإسكان 9 سنوات ولم يشتغلوا والآن يعطون الدروس عن الصفيح    طلبة الطب يضعون حدا لإضرابهم بتوقيع اتفاق مع الحكومة إثر تصويت ثاني لصالح العودة للدراسة    إسبانيا تمنع رسو سفن محملة بأسلحة لإسرائيل في موانئها    عودة جاريد كوشنر إلى البيت الأبيض.. صهر كوشنير الذي قد يسعى إلى الإغلاق النهائي لملف الصحراء المغربية    الانتخابات الأمريكية.. لماذا مُنيت كامالا هاريس بهزيمة مدوية؟    بالفيديو: يوسف النصيري يهز شباك ألكمار بهدف رائع في "اليوروباليغ"    هذه لائحة 26 لاعبا الذين استدعاهم الركراكي لمباراتي الغابون وليسوتو    الكعبي يشعل المدرجات بهدف رائع أمام رينجرز في "اليوروباليغ" (فيديو)    بالأغلبية.. انتخاب المغرب لتولي منصب نائب رئيس منظمة الأنتربول    وزارة الصحة تطرق أبواب النقابات لاحتواء الاحتجاجات    خطاب المسيرة الخضراء يكشف الصورة الحقيقية لخصوم الوحدة الترابية    طقس الجمعة: أمطار وانخفاض تدريجي في درجات الحرارة    تفاصيل بلاغ جديد من القيادة العامة للقوات المسلحة الملكية    الشبري نائبا لرئيس الجمع العام السنوي لإيكوموس في البرازيل    ترامب حقق نصراً كبيراً، وهاريس تقرّ بخسارتها، فكيف كانت الانتخابات الرئاسية الأمريكية؟    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة    المدير العام لإدارة السجون يلوح بالاستقالة بعد "إهانته" في اجتماع بالبرلمان    قد يستخدم في سرقة الأموال!.. تحذير مقلق يخص "شات جي بي تي"    "المعجم التاريخي للغة العربية" .. مشروع حضاري يثمرُ 127 مجلّدا بالشارقة    جمعية المحامين ترحب بالوساطة للحوار‬    طنجة .. مناظرة تناقش التدبير الحكماتي للممتلكات الجماعية كمدخل للتنمية    إسبانيا ترفض السماح للسفن المتجهة إلى إسرائيل بالمرور عبر ميناء الخزيرات    المغرب يمنح الضوء الأخضر للبرازيل لتصدير زيت الزيتون في ظل أزمة إنتاج محلية    الأمازيغية تبصم في مهرجان السينما والهجرة ب"إيقاعات تمازغا" و"بوقساس بوتفوناست"        إحصاء سكان إقليم الجديدة حسب كل جماعة.. اليكم اللائحة الكاملة ل27 جماعة    هذه حقيقة الربط الجوي للداخلة بمدريد    المغرب يعتمد إصلاحات شاملة في أنظمة التأمين الصحي الإجباري    1000 صيدلية تفتح أبوابها للكشف المبكر والمجاني عن مرض السكري    الأسباب الحقيقية وراء إبعاد حكيم زياش المنتخب المغربي … !    الرباط تستضيف أول ورشة إقليمية حول الرعاية التلطيفية للأطفال    اعتقال رئيس الاتحاد البيروفي لكرة القدم للاشتباه في ارتباطه بمنظمة إجرامية    الخطاب الملكي: خارطة طريق لتعزيز دور الجالية في التنمية الاقتصادية    ‬‮«‬بسيكوجغرافيا‮»‬ ‬المنفذ ‬إلى ‬الأطلسي‮:‬ ‬بين ‬الجغرافيا ‬السياسية ‬والتحليل ‬النفسي‮!‬    ياسين بونو يجاور كبار متحف أساطير كرة القدم في مدريد    المنصوري تكشف حصيلة برنامج "دعم السكن" ومحاربة دور الصفيح بالمغرب    2024 يتفوق على 2023 ليصبح العام الأكثر سخونة في التاريخ    مجلس جهة كلميم واد نون يطلق مشاريع تنموية كبرى بالجهة    ليلى كيلاني رئيسة للجنة تحكيم مهرجان تطوان الدولي لمعاهد السينما في تطوان    انطلاق الدورة الرابعة من أيام الفنيدق المسرحية    وزارة الصحة المغربية تطلق الحملة الوطنية للتلقيح ضد الأنفلونزا الموسمية    صَخرَة سيزيف الجَاثِمَة على كوَاهِلَنا !    انتخاب السيدة نزهة بدوان بالإجماع نائبة أولى لرئيسة الكونفدرالية الإفريقية للرياضة للجميع …    ندوة وطنية بمدينة الصويرة حول الصحراء المغربية    بنسعيد يزور مواقع ثقافية بإقليمي العيون وطرفاية    ضبط عملية احتيال بنكي بقيمة تتجاوز 131 مليون دولار بالسعودية        خبراء أمراض الدم المناعية يبرزون أعراض نقص الحديد    مزور: المغرب منصة اقتصادية موثوقة وتنافسية ومبتكرة لألمانيا    إحصاء 2024 يكشف عن عدد السكان الحقيقي ويعكس الديناميكيات الديموغرافية في المملكة    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بالسيدا يعلن تعيين الفنانة "أوم" سفيرة وطنية للنوايا الحسنة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نحو مدرسةٍ عموميةٍ حديثة
نشر في هسبريس يوم 09 - 05 - 2016


-Toward A Modern Public School.
-Pour Une École Publique Moderne.
- A Una Escuela Pública Moderna.
لم يعد مفهوم المدرسة منحصرًا في تعريفها التقليدي، أي أن المدرسة هي مؤسسة تقوم بتزويد الطلاب والأطفال والنشء بالعلم والتربية، وهي عبارة عن مبنى يتعلم فيه الطلاب القراءة والكتابة والرياضيات والعلوم والدراسات الأخرى المختلفة وفق مناهج وكتب محددة، بل تغيّر هذا المفهوم باعتبار أن المدرسة أحدثت ثورة في المجتمعات، كونها قاطرة التقدم وفاتحة عهدٍ جديدٍ في كافة الأمصار للمساواة أمام التعليم، وكونها رمزًا للتَّفتح والحريّة في مجال التعبير، ووسيلة لتهذيب النفس والسلوك لدى الفرد، وتطوير قدراته. وهكذا فُتحت أبواب المدارس غداة استقلال المغرب لجميع الأطفال من ذكور وإناث، البالغين سن التَّمَدْرُس بحماسٍ وثقةٍ وشغف، واعدةً إياهم بالغدِ المشرق خاصةً وأنّ من تخرّج من تلك المدارس حُظي بوظيفة محترمة يَحسِدُه عليها المتقاعسون عن التعليم.
أما التعريف الحديث للمدرسة، فقد أعطاها شموليّةً أوسع، فيما يتعلق بالمفهوم والمَهمّة والأهداف والاستراتيجية، ورغم أنه من الصعب توحيد جميع ما ورد من التعاريف المتعلقة بالمدرسة، إلا أنّه يمكن الإجماع على ما مضمونه، أنّ المدرسة هي تلك البيئة التعليمية التي أوجدها التطور الاجتماعي لكي تكون مكمّلة للدور الذي تمارسه الأسرة في تربية وإعداد أبنائها على النحو السليم، ومدِّهم بالمعرفة والخبرات اللازمة لدخولهم معترك الحياة فيما بعد، فهي بذلك، تعتبر الحلقة الوسطى والمهمة التي يمر بها الصّبي خلال مراحل نموه ونضجه؛ لكي يكون جاهزاً فيما بعد للقيامِ بمسؤولياته في المجتمع مستعيناً بما اكتسبه من المهارات المختلفة والضرورية؛ لكي يتأقلم وبشكل سليم مع محيطه الصغير والكبير ومع البيئة الاجتماعية الكبرى داخل وخارج وطنه.
فالمدرسة اليوم ليست سوى مجتمعٍ مُصغَّر يعيش فيه الطفلُ بكلِّ عفويةٍ وبراءة، وهو عالم مُنَزَّه عما هو متعارفٌ عليه عند الكبار من أخطاء ومشاكل اجتماعية وسياسية، وخالٍ من جميع الشوائب التي تتعلق بالفضاء الخارجي للمدرسة أو بالمجتمع الكبير خارج أسوار المدرسة. وبذلك يكون المفهوم الحديث للمدرسة هو إعدادُ الفردِ الصالحِ وجعلُه المحور الأساسي في الحركة التعليمية، تدور حوله باقي المحاور من مناهج وطرق التدريس وتقييم للعملية التربوية والتعليمية لتجعله يكتسب المهارات والسلوك عن طريق الانشغال بها لا عن طريق النظريات فقط؛ لكي يتمرَّن من خلالها الطفلُ على الحياةِ الفُضْلى، وعلى الانخراطِ والتعاونِ الاجتماعي، والإخلاص في العمل وللجماعة وللوطن ككل. وللإشارة فإن مصطلح "مدرسة" له تاريخ بعيد اختلف العلماء والباحثون حول بدايته، فمنهم من نسبه إلى الحقبة الهيلينية، ومنهم من أشار إلى أنّ الأمر أقدمُ من ذلك؛ أما فيما يخص العالم الإسلامي فإنه يعيد ذلك إلى مرحلةِ بدايةِ الرسالة المحمّدية حينما اتّخذ الرسولُ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه دار الأرقم بن الأرقم لتدارس القرآن الكريم في بداية تنزيله، واتّخذ المسلمون من الكتاتيب القرآنية والمساجد أماكن لتحصيل العلم، كما أُردفت حجراتٌ بجانب المساجد لتكون مدارس. وقد عرف الإسلام فتوحاتٍ استفاد منها المسلمون في تشييد دورٍ للعلمِ ومكتباتٍ وخزاناتٍ مثل (بيت الحكمة) الذي أنشأه هارون الرشيد (185ه) ودار الحكمة بالقاهرة (395ه) ودار العلم بالموصل (333ه). وقد ساهمت تلكم الظاهرة في بَلْورة فكرة المدرسة بمعناها الاصطلاحي، أي كمؤسسةٍ تتبناها الدولة وتتكفل بنشرِ مذهبِ أهلِ السّنةِ والجماعة مثل المدرسة البيهقية في نَيْسابور والمدرسة النظامية ببغداد (457ه) والمدرسة المستنصِرية ببغداد (630ه). وكباقي دول العالم الإسلامي ساهمت الحركات الفكرية في المغرب في انتشار المدارس بمفهومها كنَسقٍ تعليميٍّ مؤخراً في تاريخ التربية المغربيّة وخاصّةً في القرنِ الثامن الهجري في عهد المرينيين الذي تضاعف فيه عدد المدارس وانتشر بناؤها في المجتمع المغربي على يد السلطان أبي سعيد المريني (732-749ه). كما أنّ تلك المدارس كان تركيزها من حيث محتوى المناهج والتدريس على دراسة القرآن وتعليم التفسير والحديث والفقه والأصول والبيان والهندسة والتصوف (عن منتدى ستار تايمز بتصرّف). واستمر ازدهار وتكاثر المدارس إلى يومنا هذا وصاحَبَهُ حِرص ملوكِ المغرب قاطبةً على نشر العلم والمعرفة، إذْ كانت التربية والتعليم ولازالت من أولوياتِ أولي الأمرِ في هذا البلد، وحرصهم على تحقيق أهدافِ المسيرةِ التربويةِ والتعليمية وفقَ ما تسنُّه الدولة من خططٍ للنهوض بالمنظومة التعليمية وتحقيق أهدافها على الوجه الصحيح.
ومن أهداف المدرسة الحديثة أيضاً تخريج الأجيال وترسيخ الإيمان والعقيدة الإسلامية فيهم وتربية المتعلّم لتلك الحقائق العلمية وما يلاحقها من المفاهيم الصحيحة ليَتَسنّى له التطبيقُ الفعلي ومعايشةُ البعض من تلك الحقائق، ليكون المتعلم قادراً على حمل القيم السامية والنبيلة، ويكتسب أيضاً ما يُسمى بالتفكير العلمي والوعي الثقافي، حتى يتمكن من تلبية جميع احتياجاته، وحل مشكلاته أو مشكلاتِ مجتمعه المحيط به، وبذلك تكون المدرسة نافذةً يطلّ من خلالها الطفل ليس على عالم العلوم والنظريات والمعرفة فحسب، بل على الوعي الثقافي من خلال ثقافات المجتمعات الأخرى، ويكتسب مهارة التفاعل الثقافي المتبادل (Cross-Cultural Competence: 3Cs) أيضاً مما يساعد في تبصيره بأطياف ومكونات الثقافات الأخرى، وبالمستوى الذي وصلت إليه الإنسانية من الرقي والحضارة والتقدم العلمي في شتّى مناحي الحياة، وجميع المجالات التكنولوجية، العلمية، الثقافية والتقنية.
ومن الملاحظ أيضاً أنّه لم تعد مسؤولية المدرسة الاهتمام بالجانب العقلي للطفل فحسب، بل أصبحت تهتم بتنمية شخصيته من جميع جوانبها العقلية والخُلقية والاجتماعية والجسدية وأصبحت التربية في حقيقة الأمر عمليةَ تكوين النزعات الأساسية الفكرية والعاطفية في الإنسان تلقاء الطبيعة، وتلقاء من هم حوله كأفراد أو جماعات.
وللبشرية جمعاء وللمغاربة على وجه الخصوص صلة وعلاقة ذات عمق غير منقطع النظير بمدرستهم، فالمدرسة الابتدائية بالتحديد، هي أول صورة تتبادر إلى ذهن الشاب المغربي أو الشابة المغربية كلما ذُكر التعليم أو مراحل التعليم التي يمر بها المرء، لأنها هي المحطة المهمة في بدايةِ المشوارِ المعرفيِّ لدى الفرد. وتمتاز تلك الصّلة العاطفية الصادقة بملامستها كل ما يتعلق بالمدرسة من شكل حجرات الدرس والساحة والنوافذ والجدران، وحتى الزوايا والمرافق والأشجار والأغراس والمعلمين والمعلمات، بل وحتى الباب الخارجي بسلسلته الضخمة، وجلجلة صوتها عند فتح الباب، تحت أنفاس الصباح (وقد ابتلت بقطرات الندى)، والقفل النحاسي الكبير والحارس والباعة المتجولون الذين تتعالى أصواتهم كلما اكتظّ الأطفال أمام الباب الكبير. ولا أحد ينكر مدى فضل مدرسته الابتدائية في تنوير طريقه في الحياة، ودورها في صقل معالم شخصيته. وعلى الرغم من بساطة تلك المدرسة وقلّة وفرة المرافق بها أحياناً وربّما حتى قلّة عددِ حجرات الدرس التي تحتويها، فإنها بدون شك قد تركت بصمة إيجابية في حياتك أنت كفرد في هذا المجتمع. لذلك لن يمحوَ الزمن ولا النّقاد ولا الحداثيون تلك الصورة الإيجابية التي يحملها جيل ما بعد الاستقلال والذي يليه سواءً عن المدرسة العمومية أو عن المعلم أو المعلمة آنذاك. لم يكن لدى بعض أولئك ذلك الاهتمام بالشكل الهندسي للمدرسة ومرافقها بقدر ما كان لهم شغف في نهل العلم والمعرفة والمضي قدماً في التحصيل. بل إنّ سمة القناعة كانت طابعهم الشخصي العام وكانوا يتسابقون في الإحسانِ و في تزيين جدران المدرسة البسيطة وغرسِ حديقتها وتنظيف ساحتها مما جعلها وجعلهم أيضاً محطّ احترامٍ وتقديرٍ فرضوه جميعاً بعزيمتهم التي لا تقارن ولا تقهر على الأمة بأكملها ولا زال التاريخ يشهد لهم على ذلك ومنصفاً في حقهم فيما يخص هذا التقدير.
والمتتبع للمسيرة التعليمية والتربوية في جميع أقطار المعمورة يمكنه أن يلاحظ وبكل سهولة أنّ مسؤولية تسيير قطاع التعليم من الناحية المادية والمعنوية لم يعد أمراً يُناط به قطّاعٌ أو وزارةٌ لوحدها، بل لا يمكنه أن يُلقى على عاتق وزارة التعليم مثلاً لوحدها؛ لذلك لا بد من تضافر الجهودِ من كل الأطراف المعنيّة والجماعاتِ المحليّة في حلّتها الجديدة وخطط تسييرها الجديدة التي تستند إلى إقحام المجتمع المدني بكل أطيافه من أجل تطوير جميع المشاريع التنموية بما في ذلك قطاع التعليم المتمثّل في المدارس باختلاف مستوياتها. ويكون بذلك أحد أهداف الجماعاتِ المحلية هو بناءُ مدارس عصرية جديدة تحل مشكلة الهدر المدرسي، وفك الاكتِظاظ في الأقسام، وتنكبّ على فكرة تقريب المدرسة من التلاميذ. غير أن تحقيق أهداف مشروع كهذا مرتبط بمدى طموح ورغبة أبناء الشعب بجميع أطيافهم في ردِّ الاعتبار إلى المدرسة العمومية وإعادة المجد لها وإلى التلاميذ الذين يلِجون إليها كما كانوا من قبل، إذْ لم تكن المدارس الحرة تستقبل النُخب التي تدرس في المدرسة العمومية أو المتفوقين، بل كانت ملجأً ومخرجاً لمن لم يُسعفه الحظّ في المدارس العمومية.
ولا غرابة في ذلك، طالما أن الوزارة المعنية لم تنكبّ على تصحيح وضع المدرسة العمومية من ناحية المظهر الداخلي والخارجي ليرقى إلى ما نراه في القطاع الخاص، وكذلك إحداث كل ما يحتاج إليه التلميذ اليومَ من مرافق وأجهزة ومواصلات وما إلى ذلك لمواكبة العصر والمضي قدماً في تحصيلِ المعرفة على الوجه الصحيح. كما لا يجب إطلاق العنان إلى القطاع الخاص ليبتلع هذا الميدان، دون وضع شروط وقوانين صارمة تقطع الطريق على كل من لا يهمه إلا الربح والمنفعة المادية، فالمنتفعون أصحاب رأس المال، أصبحوا يفتحون مدارس خاصة؛ كما تفتح محال بيع المواد الغذائية في أزقتنا العربية، لابتزاز جيوب الفئة الغنية والمتوسطة وحتى الفقيرة منها؛ فمن جهةٍ نكاد نجد عذراً لتلك الفئات التي فقدت ثقتها في قطاع التعليم الحكومي أو العمومي، ولا نجد لها عذراً من ناحيةٍ أخرى؛ إذْ لم تصمد في وجه الحكومات المتعاقبة بإرسال أبنائها إلى المدرسة الحكومية والصمود في المطالبة بحقوق أبنائها في حق التربية والتعلم وبجودةٍ عالية والإصرار على ذلك. وقد حان الوقت للوقوف أمام هذه الموضة الدخيلة وإعادة الثقة في المدرسة العمومية التي هي مهد التعليم العصري في عالمنا العربي والتي كان للشرفاء في وطننا الغالي بصمةٌ في إرساء قواعدها.
المدرسةُ الحديثةُ المنشودةُ إذاً مرتبطةٌ بمدى فعالية مشروع إصلاح المنظومةِ التعليمية ومدى نجاحه في تحسين جودة التعليم كمّاً وكيفاً، ومدى مواكبته لسد حاجة سوق الشغل فيما يخص اليدَ العاملةَ المتطورة والمواكِبة للعصر. ولن يكون هنالك مستوى عالٍ من التعليم مادامت عملية الإصلاح التربوي والتعليمي وإصلاح المناهج لم تأخذ مسارها الصحيح، بإسنادها إلى الخبراء والكفاءات المحلية في كلِّ ربوعِ الوطن وتلك التي في الخارج والمتخصصة في تلك المجالات، علماً بأن الدراسات تكادُ تُجمع كلّها على أن هناك مشكلة في مؤسسات التعليم ليس في المغرب فحسب، بل في العالم العربي بأكمله كمّاً وكيفاً. وبناء على ذلك نطمح إلى مدرسةٍ حديثةٍ بجميع المقاييس ومحافِظةٍ أيضاً. وبمعنى آخر مدرسة مغربية عريقة محصّنة تجمع ما بين الأصالة والحداثة دون التفريط في الثوابت الوطنية المجمع عليها. ولا بدّ لمشروع إصلاح المدرسة الحديثة أن يراعي ما يلي:
•الإقرار بأن المدرسة لم تعد مسؤولية وزارة التربية والتعليم فقط، بل هي مسؤولية المجتمع برمّته.
•اهتمام المدرسة لم يعد مقتصراً على الجانب العقلي للطفل فقط بل لابد أن تهتمّ بتنمية شخصيته من جميع جوانبها العقلية والخلقية والاجتماعية والجسدية وتوجيه قدراته.
•التركيز على حاضر الطفل وماضيه والتخطيط الصحيح لمستقبله بنظرةٍ استشرافيةٍ علميةٍ مُحكمة.
•نقلُ التراث الثقافي من الأجيال الماضية إلى الأجيال الحاضرة وتعميمُه على معظم المواد الدراسية التي تسمح بذلك.
•الاحتفاظ بالتراث القديم والعمل على تسجيل الجديد وإدماجه في الحركةِ التربويةِ والتعليميةِ اليومية.
•تبسيطُ التّراث الثقافي وتمريره للأجيال عن طريق الفنون والأدب وغيرها وجعل الطالب يفتخر بذلك.
•تطهير التّراث الثقافي من العيوب والشوائب وغربلة المناهج من كل ما يدعو إلى الشعوذة أو الخرافة أو العصبية العرقية أو العنصرية أو العنف أو التحقير أو الانتقاص من الكرامة أو الانحراف الديني أو الأخلاقي وما إلى ذلك.
•إقرار التوازن بين مختلف عناصر العملية التربوية والتعليمية وتكافئ الفرص وتحسيس الطلاب على المحافظة على البيئة النظيفة وكذلك الاعتزاز بالموروث الديني والاجتماعي والأخلاقي للأمة وإتاحة الفرصة لكلِّ فردٍ أنْ يساهمَ في تنميةِ المدرسة وتطويرها حتى يتحرر من قيود الخمول والكسل ويحسّ منذ نعومة أظفاره بأنّه فردٌ فعالٌ في البيئةِ التّي نشأ فيها.
•تحفيزُ الطلاب على التفوقِ في اللغة العربية وإتقانها أولاً ثمّ إتقان اللغات الأجنبية كمُكتسبٍ لغويٍّ نافع يفتح لهم آفاقاً شتّى سواء في التخاطب أو البحث العلمي مستقبلاً.
•إحياء خِصلةِ الإحسانِ بين التلاميذ وأولياء أمورهم و جميع أفراد المجتمع وتعظيم فعلِ الخيرات.
•نبذ كلّ العادات القبيحة والمذمومة كالتدخين مثلاً، وشنّ حملاتٍ تحسيسية لاقتلاعها من المجتمع، وتكون تلك الحملات من ابتكار التلاميذ من خلال الإعلام المدرسي.
•تخصيص حصص من برامج التلفزة والإذاعة الوطنية لصالح المدارس التي توجد في القرى النائية وإعطاء تلاميذها فرصة الإبداع والابتكار وتوصيل صوتهم وأفكارهم إلى الآخرين.
•العمل على رفع معنويات المعلمين والمعلمات والمربين والمربيات وذلك بتحفيزهم مادياً ومعنوياً وابتكار المسابقات الفكرية والأنشطة المختلفة لإدخال السعادة إلى قلوبهم.
وقد آن الأوان لجميع الاقتصاديين والمسؤولين عن التعليم أن يعوا بأن أفضل وأنجع استثمار ليس هو الاستثمار في الجامعات والمعاهد العليا فحسب، بل هو أن تستثمر الدولة في المدرسة العمومية في المراحل الأولى، ولنا في البلدان التي استثمرت في تعليمها الابتدائي والإعدادي والثانوي خير دليل على نجاح تلك المعادلة، وإن شئت فانظر إلى بلدان أخرى مثل ألمانيا وكوريا أو سنغافورة على سبيل المثال لا الحصر.
لقد حان الوقت أيضاً لردّ الاعتبار للمدرسة الحكومية العمومية وذلك برفع معنويات المدرسين والمدرسات أولاً وقبل كل شيء، ولنا في سنغافورة مثالٌ حيٌّ على ذلك إذ أنّ أول ما بدأ به رئيسها عقب انتخابه هو رفع سلّم رواتب المعلمين وجعله الأعلى، وفي ظرف وجيز أعاد للتعليم قيمته وهبته وللمعلمين والمعلمات كرامتهم ورفع مخرجات التعليم إلى أقصى شيء ممكن، وأضحى التنافس شديداً للحصول على وظيفة معلم أو مدرس، كما كان الوضع لدينا عقب حقبة الاستقلال إذ كان ينظر إلى وظيفة معلم أو مدرس بعين الرضى والغبطة. لابد أيضاً من تحسيس المجتمع بأن التعليم في المدرسة الحكومية العمومية فيه فخرٌ وعزةٌ وتشبثٌ بالمواطنة الحقّة والهوية المغربية.
حان الوقت أيضاً للعودة والالتفات إلى موضوع المناهج لتواكب العصر. وفي هذا الصدد لا بدّ من تقنين وترشيد الكتب والمقررات الدراسية كي لا تصبح سلعةً يتاجر بها أصحاب رؤوس الأموال. ولابد أيضاً من صرف النظر عن التَبَعِيَّة العمْياء في المناهج دون مراعاة الثقافة المحلية للتلميذ (The Indigenous Culture)، أي ما يوجد حوله من معتقد وعادات وتقاليد ومعالم وفنون وأدب وثرات وأعراف اجتماعية وطنية وتربية إسلامية وهويّة، فلا مجال إذاً لإقحام مقررات أو كتب لا تعكس أو تُحقّق الأهداف العامة والخاصة المسطّرة من طرف وزارة التربية والتعليم، بحيث يُقطَع الطريق على كلّ من تُسوِّل له نفسه زرع إيديولوجيات تخدم جهات معينة على حساب مستقبل أطفالنا الأبرياء، كما أن ذلك سوف يقلل أو يحدّ من ظاهرة الزَّجِ بهم إلى مدارس مزخرفة وبراقة يصبح التعليم فيها بجميع مشاربه وأفكاره معلّباً مثله مثل الوجبات السريعة والمنتجات الغذائية المعلّبة الدخيلة على مجتمعاتنا، فنحن نرى مدى حرص المجلس الأعلى للتعليم على سلامة المناهج في بلدنا إذ لا يمكن تمرير تلك المقررات المعلّبة الدخيلة طويلاً، إذ سرعان ما يلفظها الوطن برمته لأن الشعب المغربي معروفٌ بتشبّثه بأصالتِهِ وثقافتِهِ الإسلاميةِ العريقة وقيمهِ الراسخة والضاربة في عمق التاريخ.
وهكذا، فإن الأرقام التي تردنا من خلال مكاتب الدراسات الاستراتيجية حول التربية والتعليم في دول العالم العربي هي فعلاً أرقامٌ مخيفة مقارنةً مع وتيرة النمو في بلداننا العربية كالمغرب مثلاً. ولا خيار لنا إلا مراجعة نظرتنا وتصورنا لمدرستنا العمومية، بل لا بد من مواصلة الرغبة في إعادة عزّتها ومجدها.
كما نرجو أن يَطال هذا الإصلاح الجذري جميع مكوناتِ التربية والتعليم، وأن يشمل كل المناطق، بما في ذلك القرى النائية، وفكّ العزلة عن تلاميذها ليصلوا إلى مدرستهم بسهولة، وكي لا يصبح التعليم في بلدنا تعليماً أجوفاً، يُعلِّم أجيالاً ولا يربِّيها، ولا يعزز فيها مكارمَ الأخلاق، فتصبح مخرجات التعليم كعدمه، لا فائدة منها، وتصبح شهادات الأجيال حبراً على ورق، تزيّن رفوف مكاتبنا لكي تبهر المارّة بنوعية البراويز، لا بقيمة الشهادة وحمولتها الفكرية الحقّة؛ لا بدّ من تعزيز مادة الأخلاق (Ethics) عبر المناهج لأن الأخلاق هي الركيزة التي يُعتمد عليها بعد الله في بناء الأجيال، وكما يقول الشاعر أحمد شوقي:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
صلاح أمرك للأخلاق مرجعه فقوّم النفس بالأخلاق تستقم
إذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتماً وعويلاً
(وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)
*رئيس مركز اللغة الإنجليزية-مستشار إداري
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.