عندما تلاحظ شعبا يتحرك ، فاعلم أنه يفكر . وإن الذين يكرهون الحراك لا شك أنهم منتفعون أو انهزاميون. فمتى كان التغيير هبة المنتفع أو الانهزامي عبر التاريخ ؟ لقد ثبت أن التغيير كان وسيبقى دائما يُنتزع انتزاعا من أيدي هواة الجمود والاستقرار المميت، ولا يتم الحصول عليه ومعانقته إلا بتقديم تضحيات جسام من طرف جماعة التغيير . وعندما يذكر التغير في أدبياتنا فهو يقترن بالديمقراطية كنظام ونمط حياة . فهذه الديمقراطية هي أمل الشعوب على مر العصور ، والهدف الذي يناضل من أجل تحقيقه كل الأحرار الذين ينبذون العشوائية والاعتباطية ، ويعشقون النظام والسلام والمساواة بين بني البشر. و هاهي الديمقراطية أبانت من جديد على أنها النظام الوحيد الذي يرى فيه المقهورون " المنقذ " من سلطة الاستبداد والظلم ، والذي سيكسر القيود المفروضة على المغلوبين على أمرهم بسبب الحيف والتمييز والتهميش والقمع والسطو على كل الخيرات لاستعباد الناس. فبفضل إرادة الأقوياء الأحرار ، ومنذ سقوط جدار برلين بدأ المقهورون المضطهدون عبر العالم يرون نور الحرية والكرامة تقترب منهم شيئا فشيئا . فمنهم من اقتنص الفرصة فتحرر فعلا من حاكمه السلطوي الجائر الذي كان يشكل استمراره في الحكم خطرا على البلاد والعباد . ومنهم من مازال يحاول ولا يكل ولا يمل إلى أن يحصل على مبتغاه، ومنهم من رأى أن إجراء عملية جراحية بسيطة للنظام كافية لتستقيم الأمور، ومنهم من سيفوتهم القطار.، أو لقد فاتهم القطار . فهدف عشاق شمس الحرية واحد وإن تعددت الطرق التي توصل إلى ديمقراطية متقدمة ، إذا كان أفراد المجتمع على قلب رجل واحد. في الدستور الذي سيرى النور في الخريف القادم بالمغرب، سيكون هناك فصل للسلط ، وستمارس كل سلطة مسؤولياتها دون أن تكون عليها وصاية أو قيود تربطها بسلطة أخرى ، وهو أمر جميل ومحمود. ومن المفترض أن تفرز استقلالية السلط - تلك - عن بعضها البعض ، فورة فكرية وقانونية وسلوكية ستدفع بالمغرب إلى الأمام، وستجعل المواطن المغربي يطمئن إلى مؤسساته ، وإلى إنجازاتها ، واختياراتها ، وإلى حسن سلوكها . فالشعب قد تحرك بعد يأس، وخرج في مظاهرات للمطالبة بتغيير سلوك السلطة ، وسلوك من يمثلها ، وسلوك من يمثل الشعب ، وكذلك سلوك من سيطبق الأحكام القانونية . فالديمقراطية سلوك إذن يجب أن يُلمسَ في تصرفات الناس وسلوكهم اليومي . سيكون للمغاربة رئيس وزراء ، يتمتع بصلاحيات واسعة وجديدة ، منها حرية أخذ قرارات جريئة غير مسبوقة ، ومبادرات قيمة من أجل تحسين أداء الوزراء ،ومن تحت مسؤولياتهم لاسترجاع ثقة المواطن في إدارته . وكذلك اتخاذ قرارات شجاعة لرفع كل التحديات التي تقف حجرة عثرة أمام الإقلاع الثقافي والاقتصادي والسياسي والاجتماعي الذي سيمنح المواطن كل الانتظارات التي هي من حقه :من حريات فردية وجماعية ، وشغل وصحة وتعليم وسكن . وسيطالبه بالواجبات التي هي في عنقه ، من عمل جيد، واحترام للقانون الجاري به العمل، وضرائب وغيرها. نعم ، المغاربة يريدون أن يتحمل رئيس الوزراء كل مسؤولياته ، فهو سيكون مسؤولا أمامهم وأمام البرلمان ، ووسائل الإعلام . ففصل السلط رغبة شعبية لوضع حد للفساد ، ولتحديد المسؤوليات ومعاقبة المنحرفين و كل الذين تربوا على استغلال النفوذ والمحاباة من أجل التبذير والسرقات . حينها سيقول القضاء المستقل كلمته المسموعة المطاعة تنفيذا للقانون الذي سيعلو ولا يعلى عليه . وهذا ما يريده المغاربة من زمان ( علي وعلى أعدائي ) . فمن المنتظر ألا يتخطى الوزير الأول صلاحياته ليتدخل في صلاحيات الغرفتين ، سواء في الاختصاص أو لطلب دعم مجاني من البرلمانين . ومن المنتظر كذلك ألا تعود حليمة إلى عادتها القديمة ، ويتناسى البرلمانيون أنهم يمثلون السلطة التشريعية وأن الحكومة تمثل سلطة الوسيط بين سلطة الشعب (الغرفتان) وسلطة الملك ، كسلطة تنفيذية . وسيكون مستحسنا أن ( يضرب كل من البرلمان والحكومة (على عرامو) ،كي تحس الحكومة أنها مراقبة من طرف البرلمان بقوة( وأن البرلمان ليس عمتها في العرس) ويستطيع البرلمانيون تأدية واجبهم اتجاه الشعب والوطن بكل تجرد وحرية .فالوزير الأول سيتمتع بصلاحيات واسعة يجب ألا تؤدي قطعا إلى شمولية حزبية . فالنموذج التونسي حيث سيطرةالتجمع الدستوري على سدة الحكم مدة طويلة أدت إلى نتائج كارثية وإلى رحيل بنعلي. و حل الحزب الحاكم ، نفس المصير عرفه الحزب الوطني في مصر والحبل على الجرار. المغاربة يريدون ديمقراطية إجرائية ، طحينا وليس جعجعة. ديمقراطية قائمة على التبادل والانتقال السلس و السلمي للسلطة من أجل تقوية الاستقرار في البلد وتمكين المواطن من العيش الكريم . ولنتذكر أن الحكومات التي تحترم قراراتها والتزاماتها لن تكون في حاجة لدعم البرلمان لبرامجها وقوانينها ، فالذي سيدعمها بكل تأكيد هو إنجازاتها الايجابية التصاعدية. وهم بصوت مسموع، نريد ديمقراطية متميزة ، تكون سلوكا يقطع مع الماضي وما تخلله من انتهاكات لحقوق الإنسان ، وضياع للمال العام، والتفافات على الحقوق الفردية والجماعية ، وظلم . وكي يتحقق ذلك لابد من ضبط كل العلاقات داخل السلط الثلاث وخارجها مع الحرس على استقلالية أي منها ، وحتى لا تطمع أي سلطة بما هو في يد السلطة الأخرى ، أو تحاول التأثير عليها من قريب أو بعيد باستغلال النفوذ السياسي أو المالي أو الجاه أو العلاقة . ولا يمكن قطعا مناهضة الفساد إذا لم تبدأ السلط الثلاث بتجريم الفساد ومحاربته بالصالح والإصلاح، وبحرمان كل فاسد من الوظيفة ليكون عبرة . لقد انتظر المغاربة خروج قانون التصريح بالممتلكات ليكون عربون الرغبة في الإصلاح والتغيير ولوضع حد للاغتناء الغير المشروع ، وهدر المال العام بطرق ملتوية . خروج قانون التصريح بالممتلكات سيكون مؤشرا على إرادة صادقة للتغيير ، سينعكس بإيجابية على الشارع. سال رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :أرأيت إذا صليت المكتوبات وصمت رمضان وأحللت الحلال وحرمت الحرام ولم أزد على ذلك شيئا أأدخل الجنة؟؟؟ قال : نعم(رواه مسلم). نعم ، فطلب الحلال مدخل للديموقراطية ، وطلب الحرام يؤدي للثورات والانجرافات والتقاتل والضياع وللننظر فقط من حولنا لنتأكد. ومن يطالب بالديمقراطية يريد حلالا ودرءا للحرام .فالديموقراطية الحقة أولها القسط وآخرها السلام. ولقد قيل "العدل أساس الملك" . والديموقراطية مرة أخرى تنافس متميز بين السلط وبين المجتمع المدني على القيم النبيلة في مواجهة كل الأمراض الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تنخر أي مجتمع متخلف. والديموقراطية من جهة أخرى انضباط ، ولا يكون الانضباط إلا بالتقوى أي الحذر من السقوط في الحرام . والديموقراطية كذلك التزام ووعي ، وهل الشعب الذي مازال يئن تحت وطأة الفقر والجهل ، لأن نخبه كانت منشغلة عنه طيلة سنين طويلة وما تزال ، يستطيع أن يقرر ويختار ما يريده وما لا يريده بحرية ؟. فإذا أدخلنا في الحسبان أن أول دستور 1962 كان ينص على تعميم وإصلاح التعليم ، فهل تحقق شيء من هذا الغرض؟؟ فعدد الأميين في تزايد ، و هو يتضاعف سنويا بأميين جدد يتخرجون من المدارس (لا قراية لا صنعة) ، لأن التعليم الذي تلقوه عشوائي . وهؤلاء الأميون ( أمية أبجدية وسياسية)للأسف الشديد هم من سيدعون لمشاركة في الاستفتاء على دستور2011 . وسيكونون الشماعة التي سيعلق عليها المثقف والسياسي - الذي يشارك في مراجعة الدستور- إخفاقاته وسييردد كما ردد في السابق " ضاعت فرصة التغيير " تحت يافطة مسميات وأعذار ، وليقال عن دستور 2011 نفس الذي قيل عن دستور 1992 : أنه " رغم التعديلات الجزئية التي أدخلت على الدستور سنة 1992 . لم تكن كافية بالنسبة لطموحات القوى الديمقراطية وبالنسبة لمتطلبات المرحلة .فقد كانت التكهنات تبشر بقرب انتهاء ما نسميه بمرحلة الجفاف السياسي التي امتدت سنوات طويلة وحصدت منها البلاد ما تعانيه حاليا من أزمة خانقة على سائر المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية". (حتمية التغيير . عبد القادر العلمي). حتما لن نرضى على أنفسنا - كمغاربة -إذا لم يتغير دستورنا المقبل شكلا ومضموما إلى الأحسن، و ليكون وافيا كافيا ،يتحقق من خلاله وبه كل الحريات الفردية والجماعية داخل منظومة القيم الإسلامية ، وكل الحقوق والواجبات على أساس العدل والمساواة ، و يوضع حد لكل أشكال الميز والفساد بطريقة نهائية ، ويفتح الباب على مصراعيه لمحاسبة الفاسدين والتشهير بهم ليكونوا عبرة ومؤشرا على بداية التغيير بلا رجعة.