لم يُعرف أوجيست مولييراس (1855 – 1931) بأنه مستشرق أو مستعرب، وإنما باعتباره مبشرا مسيحيا وإثنوغرافيا، بل وأن المطلع على المدرسة الاستشراقية الفرنسية لن يصادف اسمه أو أثره، غير أن المطلع على أفكاره وكتاباته، لا سيما في كتابه المغرب المجهول بجزئيه الأول حول اكتشاف الريف والثاني حول اكتشاف جبالة(*)، يدرك أن جهوده العلمية والإثنوغرافية لا تختلف كثيرا عن جهود المستشرقين الأوروبيين، الذين انخرطوا في الحملة الإمبريالية والصليبية الجديدة ضد العالم الإسلامي، فهو يصرح بأن عمله يهدف إلى اكتشاف المغرب المجهول بالنسبة للأوروبيين، وتمهيد الطريق لاستعماره من قبل فرنسا التي لها كامل الحق في ذلك. يقول في هذا الصدد: "لقد ناقشت مرارا المسألة المغربية مع أعيان فاس ومراكش القلقين جدا وعن حق، على مستقبل بلدهم. والنتيجة التي توصلنا إليها، قد تقدم لفرنسا امتيازات لا تحصى وللمغرب منافع لا تقدر بثمن. ولن تراق قطرة دم واحدة للوصول إلى هذه النتيجة! غير أن الزمن لا يرحم، وخصومنا يعملون دون هوادة لمضاعفة تأثيرهم داخل هذا البلد الرائع الذي يستحضرون ثروته وأهميته."1 وبعد مرور أقل من عقدين من صدور هذا المؤلف سنة 1895 في وهرانبالجزائر، سوف تتمكن الإمبراطورية الفرنسية من احتلال المغرب وإخضاعه لنظام الحماية منذ سنة 1912، مما يؤكد أن جهود المستشرقين ومساعيهم المبذولة، ومنهم مولييراس، سرعان ما أتت أكلها في زمن قياسي. إن الإثنوغرافي مولييراس يكشف بصراحة تامة في مقدمة مؤلفه وثناياه عن الغرض الأساس من هذا العمل، وهو غرض أيديولوجي وسياسي محض، رغم أن صاحبه كان يشغل كرسي اللغة العربية، ويدعي البحث العلمي في مختلف قضايا الدين واللغة والجغرافيا والشعوب، فهو يقول: "إنني تربيت وترعرعت تحت تأثير فكرتين لم أتوقف عن استحضارهما إلى يومنا هذا وهما: معرفة جارنا الغريب وإدراجه داخل مجال التأثير الفرنسي".2 وهو يقصد بالجار الغريب المغرب الذي يوجد على مرمى حجر من مسقط رأسه تلمسان في الجزائر التابعة آنذاك للنفوذ الفرنسي، وقد عبر عن أساه وعدم رضاه في فقرات سابقة من الكتاب بجهل فرنسا لهذا البلد، "وعلى الرغم مما يذكره واضعو الخرائط والجغرافيون الجيدون الذين ينقل بعضهم عن البعض الآخر دون نقد ولا انشغال بالحقيقة، فإننا نستطيع التأكيد بأننا لا نعرف ولو جزءا واحدا من الألف، من هذه الإمبراطورية الشريفة". تُرى ما هي الأسباب التي تعترض اكتشاف أرض المغرب المجهول؟ فهو يرد هذا الجهل إلى سبب واحد وهو عدم معرفة اللغة العربية.3 لذلك يضع شرطين جوهريين أمام كل من يريد اكتشاف بلاد المغرب، أولهما معرفة اللغة العربية الكلاسيكية بشكل لا بأس به ومعرفة الدارجة المغربية واللهجات الأمازيغية بشكل جيد. فهو ينصح الشباب الفرنسي بقوله: "وأنتم أيها الفرنسيون الشباب المقبلون على السفر إلى المغرب، عليكم أن تستحضروا دائما هذه الحقيقة التي تم تجاهلها لمدة طويلة: وهي أن كل المكتشفين الأوروبيين قد فشلوا وسيفشلون في العالم الإسلامي، بسبب جهلهم للغة العربية".4 وثانيهما المعرفة اللازمة بمقومات الدين الإسلامي، كالقرآن الكريم والسنة النبوية وأخبار الصحابة والفقه وبعض الأمداح النبوية.5 بل وإن التظاهر بالإسلام قد يلعب لعب السحر في ألباب المسلمين، ويُمكّن صاحبه من التسلل إلى أوساط العامة والخاصة ونسج مختلف العلاقات المثمرة. فهو يعترف بأنه "لم يتردد لحظة في ربط علاقة صداقة مع العديد من المغاربة، عربا وأمازيغ، متعلمين وجاهلين، والذين لم يبخلوا علي بما يعرفون عن بلدهم وما يفكرون فيه، معتقدين بأنني مسلم. ومن أعلى إلى أسفل درجات السلم الاجتماعي المغربي، اكتسبت أصدقاء حقيقيين، طلبوا مني في كثير من الأحيان التخلي عن خدمة النصارى والهجرة إلى جنة الإسلام هاته، حيث الحرية والحياة السهلة. فالتأثير الذي تمارسه المعرفة المعمقة إلى حد ما بالأدب وباللغة العربية على المسلمين، يكون له فعلا وقع سحري لا يقاوم".6 غير أن هذه الشروط اللغوية والمعرفية لا تكفي للسفر إلى المغرب والتنقل عبر قراه ومداشره وأريافه بحرية تامة، فهذه مغامرة محفوفة بالمخاطر. فعندما اعتقد مولييراس أنه على أتم الاستعداد للقيام بهذا السفر، طلب منه أحد أصدقائه العارفين من باريس التخلي عن هذه المهمة التي تتطلب الحماية والتزكية من الجهات النافذة في العاصمة الفرنسية، وهذا ما لا يمكن الحصول عليه بسهولة، مما جعله يلغي مهمة السفر إلى أرض المغرب، إلا أنه لم يلغ مشروعه الاكتشافي لهذا البلد المجهول. وسوف تعنّ له فكرة مؤداها أنه سوف يبحث عمن يقوم بهذه المهمة التجسسية بالنيابة عنه، ويقوم هو فيما بعد بتدوين ذلك وإخراجه في شكل كتاب توثيقي يعرف فرنسا بتضاريس المغرب وقبائله وتقاليده وثرواته وقوته العسكرية. وهكذا تعرف مولييراس على رجل بفضل العناية الإلهية يدعى محمد بن الطيب عن طريق مخبر جزائري ساعده على إيجاد الرجل النادر المؤهل للقيام بهذا العمل، وقد أخبره بأنه: "وصل إلى وهران طالب رث الثياب، على هيئة درويش مختل العقل شيئا ما ويدعي معرفة عميقة بالمغرب".7 وسرعان ما سوف تتوثّق علاقة مولييراس بهذا الرجل الذي ينحدر من منطقة القبائل الأمازيغية في الجزائر، ويؤثر عليه تارة بتظاهره بالإسلام وبمعرفته العميقة باللغة العربية، وطورا بمكافأته بالقطع النقدية البيضاء التي كان الرجل في أمس الحاجة إليها، فيقبل في نهاية المطاف بالقيام بهذه المهمة التجسسية، التي سوف تمتد لأكثر من عشرين سنة، من 1872 إلى 1893، تمكن فيها هذا الرجل من تخزين جغرافية المغرب في رأسه، حيث كان مولييراس ينقب لكي يخرج من تلك الذاكرة الرائعة مئات الأسماء للقرى والقبائل والوديان والجبال، بل والعادات والتصرفات والأعراف والتقاليد والسلالات واللغات والسكان والقوى العسكرية والثروات الغابوية والزراعية والمعدنية.8 على هذا الأساس، يبدو أن أوجست مولييراس يشكل خير أنموذج للطابع التجسسي لعلم الاستشراق، رغم أنه لم يتحرك بجسده عبر ربوع المغرب، كما هو شأن الكثير من المستشرقين الذين ارتحلوا عبر مختلف أصقاع المشرق العربي، إلا أنه تمكن بدهائه الخارق من أن يحقق ما لم يحققه العديد من الرحالة والمستكشفين والمستعربين، فسبَر أغوار المغرب المجهول رغم أن قدمه لم تطأ هذا البلد، وتعرف على أسرار المغاربة الخاصة في زمن انعدمت فيه وسائل المعرفة من كتب وإعلام. وفي الأخير قدم ذلك كله على صحن من ذهب لفرنسا التي كانت تتأهب للإنقضاض على المغرب، ومن المحتمل أن دعوته المتكررة في كتابه المغرب المجهول الموجهة إلى الدوائر الرسمية الفرنسية للإسراع بغزو المغرب كان لها تأثير كبير على القادة السياسيين، لأنه بعد مدة وجيزة من الانتهاء من مهمته الاستكشافية والتجسسية سوف يبدأ مسلسل تقسيم المغرب بين الجارتين إسبانيا وفرنسا، الذي سوف يتوج بفرض نظام الحماية على بلاد المغرب في 30 مارس 1912. الهوامش: (*) اعتمدت في هذه المقالة على ترجمة د. عز الدين الخطابي لكتاب: المغرب المجهول، اكتشاف الريف ج 1/اكتشاف جبالة ج2، لصاحبه أوجست مولييراس إلى اللغة العربية، وهي تعتبر ترجمة قيمة أغنى بها الباحث المكتبة المغربية، لا سيما فيما يتعلق بالدراسات والأبحاث الاستشراقية التي اشتغلت على منطقة الريف. 1 أوجست مولييراس، المغرب المجهول، اكتشاف الريف ج 1، تر. د. عز الدين الخطابي، منشورات تفراز ن اءريف – المغرب 2007، ص 41 2 المرجع نفسه، ص 17 3 المرجع نفسه، ص 14 4 المرجع نفسه، ص 16 5 المرجع نفسه، ص 14، 15 6 المرجع نفسه، ص 17 7 المرجع نفسه، ص 19 8 المرجع نفسه، ص 23