يعتبر تنامي الخطر الإرهابي الذي باتت تمثله "التنظيمات الجهادية" المتطرفة الموجودة في كل من منطقتي المغرب العربي والساحل والصحراء، من أكبر التحديات الراهنة التي تهدد مستقبل واستقرار تلك المناطق، حيث كشفت صحيفة "نيويورك تايمز" نهاية شهر يناير 2016 نقلا عن خبراء وعسكريين أمريكيين، أن هذه التنظيمات دخلت في مرحلة تنسيق وتقارب غير مسبوقة، بغية توحيد مناطق شاسعة تمتد من شمال موريتانيا إلى ليبيا، مرورا بكل من مالي والتشاد، المسافة الإجمالية التي تخضع لنفوذ هذه التنظيمات الجهادية تصل حوالي تسعة ملايين كيلومتر مربع مما يجعلها صعبة المراقبة والرصد والضبط. فبالإضافة إلى معطى تمدد وتوحد الحركات المتطرفة، فإن الضربات القوية الأخيرة التي عرفتها كل من تونس والعاصمة المالية باماكو، يؤكد أن هناك تحول على مستوى إستراتيجية ومجال اشتغال تلك التنظيمات، حيث انتقلت من مجال الدولة إلى فضاء أوسع عابرا للحدود. إن انتقال التنظيمات الجهادية من القطرية إلى الإقليمية يكتسي طابعا تكتيكيا سواء بالنسبة للجماعات الجهادية السابقة،على شاكلة التحاق كل من "الجماعة الليبية المقاتلة" و"الجماعة المغربية الإسلامية المقاتلة" بتنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"أو بالنسبة للجماعات المتطرفة الجديدة الموالية لتنظيم الدولة الإسلامية " داعش" في كل من ليبيا والجزائر وتونس، مثل " فجر الإسلام" و"جند الخلافة" وغيرها من التنظيمات. ويبقى الهدف من هذا الانتقال هو الحصول على ولاء أكبر عدد من المناصرين والمتعاطفين وتوسيع مجال نفوذ " التيار الجهادي" وربط الصلة بين الجماعات الإسلامية المتطرفة بالمنطقة، سيما أن أبرز قيادي "القاعدة" أيمن الظواهري مافتئ يمنح الدعم الشرعي والديني للتحالف والتعاون بين هذه الجماعات بالمنطقة، بحيث يكتسي هذا التوجه بعدا استراتيجيا من منظور قيادي ومنظري" التيار السلفي الجهادي"، دون إغفال بعض الاستثناءات المتعلقة بالصراع حول النفوذ والمتنازعين بعض التيارات المتطرفة، مثل ما وقع مؤخر في ليبيا، حيث أدت الاشتباكات بين تنظيم "داعش" و"مجلس شورى ثوار درنة" إلى مقتل بعض القادة من الطرفين، ويرجع سبب اندلاع القتال بعد مقتل قائد "مجلس شورى ثوار درنة" لرفضه على ما يبدو مبايعة أبو بكر البغدادي زعيم "تنظيم الدولة الإسلامية"، الأمر الذي دفع"بالمجلس"إلى إعلان-في بيان له- قتاله "داعش"، مطالبًا أبناء المدينة أن يضعوا أيديهم بأيدي قوات المجلس. ومن أجل فهم ظاهرة تنامي وانتشار "الجماعات الجهادية" وتحليل وتفكيك حلقات التمدد الجغرافي والديموغرافي التي تنهجها ابتداء من الرقعة المغاربية وانتهاء بالساحل جنوب الصحراء، يمكن الاستعانة بثلاثة مداخل رئيسية: بين توظيف الخطاب الديني وجاذبية الفكر الجهادي يتميز الخطاب الديني عموما بقدرة كبيرة على الحشد والاستقطاب في أوساط المجتمعات المسلمة، خاصة عندما تنهل "الإيديولوجية الراديكالية" القائمة على الدين من الحقبة النبوية وتوظف ملابسات النص بغية استعادة نموذج الدعوة الإسلامية في أصولها الطهرانية الأولى، لحظة تشكلها وولادتها، واستعادتها كذلك بكل تفاصليها ومكوناتها محاولة ترجمتها على العالم الموضوعي في اللحظة الراهنة، بحيث تستند على منهج خاص في فهمها وتأويلها للنصوص القرآنية والسنة النبوية، هذه الرؤية شكلت الإيديولوجية والمنطلق الذي تأسست عليه الحركة الوهابية، بعدما بات أنصار هذه الحركة يرون أنفسهم أهل توحيد وموحدين، والآخرين مشركين وملحدين. وقد تبلورت أدبيات الحركات المتطرفة بشكل أكثر تفصيلا في مجموعة من الكتابات والوثائق التي تتضمن قراءات وأفكار واجتهادات تجاه مجموعة من القضايا، خاصة المرتبطة بالجهاد"، حيث إن هذه الكتابات ما تزال تعتمد كمراجع تتسم" بالوتوقية" وحتى "القداسة" في مخيال وتصورات الأفراد والجماعات التي تعتنق هذا "الفكر الجهادي المتطرف". ويأتي في مقدمة هؤلاء المنظرين الإسلامية، ما أنتجه سيد قطب" في هذا الموضوع، حيث يعتبر من المؤسسين الأوائل للفكر الجهادي في المنطقة العربية. هذا، بالإضافة إلى الكتابات الأخرى التي لا تقل أهمية، مثل "رسالة الإيمان" (صالح سرية 1973)، و"الفريضة الغائبة" (محمد عبد السلام فرج 1980)، و"كلمة حق" (عمر عبد الرحمان 1982). كما أفرز الفكر والمنهج السلفي بعض الأدبيات والمفاهيم التي أصبحت فيما بعد بمثابة "الأرضية الفكرية والإطار المرجعي" بالنسبة لباقي الحركات التي تتبنى "الفكر الجهادي"، الأمر أدى إلى ظهور مجموعة من الحركات المتطرفة في مختلف مناطق العالم، من ضمنها المنطقة المغاربية التي انتشرت فيها بعض الجماعات المقاتلة التي وإن كانت تختلف على مستوى الأهداف والإستراتيجية، غير أنها تشترك وتلتقي في الوسائل، لاسيما وإنها ترى "العنف" أو "القتال" هي الوسيلة الوحيدة التي يمكن من خلالها تحقيق الغايات المشكلة "للأيديولوجية الجهادية" والمتمثلة في إقامة "الخلافة الإسلامية على منهج النبوة"، و"تطبيق شرع الله،" وممارسة "الجهاد ضد ما تسميه الطواغيت" (الحكام العرب، الغرب واليهود)، ونصرة المستضعفين وتخليصهم من الظلم والاستعمار والهيمنة الأمريكية و الغربية. وخلافا للجماعات الإسلامية - غير الجهادية - التي تنطلق من " فقه الاستضعاف"، الذي يرتكز على عدم القدرة على الإعداد والصبر وكف اليد، فإن " الحركات الجهادية" تجعل من الاستضعاف حالة استثناء، لأنها تتمرد على الواقع وتسعى إلى هدمه بالحرب والقتال بذريعة إعمال فريضة الجهاد، حيث تستند في ذلك على مجموعة من الأسس الشرعية، والعقائد المذهبية وبعض المفاهيم المؤسسة للخطاب السلفي الجهادي مثل "الحاكمية" و"الولاء والبراء" و" الاحتجاج بدعوى الجاهلية ". وتعمل الحركات الراديكالية على نشر"الفكر الجهادي" وتعميم الأدبيات والتصورات المرتبطة بهذا الفكر،من خلال الاستفادة من الوسائط الإعلامية الحديثة، حيث تعتبر شبكة الانترنيت بالنسبة إليهم أحد الأسلحة الرئيسية في معركة كسب عقول وقلوب المسلمين، ونشر أفكارها ومعتقداتها على نطاق واسع، وتجنيد الأعضاء، وكسب المؤديين والمتعاطفين، وتوسيع دائرة الاستقطاب والتوسع. أومن أجل ممارسة ما يعرف "بالجهاد الإلكتروني". البيئة الحاضنة، تعدد العوامل واختلاف المؤثرات رغم أن لجوء بعض الأفراد والجماعات المتطرفة إلى العنف يكون مسوغا بخلفيات دينية وفكرية، فإن هناك عوامل اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية ونفسية، ساهمت كذلك في انتشار وشيوع التطرف والعنف بنسب متفاوتة. فالعنف والتطرف ظاهرتين اجتماعيتين لا يمكن دراستهما بمعزل عن تفاعلات المجتمعات التي تعرف هذه الظواهر، أو ما يصطلح عليها " بالبيئة الحاضنة"،حيث ترتبط ظاهرة انتشار التيارات المتطرفة في الرقعة المغاربية بمجموعة من العوامل والمؤثرات الداخلية والإقليمية و الدولية التي ساهمت في "تبيئة " و"توطين " مثل هذه الحركات، وفيما يلي أبرز العوامل: - على مستوى الوضع السياسي والثقافي وبالرغم من بعض الانفراج والانفتاح السياسي التي عرفته بعض الدول بعد موجة وارتدادات ما يعرف بالربيع العربي، إلا أن السمات العامة للأنظمة الحاكمة ببعض الدول المغاربية مع وجود بعض التباين، لم تعرف أية تغييرات جوهرية في بنية السلطة وكيفية توزيعها، حيث ظلت تتسم بالخصائص السابقة، غياب أي تعاقد بين السلطة والمواطنين، والمؤسسات المنتخبة غير فعالة وصورية، عدم ربط المسؤولية بالمحاسبة، سيطرة السلطة المركزية على مختلف المجالات، استغلال المناصب العليا في الاغتناء غير المشروع، كما انعكس هذا الوضع السياسي المتردي على الوضع الثقافي داخل هذه المنطقة، بفعل ظهور ثقافات مضادة ناجمة عن فشل الثقافة السائدة في توجيه وتأطير سلوكيات البشر، كما أن "الهوة الثقافية" الموجودة تحول دون دمج القادمين من البوادي مما يسهل عملية استقطابهم وتجنيدهم من طرف المشايخ والدعاة المتشددين الذين يوظفون الخطاب الديني لهذه الغاية، سيما وأن تلك الفئات تعيش في الهوامش وتعاني الفقر. -على مستوى الوضع الاقتصادي والاجتماعي إن التطرف والعنف يجد بيئته التحتية في "الوضع المتردي اقتصاديا واجتماعيا " الذي تشهده المنطقة المغاربية منذ عقود، بحيث يعتبر الوضع الاقتصادي والاجتماعي من العوامل الرئيسية في خلق الاستقرار النفسي لدى الأفراد، فكلما كان مصدر عيش الإنسان منعدم ومحدود كان رضاه واستقراره غير ثابت، وقد يتحول عدم الرضا إلى كراهية تقوده إلى النقمة والحقد على المجتمع. فالأوضاع الاقتصادية المتردية ساهمت في تفشي البطالة والفقر والفوارق الطبقية الفاحشة، منها طبقة بورجوازية ثرية تستحوذ على الثروات والمقدرات المالية، وطبقة عريضة وواسعة تعيش الفقر والحرمان على جميع المستويات (السكن، الصحة، التعليم...)، فيدفعها هذا الوضع إلى التمرد، وإلى التشدد والارتماء في أحضان الجماعات المتطرفة والتكفيرية. -على المستوى الخارجي إن الاستعمار الغربي لمعظم الدول العربية، واحتلال فلسطين سنة 1948، والهزائم التي لحقت بالعرب ابتداء من سنة 1967، وتمزيق وتقسيم الدول العربية إلى دويلات صغيرة تابعة للدول الكبرى، هذا بالإضافة إلى أن السياسات الغربية وما تفرزه من تناقض فاضح بين ما تدعو إليه المواثيق الدولية من مبادئ وقيم إنسانية، وبين السلوكات والممارسات المرتبطة بالطموحات التوسعية للدول العظمى، ساهم في فتح المجال أمام انتشار ظاهرتي العنف والإرهاب، كردة فعل على الشعور بالظلم نتيجة احتقار القانون الدولي، والاعتداء على سيادة الدول والإساءة إلى حقوقها ومصالحها المشروعة. مناطق الفوضى والخراب بمثابة "أرض الجهاد".."إدارة التوحش" تعتبر "إمارة" التنظيمات المتطرفة، إمارة حرب في التوصيف "الفقهي السلفي الجهادي" لا إمارة دولة، حيث أنها تسعى إلى تمكين "الجماعات الجهادية" من خلال حرب الاستنزاف الموجهة ضد نظم الحكم، وتنحصر مهام الإمارة و أحكامها في تدبير شؤون الحرب، وولاية القضاء، وحماية البيضة، وحماية الحريم ، وتقسيم الفيء و الغنائم، وجباية الزكاة و الصدقات، وإقامة الحدود. وعلى غرار استراتيجية تنظيم "القاعدة الأم" التي ترتكز على اختيار بؤر التوتر والأماكن التي ينعدم فيها الأمن (مثل أفغانستان، العراق..)، كقواعد خلفية وملاجئ ومقرات مركزية، تستعمل للتدريب على القتال، وتجميع المقاتلين، وتمركز القادة و"الأمراء"، عمل تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي على التركيز والاستقرار في دول الساحل جنوب الصحراء، واتخاذ هذه الأماكن كمراكز لعملياته وملاجئ يقصدها معظم السلفيين الجهاديين المغاربيين الفارين من بلدانهم، وعلى نفس المنوال والنهج سارت الجماعات الأخرى الموالية لتنظيم " داعش" بالمنطقة المغاربية، عندما تمركزت في ليبيا مستغلة الفوضى وعدم الاستقرار. وقد اعتمد تنظيم"القاعدة "في السابق والتنظيمات المتطرفة التي ظهرت لاحقا في بلورة استراتيجيتها على كتاب بعنوان" إدارة التوحش" لمؤلفه أبو بكر ناجي، وقد منعت السعودية سنة 2008 هذا الكتاب من التداول، حيث أصبح متاحا فيما بعد في أكثر من 15 ألف رابط في شبكة الانترنت، وترجمته وزارة الدفاع الأمريكية للغة الانجليزية بعد أن عثرت المخابرات الأمريكية على وثائق ورسائل موجهة من وإلى بن لادن تشمل فصولا من هذا الكتاب. وتعتبر" الاستراتيجية الجهادية" المضمنة بهذا الكتاب بمثابة " خطط حربية وقتالية " موضوعة رهن إشارة "الجهاديين"، بحيث ترتكز هذه الخطط على هدم كل ما هو قائم، وبناء جيل من "الشباب الجهادي" الذي يلزمه الأشغال على مرحلتين مترابطتين، الأولى يطلق عليها مرحلة" شوكة النكاية والإنهاك" بينما يطلق على الثانية مرحلة" إدارة التوحش" التي يعنى بها الفوضى. ويقصد بالشوكة في أدبياتهم هو "الموالاة الإيمانية"، فبعدما يحصل كل فرد في المجموعة أو في منطقة التوحش (الفوضى) –مهما قل شأنه- على الولاء من باقي الأفراد ومن ثم يعطي هو الولاء للباقين، بحيث يكون هو فداء لهم وهم فداء له، من ذلك تتكون شوكة من هذه المجموعة في مواجهة الأعداء. والهدف الذي يراد تحقيقه في المرحلة الأولى، المسماة مرحلة الشوكة والنكاية، هو إنهاك العدو والنكاية به عبر عمليات متصاعدة حتى ولو كانت صغيرة، لكن تراكمها في نظر الحركات المتطرفة من شأنه أن يحقق عدة أهداف، سواء من خلال إنهاك "الأنظمة العميلة"واستنزاف قدراتها وجذب شباب جدد لساحة العمل "الجهادي"، وإخراج المناطق المختارة في الدول "الهشة القابلة للانهيار" من سيطرة الأنظمة الحاكمة و العمل على "إدارة التوحش" التي ستحدث فيها، وأخيرا الارتقاء بقدرات أفراد مجموعات النكاية ليكونوا مهيئين نفسيا و عمليا لمرحلة "إدارة التوحش" التي تعتقد تلك التنظيمات أن الأمة الإسلامية مقبلة عليها. من هنا، يمكن فهم التحولات والتحديات الذي تعيشها الرقعة المغاربية، خاصة على مستوى إنتاج وتفريخ عدد كبير من الجهاديين، أو على مستوى تمدد وانتشار التيارات الإسلامية الراديكالية، بحيث أن الأوضاع الهشة في كل من ليبيا وجنوب الساحل والصحراء، تعتبر مناطق مختارة وبيئة مناسبة لتحقيق "المشروع الجهادي"، بحكم توفر جميع الشروط لاتخاذ هذه المناطق قواعد خلفية لضرب العدو الداخلي(أنظمة الحكم) والخارجي (الغرب عموما وأمريكا تحديدا) وبناء "دولة الخلافة" حسب منظورها. * باحث في العلوم السياسية