تتبعنا النقاش العمومي الذي حظي به "مشروع وثيقة المرجعية الفكرية والسياسية" لحزب الأصالة والمعاصرة، واعتبرنا من جهتنا أن التفاعل معه من طرف الرأي العام خطوة إيجابية في مسار تحقيق الهدف الذي حَرَّكَنا في اتجاه نشره على نطاق واسع. خاصة وأننا انطلقنا من كون العمل الحزبي، وإن في شقه الداخلي، يعد شأنا عاما قابلا للتداول العمومي، ويحتم علينا الواجب تيسير سبل الوصول إلى المعلومة، دون النفخ فيها أو التبخيس من قيمتها. كما أثلجت صدرنا نتائج هذا النقاش العمومي، الذي لم يكن محابيا للمشروع ولا مجاملا له، بل بالقدر الذي كان متجها نحو تسليط الضوء على نقط القوة في المشروع من حيث الاجتهاد والجرأة في إثارة موضوعات الاشتغال وفق رؤية واضحة وأطروحة أوضح، بالقدر الذي انصب هذا النقاش على بعض مكامن "القصور" و "التعثرات" و "النواقص" التي شابت عملية تركيب المادة الحيوية التي انتظمت داخلها مرجعية الحزب على المسويين الفكري والسياسي، أو تلك التي ارتبطت بدمج وثيقة السياسات العمومية فيها لاعتبارات إجرائية عملية. وللإشارة، فإن العمل الذي قامت به اللجنة التحضيرية، لم يكن بالمطلق منطلقا من دحض ما تراكم في أدبيات الحزب منذ التأسيس إلى الآن، وهو ما تم التعبير عنه صراحة داخل المشروع، عبر التأكيد على اعتماد كل ما أنتج داخل "حركة لكل الديمقراطيين" وما تمت المصادقة عليه في المؤتمر الأول من وثائق؛ "مبادئ وتوجهات" و "أهداف وأولويات"، وكذا ما أفرزه المؤتمر الاستثنائي خاصة وثيقة "الديمقراطية الاجتماعية المنفتحة". فإلى أي حد كنا أمناء في الاستمرار على خط الوفاء وعدم التنصل من منطلقات ومرتكزات التأسيس؟ وهل انحرفنا عن سكة المبادئ والتوجهات التي جمعتنا عند الانطلاق؟ وهل أهداف الحزب وأولوياته لا زالت قائمة، أم أن سيرورة التحولات الاجتماعية والسياسية تتطلب منا التكيف وفق المستجدات؟ وهل كانت توجهاتنا وخياراتنا عند التأسيس ثابتة ومتكاملة وغير قابلة للتنقيح وفق السياقات الدولية والإقليمية والوطنية؟ وإلى أي حد يتأثر النقاش والتداول في شأن المرجعية بعملية تموقع الأفراد في الساحة السياسية والتنافس على احتلال المواقع داخل الهياكل التنظيمية للحزب؟ وما هو وقع التفاوتات الزمنية الحاصلة في الانتساب إلى المشروع على المشروع ذاته؟... وأخذا بعين الاعتبار كل هذه الأسئلة وغيرها، مما يتناسل قبل وإبان وبعد انعقاد المؤتمر الوطني الثالث للحزب، الذي يشكل بالنسبة لنا محطة سياسية وتنظيمية وتواصلية، يمكننا التأكيد على أن بعض الملاحظات والانتقادات كانت مثار نقاش بيننا، وهو الأمر الذي يتطلب شيئا من التوضيح، بعيدا عن أية مزايدة، وفي منأى عن إثارة أية نعوت قدحية، ولسنا ممن يتنكر للحس الإنساني في العلاقات أو للدفئ الوجداني في التفاعلات، وغايتنا تكمن أساسا في إثراء النقاش وتطويره وإغنائه وتعميقه، بما يقوي الوشائج والروابط بين المناضلات والمناضلين على قاعدة الوضوح. فدعوة المؤتمر إلى مراجعة الوثيقة وهي دعوة مشروعة بطبيعة الحال بما يتفق والشروط الضابطة للمواصفات العلمية "للوثيقة المذهبية أو الإيديلوجية" والتي نقترح على المؤتمر تغيير إسمها في القانون الأساسي للحزب ب "وثيقة المرجعية الفكرية والسياسية" وادعاء الخلط والعموميات والتكرار والفوضى المنهجية والتفكك وغياب الرابط الناظم لأفكارها، كل هذا يمكن اعتباره في إطار الحق في الاختلاف أحكام القيمة، لن يجد لها القارئ الحصيف أساسا إن اطلع على الوثيقة وخصص لها وقتا كافيا للاستيعاب والفهم والتحليل وإعادة التركيب. الديموقراطية الاجتماعية من منظورنا تعتبر خيارا فكريا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا، يترجم القدرة على استلهام سيرورة التحولات التاريخية والاجتماعية المعاصرة، من خلال إبراز أوجه قصور المنظومات الفكرية والسياسية والاقتصادية التي حاولت تنميط التاريخ الاجتماعي والإنساني وعلاقات الإنتاج، أو تلك التي حاولت التحكم فيه، وتحولت بفعل تجربة مجموعة من البلدان من نظريات للتنظيم الاجتماعي، إلى أنظمة عاجزة عن تحقيق العدالة الاجتماعية وشروط الديمقراطية. فاختيارنا للديموقراطية الاجتماعية يستلهم قيمها الأساسية الكونية القائمة على الحرية والعدالة والمساواة والتضامن، بما تعنيه على المستوى السياسي من انتصار لقواعد الديمقراطية التمثيلية والتشاركية، وعلى المستوى الاجتماعي والاقتصادي من خيارات تنحاز للتوزيع العادل للثروات وللسياسات ذات المضامين الاجتماعية، المرتكزة على الأدوار الحمائية للدولة، وعلى حقوق الإنسان بكل أجيالها، وعلى التنمية المجالية بأبعادها المختلفة. لذلك، فتعاملنا مع الديموقراطية الاجتماعية كأطروحة منفتحة ومرنة، يمكن الاستفادة من طريقة تنظيمها للمجتمع وكيفية تصورها للعلاقة بين الدولة والمجتمع، دون فرض نموذج فكري صارم لا يراعي التحولات التاريخية، والخصوصيات الاجتماعية والحضارية والثقافية. لذلك، فحزب الأصالة والمعاصرة يتبنى المبادئ الأساسية للديمقراطية الاجتماعية، ليكون في خدمة المواطنات والمواطنين، من أجل تقدم المغرب وازدهاره، وهو واع كل الوعي بالتحديات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والبيئية للعولمة والتطور التكنولوجي الهائل، ومدرك كل الإدراك لطبيعة وشكل التحولات الاجتماعية الجارية داخل المجتمع المغربي. وقد اعتبرنا أن تنصيص الدستور المغربي على دور الدولة الحمائي لمجمل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، تمليه حاجة بلادنا إلى دولة العدالة الاجتماعية، تقوم على إرساء نموذج اقتصادي يربط النماء الاقتصادي والاجتماعي بعنصر الحكامة ومبدأ الإنصاف في تدبير السياسات العمومية. واعتبرنا أنه الخيار الأنسب لبلادنا وهي تبني نموذجها التنموي الطموح عبر إرساء دعائم اقتصاد تنموي، تنافسي ومنتج، لكننا جعلناه مشروطا بالمسؤولية الاجتماعية، بحيث لا يترك لآليات العرض والطلب وحدها الكلمة الفصل في المجال الاقتصادي دون تدخل الدولة عبر التخطيط والمراقبة والمساءلة وإعمال الحكامة الجيدة وتقوية دور الطبقة الوسطى في دمقرطة وتحديث المجتمع. وذلك عبر التقليص من الفوارق، سواء منها الاقتصادية أو الاجتماعية أو المجالية أو الجنسية ومحاربة البطالة والهشاشة والفقر والتهميش والإقصاء، وإبداع آليات إدماج جميع المواطنات والمواطنين بمن فيهم ذوي الاحتياجات الخاصة، كل حسب مؤهلاته، في الحركية الاقتصادية والتنموية، وتفعيل حقيقي لمقتضيات الدستور فيما يخص الحق في السكن اللائق للجميع والقضاء على المضاربات العقارية مع اعتماد مقاربة جديدة في التعاطي مع ذوي الدخل المحدود. فالدولة، ورغم ما طال أدوارها من تغيرات جراء أحكام العولمة وزحف قوانين "الاقتصاد الحر"، فإنها لازالت هي مفتاح التنمية وعمودها الفقري. ولذلك بمقدار ما سيكون عليها أن تنهض بأدوار رئيسية في مضمار عملية التنمية، في الحقلين الاقتصادي والاجتماعي، بمقدار ما سيكون عليها تنمية الطبقة الوسطى بالنظر للأدوار الحيوية التي تلعبها هذه الأخيرة في تحريك عجلة الاقتصاد وتنمية الطلب العام، فضلا عن تحقيق التوازن الاجتماعي والتحديث والاستقرار السياسي. وذلك من خلال العمل على إبداع نموذج اقتصادي جديد لجعل المغرب في مصاف "الاقتصاديات الصاعدة" وتحقيق نموذج تنموي جديد يمكن الوصول إلى أكبر نسبة من النمو للإنتاج الداخلي الإجمالي واستمرار تفعيل الإصلاحات المؤسساتية المهيكلة وتقوية جودة تنافسية المنتوجات المغربية والمقاولات والبحث عن أسواق جديدة، وتدبير التوازنات "الماكرو اقتصادية" بحكامة ومهنية، ووضع إطار واضح لجميع الأهداف المرقمة والتدابير اللازم اتخاذها من أجل رفع أو تخفيف الأكراهات المالية، وفتح مجال الانتعاش والنمو الاقتصادي لكل القطاعات البنيوية والمنتجة وذات القيمة المضافة العالية لتحقيق نسبة نمو مرتفع، والرفع من مناصب الشغل تدريجيا لامتصاص البطالة. وهو ما يتطلب التحكم في آليات ضبط التوازنات الكبرى ومنها: الميزانية العامة للدولة، الميزانيات الفرعية، ميزانيات الجهات والجماعات الترابية، المديونية، المقاصة، التبادل التجاري (مع فتح أسواق جديدة)، ميزان الأداءات، تدبير الكتلة النقدية، سعر الصرف، التضخم وسعر الفائدة، الاستثمار، الاستهلاك، ورفع نسبة النمو، وخفض نسبة البطالة. وتشجيع المبادرة الحرة واقتصاد السوق مع مراعاة التنافسية الحقة، ومحاربة اقتصاد الريع، والحفاظ على القدرة الشرائية للطبقات الهشة والمتوسطة، والتوزيع العادل للثروات والاستغلال العقلاني للموارد وتشجيع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني في أفق خلق رفاه مشترك. كما تتطلب عملية تأهيل الاقتصاد الوطني التركيز على القطاعات الصناعية والخدماتية ذات الوقع المرتفع على القيمة المضافة والمستقطبة لليد العاملة الوطنية بمختلف مستويات تكوينها، وتعزيز المنتوجات الفلاحية عن طريق صناعات غدائية تبرز و تثمن القيمة المضافة التي تحتوي عليها هده المنتوجات والتي من شأنها الرفع من تنافسية الإقتصاد الوطني على مستوى ضفتي البحر الأبيض المتوسط وعلى المستوى العالمي. فتوسيع حيز انتشار الطبقة الوسطى بكل فئاتها، كميا ووظيفيا، من شأنه أن يضخ عوامل الكفاءة والحيوية في نسيج الاقتصاد والتنمية العلمية والاجتماعية والثقافية. ذلك أن حضورها الوازن في الدولة والمجتمع، إنما هو تعبير عن رسوخ الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. لذلك، لا مناص من استحضار علاقة التلازم بين دور الدولة في التنمية وهاجس تقوية الطبقة الوسطى لحظة صياغة السياسات العمومية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وهذا ما يتطلب العمل على تقوية قدرة الدولة على تعبئة وتطوير موارد المجتمع المادية والبشرية والمالية، ورعايتها للمخططات التنموية الكبرى للتقدم الاقتصادي والاجتماعي عبر توفير الإطار التشريعي والقضائي والمؤسساتي، وكذا البنيات الارتكازية الأساسية كمجال ملائم لتشجيع الاستثمار المنتج و إبراز القدرات الإنتاجية للمجتمع، وضمان المشاركة الفعلية لكل فئات المجتمع في صنع القرارات التنموية. وتطوير اقتصاد اجتماعي وتضامني يعلي من مبدأ الإنصاف وقيم التضامن والمساواة عبر إعطاء أولوية حاسمة لبرامج التنمية الاجتماعية العامة وتوفير إطار مؤسساتي شامل وفعال للحماية الاجتماعية، خاصة ما تعلق منه بالنظام التعاضدي وتوفير دور الرعاية الصحية والاجتماعية...الخ. وإرساء نظام وطني للنزاهة يحرر طاقات الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين، ويضمن تكافؤ الفرص والمساواة أمام القانون والإدارة، وتصحيح علاقة المرفق العام بعموم المواطنين والمستثمرين. وهذا يتطلب وضع استراتيجية شاملة ومندمجة وفعالة تهدف إلى إرساء الشفافية في المعاملات وإقرانها بالحق في الحصول على المعلومة، وتقوية الرقابة على إنفاق المال العام ومحاربة اقتصاد الريع...، وكل ما يدخل في حكم المخاطر التي من شأنها إلحاق الضرر بالاقتصاد الوطني وإعاقة تنمية البلاد. وتكريس المواطنة الجبائية كمدخل أساسي لتحقيق العدالة الجبائية على قاعدة الوضوح والملاءمة، وذلك عبر سن نظام ضريبي منصف ومحفز يحقق التوازن بين الأهداف المالية (تغطية النفقات العامة) والاقتصادية (تشجيع الاستثمار والاستهلاك) والاجتماعية (إعادة توزيع المداخيل الجبائية عبر تمويل الخدمات والمرافق العامة). إن الحزب يقارب المشاكل المعقدة لكل فئات المجتمع المغربي، وفق ما تمليه اختياراته الاجتماعية الديمقراطية، وهو يبحث عن حلول واقعية، مستمدة من قيم الانتساب السياسي الواعي لمفهوم المواطنة، ومرتكزة على الانفتاح على النخب وممارسة سياسة القرب... ونحن لا نطمح سوى إلى المساهمة من أجل توفير شروط وظروف تنمية شاملة ومستدامة، عبر دعم سياسات تنحو منحى محاربة كل عوامل الفقر والتهميش والإقصاء وعدم المساواة، والوقوف في وجه السياسات ذات الطابع المجحف والتمييزي. والمشاركة في نهج مقاربة للتنمية قائمة على حقوق الإنسان والمواطنة، وآخذة بعين الاعتبار قدرات مجتمعنا المغربي، ومتدرجة بشكل تراكمي في تلبية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية (العيش الكريم الغذاء السكن الصحة التعليم العمل). وهو ما يصب في تقوية وتعزيز التزام الدولة بواجباتها السياسية والاجتماعية والقانونية والأخلاقية، حفاظا على شرعية نظام الحكم وقدرته على تحقيق العدالة الاجتماعية لمواطناته ومواطنيه. وبالقدر الذي يعلن حزب الأصالة والمعاصرة إرادته السياسية في العمل على وضع معايير وأهداف ومؤشرات لقياس مدى الوفاء بخيار العدالة الاجتماعية، ويؤمن بأن إمكانية تحقيق ذلك متوفرة بالرغم من الصعوبات الميدانية، التي تعمل على تأجيل توفير عناصر تحقيقها، الكامنة في المساواة وعدم التمييز وتكافؤ الفرص، والتوزيع العادل للموارد والأعباء، والضمان الاجتماعي، وتوفير الأمن الغذائي للمواطِنات والمواطِنين، والعدالة بين الأجيال، بالقدر الذي يولي الأهمية الكبرى لحماية نظام النزاهة من السلوكات التي تنتهك القواعد والضوابط التي يفرضها النظام، والتصرفات التي تهدد المصلحة العامة، وكذلك الممارسات التي تسيء استخدام الوظيفة العامة لتحقيق مكاسب خاصة. فإذا كانت الديمقراطية بالمفهوم العام هي نظام اجتماعي يؤطر اختيارات المواطنات والمواطنين وفق قواعد سياسية ومؤسساتية متعاقد حولها، ويحيل على ثقافة سياسية وأخلاقية معينة تبرز فيها مفاهيم ذات صلة بضرورة تداول السلطة سلميا وبصورة دورية. وإذا كانت الديمقراطية بمفهومها الخاص، هي شكل من أشكال الحكم السياسي القائم على التداول السلمي للسلطة وحكم الأغلبية، وضمان حقوق المعارضة، مع مراعاة ضرورة حماية حقوق الإنسان بموجب الوثيقة الدستورية، فإن الديمقراطية من منظورنا تحيل على نظام سياسي واجتماعي لا يختزل العملية السياسية في الانتخابات، على الرغم من أهميتها من حيث اعتبارها الأداة التي تفرز الأغلبية الصادرة عن فئات وشرائح الشعب المختلفة، وعن طريقها نؤكد وجود دولة القانون التي تحترم وتضمن حقوق المواطِنات والمواطِنين، وتصون الحريات العامة للمجتمع، وتقيم المؤسسات اللازمة كآليات للدفاع عن المصالح العامة للجماعات والأفراد، وتضمن عدم الجمع بين السلطات، وتصون حقوق المعارضة. فالديمقراطية كما نراها هي محرك أساسي لمجتمعنا المغربي، وهي أرضية لكي يعي المواطنون مكانتهم وحقوقهم وواجباتهم، وتحقيق مصيرهم، وتجعل من الحرية عاملا مشتركا لكافة المواطنات والمواطنين، وتقوي قناعتهم لتفعيلها والدفاع عنها، وترسخ الكرامة الانسانية، وتنمي استقلاليتهم ونضج تفكيرهم وسلوكهم الاجتماعي، وتوجد توازنا بين الحكومة والمعارضة، وتفسح المجال للجميع من أجل النقاش الحر، والاحتكام إلى العقل للإقناع والاقتناع، وتفتح آفاقا جديدة للإبداع لإيجاد حلول أكثر ملاءمة، وتحافظ على أمن واستقرار البلاد، وتدير الصراع السياسي والاجتماعي بشكل سلمي، وتعطي الناس فرصا أكبر للتأثير على مجريات الأحداث والمساهمة في الحياة العامة، عن طريق العمل السياسي والمدني، وإيجاد آليات واضحة لتطبيق مفهوم السلطة وممارستها في كافة مستويات العلاقات الإنسانية. وإذا كان البعد السياسي للديمقراطية يهم مصدر السيادة والسلطة، والحقوق السياسية للمواطنات والمواطنين، عبر المساهمة في الانتخابات، وتشكيل الأحزاب وإبداء الرأي ونشره... فإن البعد الاجتماعي يحتل مركز القلب من الاهتمام في المشروع السياسي لحزب الأصالة والمعاصرة، لأنه يحمل هاجس صون كرامة المواطِنات والمواطِنين عبر تحسين أوضاعهم المادية والمعنوية، وانطلاقا من كون تجسيد مبدأ العدالة الاجتماعية يتأسس على التوزيع العادل والمنصف للثروة والاعتبار. فالمساواة بين الأفراد في المجتمعات المنظمة تستند بشكل أساسي على هذا المبدأ، للمساهمة بشكل جدي في الحياة السياسية، التي تتطلب معرفة بأمور الدولة وتسييرها وأمور السلطة ومدخلاتها. فالحقوق الاجتماعية من منظورنا مسألة ضرورية لاعتبار الإنسان غاية في ذاته، ولوجوب احترامه ومساعدته على العيش الكريم. لأن هدف التنمية في بلادنا هو حرية المواطن ورفاهيته. والديمقراطية الاجتماعية تسهل مشاركة المواطِنات والمواطِنين في العمل السياسي وتحرير قدراتهم الذاتية وضمان مشاركتهم في بناء الوطن، لأنها تسد حاجاتهم المادية وتعيد لهم اعتبارهم وكرامتهم. وبهذا يصبح للديمقراطية ببعديها السياسي والاجتماعي معنى واقعيا ومتكاملا. ونظرا لوجود علاقة التلازم بين بعدي الديمقراطية، فإنه بالنظر لتدني البعد الاجتماعي للديمقراطية، يكون من الهام جدا تحريك آليات الديمقراطية السياسية، لأن التوعية السياسية الجدية تساعد المواطنات والمواطنين على الوعي بمصالحهم الاقتصادية والاجتماعية، وتعمل على إشراكهم في العمل السياسي لتحريك الطاقات الكامنة فيهم من أجل مجتمع أكثر عدالة وتماسكا وتضامنا. إن وجود اختلالات على مستوى العدالة الاجتماعية داخل أي مجتمع تنتج عنه بالضرورة العديد من النتائج السلبية من قبيل ضعف التشغيل، وتردي الصحة العامة، وتزايد الإجرام، وضعف النجاح المدرسي، وعدم الرضى عن الذات، وضعف الإنتاجية والمبادرة، وتراجع التضامن الاجتماعي، وعدم الثقة بالحياة الديمقراطية، وضعف النمو الاقتصادي وانكماشه. وهو ما يهدد الديمقراطية السياسية ذاتها. إذا، رؤية الحزب تنطلق من طموح مناضلاته ومناضليه إلى المساهمة في معالجة القضايا الكبرى لبلادنا ذات الصلة بالتنمية ومتطلباتها الاقتصادية والاجتماعية، والدمقرطة وتبعاتها القانونية والمؤسساتية، والتحديث وتبعاته الثقافية والدينية والتربوية والحقوقية، وكذا في إبداع تصورات مواكبة للتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، وفي الإنصات للمواطِنات والمواطنين من مختلف مواقع تواجدهم والتجاوب معهم، وفي التنشئة على قيم النزاهة والشفافية والحكامة الجيدة والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والمواطنة والإنصاف وتكافؤ الفرص، وتعزيز المسؤولية السياسية، وتقوية القدرات المؤسساتية، وترسيخ منهجية التغيير السلس والمعقلن في ظل دولة الحق والقانون، وفي تأهيل الحزب للمشاركة في تحمل مسؤولية تدبير الشأن المحلي والعام. وتتمثل أهداف إنجاز حزبنا لهذه الوثيقة المرجعية في تجميع وتحليل المعطيات بخصوص القضايا المجتمعية الكبرى، وتنظيم وتدبير الاستراتيجية السياسية للحزب، وخلق آليات التحليل والاقتراح في كافة الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية. وفي إيجاد سبل المساهمة في إنتاج مواقف وبرامج عمل قابلة للتفعيل، والنهوض بالنقاشات الموضوعاتية والقطاعية المرتبطة بالسياسات العمومية. وكذا خلق شروط نقل هذه النقاشات داخل مختلف الجهات في إطار أشكال وصيغ موضوعاتية وتنظيمية مناسبة ومنتجة، وفي إبداع آليات تتبع الأداء الحكومي والتشريعي والجماعي والتفاعل معه، وإيجاد سبل تنشيط العلاقات والممارسات داخل الفضاءات التنظيمية للحزب بانفتاح متفاعل مع قضايا الوطن، ومع المجتمع المدني. وبهذه المواصفات وغيرها مما ورد في المرجعية، فمشروع الوثيقة المقدم للمؤتمر الوطني عمل على "ضبط الاختيار الفكري والسياسي بالأساس الاقتصادي المعبر عنه"، واستند إلى التحليل النظري المعمق فيما يخص "منزلة الدولة والمؤسسات في علاقتهما بالاقتصاد والمجتمع والثقافة والبيئة والحريات"، واجتهد بخصوص تحديد "الموضوعات الفكرية والسياسية عبر ترسانة مفاهيمية"، وحاول "بناء أطروحة نظرية مستلهمة من الواقع، بأهم الاستشكالات والاستيضاحات التي تتعلق بالتفكير في أسس تنظيم الاقتصاد الوطني بما يخدم نظام الاقتصاد المختلط واقتصاد السوق الاجتماعي في ظل تنافسية عادلة، وتحليل نظم وإمكانات إعادة توزيع الثروات، وتفكيك جاهزية ترسيخ قيم الحريات والتضامن المجتمعي، ورصد درجات قابلية المجتمع في نظامه الفكري والوجداني لأنواع الحريات العامة والفردية وتلاؤمها مع البنية العميقة للمكون التاريخي والثقافي للمجتمع المغربي". غير أن كل هذا مرتبط أساسا بجاهزية الفاعل السياسي بحكم علاقاته وتفاعلاته المتشعبة بمؤسسات الدولة من جهة، وبإطارات المجتمع من جهة ثانية، وبتلاحم ووحدة صفه الداخلي من جهة ثالثة.