(3/3) كيف سنتعامل مع هذه الاختلافات والفوارق؟ علينا أن نعي أولا أن توحيد الأمازيغية عملية تنجز عبر مراحل قد تستغرق أزيد من خمس عشرة سنة منذ انطلاقتها الأولى. ثم يتناقص بعد ذلك تدريجيا عدد السنوات التي يتطلّبها اكتساب أمازيغية موحّدة، إلى أن نصل إلى برنامج موحّد وكتاب مدرسي موحّد منذ السنوات الأولى من التعليم الابتدائي. ففي السنتين الأولى والثانية من التحاق التلميذ بالمدرسة، يقتصر تعليم الأمازيغية على تمكين هذا التلميذ من كتابة وقراءة الأمازيغية بحرفها الأمازيغي، من خلال نصوص بسيطة مرتبطة بمحيط التلميذ وبيئته. كل ذلك يكون بإحدى اللهجات المتداولة بالمنطقة (الريف، المغرب الأوسط، سوس)، والتي لا تتضمن من الأمازيغية الموحّدة إلا ما كان موحّدا ومشتركا أصلا، بحيث لا يجب أن يشعر التلميذ أنه يدرس لغة غير لغته الفطرية التي اكتسبها منذ صغره. ابتداء من السنة الثالثة، التي توافق العام الثامن/التاسع من عمر التلميذ، تُقرّر مادة النحو Tajerrvumt التي تمكّن التلميذ من اكتشاف القواعد الخفية التي تحكم لغته. وضمن مادة النحو والإملاء يُدرج تدريس الفوارق بين اللهجات الأمازيغية التي سبق الكلام عنها. ويجب أن تكون موضوع برنامج متدرج وموزّع، حسب درجة الصعوبة، على ما تبقى من سنوات الدراسة حتى السنة النهائية من التعليم الثانوي الإعدادي، أي ما مجموعه سبع سنوات من دراسة قواعد الإملاء والصرف والنحو الأمازيغي، لكن دون أن يشعر التلميذ أنه يدرس قواعد إملائية وصرفية ونحوية خاصة بلغة أو لهجة أخرى، بل ينبغي أن تكون هذه الدروس مندمجة في البرنامج الخاص بالقواعد النحوية والإملائية والصرفية للهجته الأمازيغية، وموحّدة ومشتركة، في نفس الوقت، على الصعيد الوطني. ويتناول موضوع كل درس في النحو والصرف أحد الفوارق الأساسية بين اللهجات، والذي يتحدد هدفه في استيعاب التلميذ لمختلف الصيغ (مثل صيغ الاستفهام، أو الاستثناء، أو الكم والعدد، أو القلة والكثرة، أو ظروف الزمان والمكان، أو أدوات القرب والبعد، أو أسماء الإشارة، أو الاسم الموصول... إلخ) التي يُعبّر بها عن هذا الفارق في مختلف اللهجات، بجانب وانطلاقا من الصيغة الأولى التي يعرفها ضمن اللغة الأم للهجته التي يتحدث بها، حتى لا يشعر أنه يدرس لغة مختلفة عن لغته الأم. وينبغي، طبعا، وحتى يتحقق التقدم والتراكم على مستوى توحيد الأمازيغية، أن تُهيأ وتنجز هذه الدروس حول الاختلافات بين فروع الأمازيغية، بالشكل الذي يجعل كل اختلاف تمّ فهمه واستيعابه في درس جديد، يُدمج، بعد ذلك، ضمن النصوص الجديدة التي يدرسها التلاميذ، كجزء من الأمازيغية المشتركة والموحّدة، التي تدرّس لكل التلاميذ بكل المناطق حتى السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية الإعدادية. ولتوضيح هذه المنهجية نشير، كمثال، إلى أنه قبل التعرّض لاسم الإشارة المفرد كدرس في النحو الأمازيغي، لا يكون التلميذ يعرف غير النصوص التي تستعمل اسم الإشارة المفرد بالصيغة المتداولة في لهجته (إما "أ" أو "أد" أو "أو" A, Ad, U). أما الدرس المتعلق باسم الإشارة المفرد فسيكون موحّدا ومشتركا، وينطلق من نص واحد ومشترك كذلك على الصعيد الوطني، ويتضمن أمثلة توضيحية لاسم الإشارة المفرد بصيغه الثلاث، بحيث يتحدد الهدف والكفاية، المرتبطان بالدرس الجديد، في استيعاب التلميذ، كمرحلة أولى، أن اسم الإشارة المفرد في الأمازيغية يستعمل بصيغ ثلاث لا فرق بينها من حيث الدلالة والوظيفة، وفي القدرة، كمرحلة ثانية، على توظيف هذه الصيغ واستعمالها في الكلام والكتابة. وهكذا سيتعلم جميع التلاميذ، ومن جميع المناطق، أن عبارة "اركاز ا" {أو "أركاز اد" أو "أركاز و" حسب المناطق Argaz a, Argaz ad, Argaz u (هذا الرجل)}، يعبّر عنها كذلك ب"أركاز اد" (الوسط والجنوب) و"أركاز و" (أيت يزناسن وكبدانة) و"أركاز ا" (الريف). وحتى يتحقق التراكم والتقدم في عملية التوحيد المدرسي للأمازيغية، يشترط ان تتضمن النصوص التي تأتي بعد هذا الدرس (لنبقى في مثال درس اسم الإشارة المفرد) سواء الخاصة بالقراءة أو الإملاء أو التاريخ أو العلوم... اسم الإشارة المفرد بصيغه المختلفة حسب الحالات، لأن هذا الذي كان مختلفا من لهجة إلى أخرى أصبح الآن شيئا مشتركا بين كل اللهجات، بعد أن بات التلاميذ يفهمون كل هذه الصيغ لاسم الإشارة المفرد، وهو ما يتحقق معه التفاهم بين مستعملي اسم الإشارة المفرد بالصيغ المختلفة الخاصة بكل لهجة. وبنفس الطريقة، ولنفس الهدف، تنجز كل الدروس الأخرى المتعلقة بالفوارق الأخرى بين اللهجات على مدى سنوات الدراسة الابتدائية والثانوية الإعدادية، بحيث يصبح التلميذ في نهاية المرحلة الثانوية الإعدادية قادرا على فهم أي نص أمازيغي مكتوب بأية لهجة أمازيغية، والتحاور مع أي أمازيغي من أية منطقة من المغرب. أما في المرحلة الثانوية التأهيلية، فإن دراسة الأمازيغية ستتواصل، وبشكل موسّع ومعمّق، ببرامج موحّدة ومشتركة، تطبيقا لما سبق استيعابه في المرحلة الدراسية السابقة. العلاقة بين تعلّم الاختلافات اللهجية والحفاظ على اللغة الأم: سبق أن أوضحنا أن مشكل التوحيد المدرسي للأمازيغية، ليس مشكلا إلا عندما نريد أن يكون هذا التوحيد استمرارا وامتدادا للغة الأم التي يعرفها ويتقنها التلميذ، بحيث لا يشعر هذا الأخير أبدا أن لغته المدرسية هي لغة غريبة عن لغته الفطرية التي اكتسبها داخل البيت، بل هي ذات اللغة التي تعمل المدرسة على تطويرها وتوسيع معجمها، وإغنائها بالمفاهيم المجردة الجديدة مع التقدم في التحصيل الدراسي للتلميذ. فمعلوم أنه كلما اكتسب التلميذ أفكارا ومعارف جديدة، يكتسب معها، في نفس الوقت، مفاهيم وألفاظا وتعابير جديدة تعبّر عن تلك المعارف والأفكار، مما يغني رصيده اللغوي نتيجة اغتناء أفكاره ومعارفه. فتعلّم التلميذ الناطق بالأمازيغية، في إطار التوحيد المدرسي لهذه اللغة، لمفاهيم وألفاظ وتعابير جديدة، تستعملها في الأصل لهجة أخرى غير التي يستعملها هذا التلميذ، يدخل إذن ضمن إغناء رصيده اللغوي، موازاة مع اكتسابه مزيدا من الأفكار والمعارف. وهو ما يجعل من لغة المدرسة، وحتى عندما تكون جديدة في ألفاظها وتعابيرها ومجردة في مفاهيمها، استمرارا وتطويرا لنفس اللغة التي جاء بها هذا التلميذ إلى المدرسة. ولهذا فإن الأمازيغية المدرسية، أي أمازيغية الكتابة، لن تكون مطابقة مائة في المائة للغة الأم ولأمازيغية البيت والشارع، أي للأمازيغية الشفوية، دون أن يعني ذلك أبدا أننا سنكون أمام حالة "ديغلوسيا" (Diglossie)، أي أمام لغتين لا تربط بينهما إلا علاقة ضعيفة، كما في العلاقة بين العربية المدرسية والدارجة المغربية، اللتين تشكلان لغتين مستقلتين إحداهما عن الأخرى. والفرق بين الأمازيغية المدرسية المكتوبة والأمازيغية المتداولة، هو نفسه أو أقل منه الفرق الموجود بين لغة الكتابة ولغة الكلام في كل اللغات الحية المستعملة في الكلام والكتابة، مثل الإنجليزية والألمانية والفرنسية والإسبانية... مثال ذلك: رغم أن المغاربة يتعلمون اللغة الفرنسية في المدرسة، أي كلغة مدرسية راقية، لكن عندما يذهبون إلى فرنسا فإنهم يفهمون اللغة التي يتحدث بها الفرنسيون في الشارع، وهؤلاء يفهمون فرنسية المغاربة التي تعلموها في المدرسة. وهكذا يحصل التفاهم والتواصل بينهما دون أدنى صعوبة، وهو ما يؤكد أن فرنسية الشارع وفرنسية المدرسة لغة واحدة. صحيح أن هؤلاء المغاربة قد يصادفون كلمات "عامّية"، يستعملها محاورهم الفرنسي في الشارع، لا يفهمونها لأنها لا تنتمي إلى قاموس الفرنسية المدرسية. كما أن الفرنسيين الأميين (مجرد مثال للتوضيح)، أي الذين لم يدرسوا الفرنسية في المدرسة، قد لا يفهمون بعض الكلمات الفرنسية التي يستعملها مخاطبوهم المغاربة، أو التي تستعملها نشرات الأخبار في القنوات الفرنسية. لكن المهم، ورغم عدم فهم الطرفين لبعض الكلمات التي يستعملها هذا الطرف أو ذاك، فإنهما يتواصلان ويتفاهمان بشكل عادي وسلس، مما يعني أنهما يتحدثان لغة واحدة وموحّدة. هذا هو الفرق إذا كان هناك فرق الذي سيكون بين الأمازيغية المدرسية المشتركة، وأمازيغية البيت والشارع والسوق. وهو فرق، موجود كما قلت في كل اللغات التي تعرف الكتابة، بين الاستعمال الشفوي والاستعمال الكتابي داخل نفس اللغة، حيث تمثّل الكتابة مستوى أعلى وأرقى لممارسة اللغة، كما يظهر ذلك في اختيار الألفاظ، وانتقاء التعابير، والاعتناء بجمالية الأسلوب. فالمقصود إذن بالأمازيغية المدرسية الموحّدة، ليس تلك التي تستعمل في الكتابة والمدرسة كما تستعمل في البيت والشارع، وإنما المقصود أن الذي تعلّمها في المدرسة، وبالطريقة وللأهداف التي شرحناهما، يستطيع أن يتفاهم ويتواصل مع أي مغربي يتحدث الأمازيغية، سواء في الشارع أو البيت أو السوق أو المعمل، مما يعني أن هذه الأمازيغية، المستعملة في المدرسة وفي الشارع، هي أمازيغية واحدة، موحّدة ومشتركة. هكذا تنجح هذه المقاربة "اللهجاتية" للتوحيد المدرسي للأمازيغية، في إكساب التلميذ أمازيغية موحّدة ومشتركة، ودون أن تكون مختلفة عن لغته الأم التي يستعملها في البيت وفي الشارع. ومعروف أن الوحدة بين لغة البيت ولغة المدرسة سبب رئيسي لنجاح أي نظام تعليمي. الصواب والخطأ: قد يلاحظ أننا اخترنا أن نعلّم التلميذ كل الاختلافات الموجودة بين اللهجات كدروس في قواعد الإملاء والنحو والصرف الأمازيغيين. هناك من يرى أنه، بدل أن يعرف ويتعلم هذا التلميذ كل الأشكال الصوتية المختلفة التي يُنطق بها حرف ما في كل لهجة، أو كل الصيغ التي يُعبر بها، مثلا، عن اسم الإشارة أو الاستفهام أو النفي أو الكثرة...، بدل ذلك يكفي أن يتعلم ويعرف فقط الصيغة "الصحيحة" الأصلية، مع الاستغناء عن كل الصيغ الأخرى التي هي مجرد نطق غير "سليم"، وتعابير "خاطئة" و"منحرفة" عن الاستعمال "المعياري" للغة الأمازيغية، نتيجة لغياب المدرسة، وما يرتبط بها من ممارسة للكتابة، التي كان بإمكانها أن تحمي اللغة "المعيارية" من التطور نحو التعابير اللهجية الخاطئة والنطق غير "السليم". فمثلا، بدل أن نعلّم التلميذ أن "القلب" ينطق "أول" و"أور" Ul و Ur، وأن "أنا" تنطق "نك" و"نش" Nek و Nec، نقتصر على تعليمه ما هو "أصلي"، والذي هو Ul وNek . كذلك فيما يتعلق بصيغ اسم الإشارة، يستحسن الاقتصار على "أد" Ad، التي هي الصيغة "الأصلية" "السليمة"، لاقترانها بحرف "د" الذي هو أداة نحوية تدل على القرب المرتبط باسم الإشارة. حتى على فرض أن هذا الاستدلال صحيح، فإنه غير مجدٍ ويجب عدم العمل به. لماذا؟ لأننا هنا أمام لهجات شفوية، وليس أمام لغة كتابية معيارية مشتركة، نرجع إليها حتى نحكم على أن هذا التعبير صواب أو خطأ. ف"الخطأ" في اللغة هو ما تعتبره الجماعة المستعمِلة لتلك اللغة أنه كذلك. والحال أن النطق بكلمة "أور" Ur، هكذا بحرف الراء، لا تعتبر خطأ لدى سكان المنطقة الذين ينطقون اللام راء، ولا يعتبر اسم الإشارة "أ" A، ولا حرف الاستفهام "ما" Ma، ولا أداة النفي War ....إلخ، تعابير خاطئة عند من يستعملون هذه التعابير في لهجاتهم. وبالتالي فكل التعابير والصيغ المستعملة في إحدى اللهجات صواب عند مستعمليها. الشيء الذي يبرر تعلّم كل الاختلافات الموجودة بين اللهجات. هذا بالإضافة أن الاحتفاظ ببعض التعابير من هذه اللهجة وإلغاء أخري من لهجة ثانية، يرجع بنا إلى حالة خلق لغة مصطنعة و"فصحى" لا علاقة لها بلغة الأم التي هي اللغة اليومية والمتداولة. أما عندما تصبح الأمازيغية، نتيجة تدريسها بهذه المنهجية التي شرحناها ووفق المقاربة "اللهجاتية" التي عرضناها، موحّدة ومشتركة يتفاهم بها كل المغاربة من مختلف المناطق، ويكثر وينتشر إنتاجها الكتابي، ستخضع تلقائيا، كما يثبت ذلك تاريخ الكثير من اللغات، لعملية انتقاء وتصحيح وتصويب، وذلك على مستويين: 1 مستوى الفوارق اللهجية: إن الاختلافات التي تقرر تعليمها للتلميذ المغربي في بداية انطلاق عملية التوحيد المدرسي للأمازيغية، سوف لن تبقى بالضرورة مستعملة كلها، بل سيحتفظ ببعضها لتكرار استعماله، ويموت بعضها الآخر لإهماله وعدم استخدامه. ولا شك أن العوامل المحددة لما يجب الاستمرار في استعماله، وما يجب الكفّ عن استعماله من عناصر الاختلاف بين اللهجات، غالبا ما تكون الخفة على اللسان، والاختصار في النطق والكتابة. وهكذا، مثلا، قد يحتفظ على "أشكو" Acku (لأن) مع إهمال لMagher, Mayenzi, iddegh، التي هي تعابير "أثقل" وأطول؛ وعلى "حما" Hma (حتى، من أجل) عوض Afad، لأن الأولى أخف وأقصر؛ وعلى "إيس" Is كأداة استفهام محل Mayd, ma, may... وقس على ذلك. وهكذا ستؤدي الممارسة والاستعمال وتراكم الإنتاج الكتابي، بعد تطور قد يستغرق أجيالا، إلى توفر نصوص مرجعية أساسية تكون معيارا للصواب والخطأ، و"الفصيح" و"العامي" في الأمازيغية. فحينئذ فقط يمكن أن نعتبر "أور" Ur (القلب) نطقا خاطئا، لأن الصحيح الذي تكون قد كرسته الكتابة والاستعمال هو "أول" Ul، ونعتبر أن "إيدّغ" و"ماينزي" Mayenzi, iddegh (لأن) تعابير قديمة لم تعد مستعملة أمام لفظ "أشكو" Acku (حتى، من أجل) الأكثر انتشارا واستعمالا. وليس هناك ما يمنع أن تحتفظ بعض الاختلافات اللهجية على نفس المستوى من الاستعمال كصيغ مترادفة، مثل أدوات الكثرة: "أطّاس"، "شيكان"، "باهرا" Cigan, Bapra, Attvas، كما نجد ذلك في اللغات الأخرى. لكن الأكيد أن الاختلافات النطقية، التي ليست ذات وظيفة نحوية، مثل {أول أور (القلب)، نش، نك (أنا)}، ستختفي بتوحيد ومعيرة الكتابة، حتى ولو استمر استعمالها الشفوي. 2 مستوى المعجم: إن الأمازيغية، ولأنها لم تعرف الكتابة والتدوين، فهي لغة غنية جدا لأنها متحررة من قيود المعيرة والقواعد الخاصتين بالكتابة، الشيء الذي جعل معجمها ثريا جدا إلى درجة يكاد معها أن يكون لكل قبيلة ولكل منطقة معجم خاص بها. إذا كان هذا الثراء اللغوي المعجمي قد يبدو شيئا إيجابيا، فإنه، من ناحية أخرى، قد يطرح مشكل توحيد المعجم اللغوي الذي سيستعمل بشكل مشترك وموحّد. وهذا ما سيحسم فيه الاستعمال والإنتاج الكتابي كذلك. فعندما نكون أمام مترادفات تتجاوز الاثنين للدلالة على نفس الشيء، مثل: "أربا"، "إيشّير"، "أحنجير"، "أقشيش"...Arba, Iccir Ahnjir, Aqcic، التي تعني كلها "الطفل"، فإن الاستعمال والإنتاج الكتابي سيؤديان إلى الاحتفاظ على لفظ واحد أو اثنين من هذه المترادفات، يكرّسهما الاستعمال المتواتر لهما مع إهمال الأخرى، التي لها نفس المعنى، لتصبح قديمة وغير مستعملة، رغم أنها تبقى مذكورة في المعاجم الأمازيغية. وهكذا سيؤدي كذلك تراكم الإنتاج الكتابي إلى الاستقرار على معجم موحّد ومشترك، أخف وأنسب من الناحية العملية. وهذه العملية لانتقاء ألفاظ المعجم، التي سيفرضها الاستعمال، مرت بها كل اللغات التي سبق أن كانت لهجات متفرقة، مثل اللغة العربية التي تضم العديد من أسماء الأسد، من بينها "الضرغام". لكنك لن تجد اليوم صحافيا يكتب عنوانا مثل: "ضرغام يهاجم الزوار بحديقة الحيوان"، رغم أن لفظ "ضرغام" مذكور في المعاجم العربية. شرط نجاح عملية التوحيد المدرسي للأمازيغية: إن نجاح هذه المقاربة "اللهجاتية" لتدريس أمازيغية موحّدة ومشتركة، ودون أن تكون مختلفة عن اللغة الأم، يتطلب شرطا واقفا بدونه لن تعطي هذه المقاربة أية نتيجة. يتمثل هذا الشرط في وجوب إتقان كل المسؤولين عن مشروع تدريس الأمازيغية، من واضعي البرامج ومفتشين ومكوّنين ومدرّسين، للهجات الأمازيغية المغربية، ومعرفتهم بما يميّز كل واحدة عن الأخرى، ليعدّوا البرامج والمناهج المناسبة في ضوء معرفتهم هذه بالخصوصيات العامة والمشتركة لأمازيغية المغرب، وبتلك التي تنفرد بها كل لهجة عن الأخرى. لهذا يجب أن يكون أعضاء اللجنة المكلفة بإعداد كتب القراءة، مثلا، متقنين للهجات الثلاث، حتى يعرفوا كيف يكيّفون النصوص المقررة مع كل لهجة، بالنسبة للمستويين الأول والثاني من التعليم الابتدائي، مع الاتجاه التدريجي نحو التوحيد في مقررات السنوات المقبلة من برنامج تدريس الأمازيغية. وكذلك يجب أن يتقن المدرسّون اللهجات الثلاث كشرط ضروري لنجاح المشروع، وحتى يحقق تعليم الاختلافات اللهجية الهدف المتوخى، وهو الوصول إلى خلق تواصل وتفاهم بين المتحدثين بأية لهجة أمازيغية بالمغرب، كمرحلة أولى لاستعمال أمازيغية موحدة ومشتركة. فالطريقة إذن تتضمن عمليتين معكوستين، لكنهما متكاملتان: فبالنسبة للتلاميذ هناك تدرّج من اللهجات الجهوية نحو أمازيغية موحدة ومشتركة يفهمها الجميع، ودون أن تكون غريبة عن اللهجة الأم. أما بالنسبة للمسؤولين التربويين، من واضعي المقررات ومفتشين ومدرّسين، فهناك اتجاه معاكس ينزل من لغة مشتركة (إتقان كل اللهجات) نحو اللهجات الجهوية للتلاميذ، التي تكيّف معها برامج السنوات الأولى من تعليم الأمازيغية. أما كيف يمكن لهؤلاء المسؤولين إتقان كل اللهجات الأمازيغية، فذلك ما يجب أن يكون جزءا من برنامج تكوين أساتذة الأمازيغية، الذي ينبغي أن يستغرق سنتين كاملتين، نظرا لجدّة تدريس الأمازيغية وما يحتاجه الإعداد لذلك من وقت كافٍ. مشكلة غير الناطقين بالأمازيغية: حتى إذا كانت الغاية الأولى من هذه المقاربة "اللهجاتية" هي التوحيد المدرسي للغة الأمازيغية بالنسبة للناطقين بها، إلا أن تدريسها، وبحكم أنها لغة وطنية دستورية ورسمية، سيشمل كل المغاربة، دون تمييز بين الناطقين وغير الناطقين بها. فهل يتطلب الأمر مقاربة أخرى، خاصة بغير الناطقين بالأمازيغية، ضمانا للمساواة وتكافؤ الفرص بين الصنفين من التلاميذ، الناطقين وغير الناطقين بها؟ لا نعتقد ذلك، للأسباب التالية: الأمازيغية ليست لغة أجنبية في المغرب بالنسبة لغير الناطقين بها، حتى يستفيد هؤلاء من برامج طرق بيداغوجية خاصة، تلائم وضعهم كتلاميذ غير ناطقين بالأمازيغية. فحالة الأمازيغية بالنسبة لهؤلاء التلاميذ غير الناطقين بها، لا تختلف عن حالة الدارجة بالنسبة للتلاميذ غير الناطقين بها. ومع ذلك فلا يستفيد هؤلاء من برامج ومناهج خاصة تلائم وضعهم كتلاميذ غير ناطقين بالدارجة، رغم أن الدروس تلقى وتشرح في الغالب بالدارجة وليس بالعربية الفصحى. لماذا لم تخصص لهم إذن برامج وطرق بيداغوجية خاصة تلائم وضعهم كأطفال غير ناطقين بالدارجة، ضمانا للمساواة وتكافؤ الفرص؟ لأن هؤلاء التلاميذ، الذين لا تشكّل الدارجة لغتهم الأم، لا يلاقون صعوبات في تعلم العربية أكثر مما يلاقيه التلاميذ الناطقون بالدارجة. لقد لاحظ مدرّسو الأمازيغية أن التلاميذ غير الناطقين بهذه اللغة، وهو ما يؤكده جميع الذين أثرنا معهم من هؤلاء المدرّسين هذا الموضوع، أن تلاميذ الأمازيغية، سواء كانوا ناطقين أو غير ناطقين بها، متساوون في درجة تحصيلهم المدرسي لهذه اللغة. هذا عندما لا يكون المتفوقون في مادة الأمازيغية هم من غير الناطقين بها، كما يثبت ذلك في الكثير من الحالات. وهذا شيء قد لا يفهمه الكبار غير الناطقين بالأمازيغية، لأنهم يجدون حقا في تعلمها صعوبة أكبر مما يجده صغار التلاميذ. فلا يجب إذن قياس حالة الأطفال الممدرسين غير الناطقين بالأمازيغية، على حالة آبائهم الكبار غير الناطقين بالأمازيغية، الذين لم سيبق لهم أن تعلموها في المدرسة. فأحد العوائق النفسية لنجاح عملية تدريس الأمازيغية، هو الحكم على هذا التدريس، الذي يخص الصغار، من خلال تصور الكبار لهذا التدريس وموقفهم منه. ومما ييسّر على التلميذ غير الناطق بالأمازيغية تعلمها بسهولة كذلك، لا فرق بينه وبين التلميذ الناطق بها، هو أن البنية التركيبية للأمازيغية قريبة إلى حد التطابق من البنية التركيبية للدارجة، التي هي لغته الفطرية، بحيث تبدو الأمازيغية كما لو كانت هي نفسها لغته الدارجة مع استبدال الألفاظ العربية بألفاظ أمازيغية، نظرا أن الدارجة هي، في الجزء الأهم من نظامها التركيبي، ترجمة حرفية للأمازيغية إلى العربية. لا داعي إذن للتهويل بخصوص التلاميذ غير الناطقين بالأمازيغية. فالمشكلة الحقيقية لا تأتي من هؤلاء الصغار، وإنما من الكبار الذين ينظرون إلى تدريس الأمازيغية من خلال ما رٌسّخ في أذهانهم من قناعات خاطئة، وأحكام مسبقة حول الأمازيغية والأمازيغيين. شرط الإرادة السياسية: غني عن البيان أن نجاح تدريس الأمازيغية لجعلها لغة موحّدة ومشتركة لكل المغاربة، يتوقف على توفر الإرادة السياسية، الجدية والحقيقية، لذلك. فبدون تلك الإرادة، فإن كل ما يتصل بتدريس الأمازيغية يبقى مجرد هزل وعبث، وتمثيل مسرحي من النوع الرديء. ذلك أن الإرادة السياسة للدولة هي التي تضفي على تدريس الأمازيغية الجدية والمصداقية، بجعله تدريسا إلزاميا يخضع، بالتالي، للمراقبة والمحاسبة والمساءلة. وغياب هذه الإرادة هو الذي يفسر أن تدريس الأمازيغية، الذي انطلق في 2003، لا زال لم "ينطلق" بعدُ. لكن لنا الأمل أن السلطة السياسية، بعد الترسيم الدستوري للأمازيغية في 2011، وبعد أن يصدر القانون التنظيمي الخاص بها طبقا للفصل 5 من هذا الدستور، ستغير من موقفها السلبي، وتشرع في تنفيذ مشروع تدريس الأمازيغية بكل الجدية المطلوبة. وتجليات هذه الإرادة السياسية لن تقتصر على المدرسة فحسب، حيث يصبح تعلّم الأمازيغية إلزاميا لكل المغاربة، بل يجب أن تظهر آثار هذه الإرادة في قبول الاستعمال الشفوي للأمازيغية، موازاة مع تقدم تعليمها المدرسي، في الإدارة والمحكمة والبرلمان وكل مؤسسات الدولة، بجانب الفضاءات العمومية. كما يجب العمل على تعميم استعمالها في المساجد (دروس الوعظ، خطب الجمعة...)، والإذاعات (الراديو)، والقنوات التلفزيونية، والمسرح، والسينما... فالمواظبة على استعمال الأمازيغية في الفضاءات والمؤسسات العمومية، تؤدي، مع الوقت، إلى توحيد تلقائي لهذه اللغة، لأن اعتياد المغاربة على سماعها، المتواتر والمتكرر، سيجعلهم، بعد مدة، يفهمون مختلف تعابيرها ومفرداتها، مهما كان فرع الأمازيغية الذي تنتمي إليها هذه التعابير والمفردات. فيحصل للأمازيغية ما حصل للدارجة، التي أصبحت لغة يتفاهم بها كل المغاربة، بفضل المواظبة على استعمالها في الفضاءات والمؤسسات العمومية، رغم أنها، هي أيضا، ذات تنوعات لهجية تختلف من جهة إلى أخرى، كما سبقت الإشارة. وإذا عرفنا أن العديد من المغاربة يفهمون بل يجيدون اللهجة الخليجية والمصرية، لمواظبتهم على مشاهدة القنوات الخليجية والمصرية، ولم يسبق لهم أن التقوا مصريا ولا خليجيا، ولا سافروا إلى مصر أو أحد بلدان الخليج، سنعرف أن فهم المغاربة وتعلمهم للأمازيغية، بمختلف لهجاتها، سيكونان أمرا بسيطا وسهلا عندما ينتشر استعمالها في الفضاءات والمؤسسات العمومية، وخصوصا أنهم يلتقون يوميا بالمتحدثين بالأمازيغية، عكس الذين تعلموا اللهجة المصرية والخليجية بدون تواصل ولا التقاء "فيزيقييْن" بالمتحدثين بهاتين اللهجتين. فما يمنع المغاربة من فهم الأمازيغية وتعلمها التلقائي (بدون مدرسة)، هو عامل نفسي أكثر منه لساني وواقعي: فالمغربي مقتنع مسبقا أنه لا يحتاج إلى الأمازيغية، لأنها غير موجودة في الفضاءات والمؤسسات العمومية التي يتعامل معها، وبالتالي فهو لا يبذل أي مجهود لتعلمها. لكن لو كانت مستعملة في هذه الفضاءات والمؤسسات، بتشجيع وتخطيط وتدخّل من السلطة السياسية، لفرض عليه ذلك تعلّمَها، وبشكل طوعي وتلقائي، كما يحدث مع الدارجة بالنسبة لغير الناطقين بها. فالإقصاء الأكبر والأخطر، الذي تعاني منه الأمازيغية، ليس هو فقط إقصاؤها من المدرسة والكتابة المرتبطة بهذه المدرسة، بل هو إقصاؤها من الاستعمال الشفوي في الفضاءات والمؤسسات العمومية، وهو ما لا يشجّع الناطقين بها على فهم وتعلم الفروع الأخرى للأمازيغية، ولا يحفّز كذلك غير الناطقين بها على فهمها وتعلمها، لتكون لغة تواصل شفوي لكل المغاربة كما هو شأن الدارجة. ولا شك أن النظرة التحقيرية الإقصائية والأمازيغوفوبية إلى الأمازيغية، الموروثة عن "الحركة الوطنية"، لا تزال توجّه التعامل مع الأمازيغية كلغة أقل قيمة من العربية والدارجة. لهذا فإن نجاح تدريس الأمازيغية، مع ما يصاحب ذلك من رد الاعتبار لها كلغة تستعمل في الفضاءات والمؤسسات العمومية، يشترط القطع مع الإرث الأمازيغوفوبي "للحركة الوطنية"، ونشر قيم اعتزاز المغاربة بأمازيغيتهم، لغة وهوية وانتماء. وهذا لا يتحقق بدون إرادة سياسية، حقيقية وصادقة، من أجل نهوض حقيقي وجدي بالأمازيغية.