قراءة في تصور الأستاذ محمد عابد الجابري في التصور المنهجي بخصوص تفكيره في إشكالية الديمقراطية، في العالم العربي، فقد اتبع الأستاذ الجابري نهجا أركيولوجيا، من خلال الحفر في الطبقات الفكرية المشكلة للعقل السياسي العربي، و هي طبقات قديمة التشكل و غنية في مواد تشكلها. لكن نتائج الحفر بينت أن الطبقات المشكلة للعقل السياسي العربي لا تنتمي إلى مجال الثقافة العربية/الإسلامية، و ذلك قد يكون نتيجة زحزحة القارات المعرفية و تداخل بعضها. و على خلاف ما كنا ننتظر، فإن كتاب (العقل الأخلاقي العربي) الذي يعتبر خاتمة مشروع (نقد العقل العربي) هو الذي قام بمهمة الحفر و الكشف، و ذلك لأن الإشكالية اعقد مما يمكن أن نتصور، و لذلك لم يكن بحثا ضخما من قيمة كتاب (العقل السياسي العربي) قادرا على خوض المغامرة، لان جيالسؤال السياسي يتخذ بعدا قيميا، حيث تتسلل القيم من مجال الأخلاق إلى مجال الممارسة العملية لتبلورها على مقاسها . إن عودة الأستاذ الجابري إلى كتب الآداب السلطانية لمقاربة السؤال السياسي، لم يكن هفوة من أركيولوجي كبير تعلم من مهمة الحفر و التنقيب أن الطبقات السطحية لا تفي بغرض البحث، و لكن هذه العودة كانت المدخل الرئيسي لفحص و تشريح العقل السياسي العربي، بهدف الكشف عن مكامن الخلل التي تجاوزت الماضي لتعمل على توجيه الحاضر و المستقبل . يعترف الأستاذ الجابري أن ما يجمع حقول البحث (حقل الترسل، حقل حكمة العجم، حقل سوق الأدب) هو كونها نصوصا أدبية: حكما و أمثالا و نصائح و حكايات و أخبار، تجمع و تحفظ بضاعة " عتيقة تليدة" في سوق الكلام، المكتوب منه و المنطوق، لكنه يستدرك ليعرض خبرته في التنقيب و التشريح، أما نحن فقد نظرنا إلى مضمون هذه الحقول الثلاثة بوصفها تروج لنظام خاص للقيم يحتل فيه السلطان، و بالتالي الطاعة، موقع القيمة المركزية" ابن المقفع الأديب أم المروج لمشروع حضاري بديل ؟ عرف ابن المقفع، في الثقافة العربية الإسلامية، باعتباره من نخبة القصور فقد عاش أواخر الخلافة الأموية كما عايش تأسيس الخلافة العباسية، و كان على رأس النخبة الفارسية التي تسلمت زمام أمور الدولة خلال هذه المرحلة. و قد تجاوز الحضور الفارسي في الدولة العباسية المجال الإداري، بحيث تحكموا في مقاليد الدولة و احتكروا إدارتها و تسييرها، و ذلك إلى المجال الفكري و السياسي، حيث تحكموا في صياغة مشروع الدولة، فكريا و سياسيا، و قد كان ابن المقفع على رأس النخبة الفكرية/السياسية الفارسية التي كانت تسعى إلى بلورة مشروع حضاري يربط الدولة العباسية الناشئة بالامتداد الإمبراطوري الكسروي. فلا يمكن للمرء و هو يقرأ ما سجل من سيرة ابن المقفع، الذي كان غنيا كريما يعيش عيشة الأرستقراطية الفارسية، إلا أن يرى فيه صاحب مشروع حضاري، قوامه إلباس الدولة العباسية الناشئة لباس الدولة الساسانية، و هذا واضح من جميع كتبه فهي تدور كلها حول "السلطان" أي ما نسميه اليوم "الدولة" علما أن الدولة، كما عرفها ابن المقفع، أي كما تتمثل في النموذج الساساني كانت دولة فرد لا دولة مدنية أو مجتمع . لقد تسلل المشروع الحضاري البديل باعتماد إستراتيجية إخفاء النسق عبر القشور اللامعة للغة، التي توحي ظاهريا بالصنعة البلاغية لكنها تخفي جوهريا النسق الاستبدادي. و لعل هذا، هو ما عملت القراءة النقدية على ترسيخه " حيث أوقع النقد الأدبي نفسه و أوقعنا في حالة من العمى الثقافي التام عن العيوب النسقية المختفية من تحت عباءة الجمالي، و ظلت العيوب الثقافية تتنامى متوسلة بالجمالي، الشعري و البلاغي، حتى صارت نموذجا سلوكيا يتحكم فينا فكريا و عمليا . لقد كان ابن المقفع على تمام الوعي، حينما كرس حياته (الأدبية) لخدمة المشروع الحضاري البديل، و استطاع أن يقنع المتلقي العربي (قارئا و ناقدا) أنه أديب مهمته توليد المعاني الجميلة في قالب بلاغي أجمل لكنه كان، في حقيقة الأمر، يعمل على ترجمة القيم الكسروية و الترويج لها في كتب عديدة بأسلوب عربي مبين، اعتبره بعضهم نموذجا في الكتابة، مما كرسه عبر الأجيال مرجعا في أدب النفس و اللسان" و لإدراك البعد الاستراتيجي لمشروع ابن المقفع لابد من معرفة القضايا التي أثارها بأسلوبه الأدبي التمويهي؛ و هي قضايا ترتبط جوهريا بموضوع الدولة (السلطان) مما يجعلنا نشك في البعد الجمالي الذي تقترحه كتابات ابن المقفع؛ " لقد كان الموضوع الذي انكب عليه و حصر جهده فيه هو الأدب؛ وبالتحديد الآداب السلطانية، و تدور حول ثلاثة محاور: طاعة السلطان، أخلاق السلطان، أخلاق الكاتب. و هذا التركيز على السلطان، من حيث التأكيد على طاعته و رسم حدود أخلاقه في علاقة بالكاتب، يؤكد أن ابن المقفع كان ينظر لوظيفته من زاوينين: من الزاوية الأولى، عمل على توظيف الرأسمال الرمزي (الأدب) لتحصيل الرأسمال المادي (السلطة)، و لذلك كان ابن المقفع يقوم بدور الخبير للدولة الجديدة، دور المفتي في شؤون الإدارة و الحكم، و كان من الطبيعي أن تكون فتاواه عبارة عن إيجاد السبل لتطبيق القيم الكسروية. من الزاوية الثانية، عمل على تغيير الدولة من خلال تغيير السلطان، فقد كان تركيز ابن المقفع على السلطان خطة محبوكة لمحاولة تغيير الدولة، من فوق، لأنه كان على وعي بما يتطلبه التغيير، من القاعدة، من وقت لم يكن بإمكان ابن المقفع انتظاره، لأنه كان يفكر في الانتقال إلى الخطة الثانية، و هي إطباق السيطرة على الدولة من طرف العنصر الفارسي، و من ثم إعادة إحياء الإمبراطورية الساسانية، بما تجسده من قيم فكرية و سياسية، في قالب إسلامي. ابن المقفع مؤسسا للآداب السلطانية على الرغم من الموت المبكر لابن المقفع، فإن فكره اتخذ بعدا استراتيجيا، منذ البداية، و استطاع أن يتخفى تحت غشاء البلاغة، متنقلا بكل حرية في الفضاء العربي/الإسلامي، على مر القرون، باعتباره نصوصا أدبية تخدم الذائقة الجمالية، لكنه كان يخفي، جوهريا، النسق الاستبدادي الكسروي، هذا النسق الذي سينتقل من خلال كتابات عربية لاحقة انبهرت بالصياغة البلاغية لكنها لم تنشغل بحقيقة النسق الاستبدادي الذي يثوي خلفها. فمن المعروف، في التاريخ الإسلامي، أن ابن المقفع كان أكبر ناشر و مروج للقيم الكسروية و إيديولوجيا الطاعة في الساحة الثقافية العربية، و أنه كان من أهم المصادر التي نقل عنها المؤلفون، في الآداب السلطانية و النوادر و الأخبار، تلك القيم و الإيديولوجيا حتى جعلوا منها قيما أخلاقية و دينية، تكاد تعلو على أية قيم أخرى . و بهذا يكون ابن المقفع الأب الشرعي للآداب السلطانية، في الثقافة العربية الإسلامية، باعتبارها كتابات (أدبية) ارتبطت، في التاريخ الإسلامي، بانقلاب الخلافة إلى ملك و هي، في جزء كبير منها، نقلا و اقتباسا من التراث السياسي الفارسي، و هدفها الرئيسي تقوية السلطة و دوام الملك. و قد كانت هذه الآداب السند الأساس لنموذج الدولة السلطانية، التي تعتبر وارثة نموذج دولة الخلافة، بحيث سيعمل السلطان على إعادة إنتاج كل القيم التي تدعم و تحافظ على سلطته، باعتباره خليفة لله على الأرض يحتكر الرأسمال المادي و الرمزي. و تكمن قوة الآداب السلطانية، في قدرتها على تحويل المدنس (الدنيوي) إلى مقدس (الديني) مما يساهم في إضفاء طابع الشرعية الدينية على الممارسة السياسية، و هكذا تنقلب الصورة و نتحول من عالم الناسوت، حيث حركية الناس، صوابهم و خطأهم، ضعفهم و قوتهم. إلى عالم اللاهوت؛ حيث يحضر الخليفة/السلطان، باعتباره ظل الله على الأرض يحكم الناس بأمر الله و لا معقب على حكمه. و لعل خطورة هذا النسق الاستبدادي، لتتجلى في اختراقه للثقافة السياسية، حيث يأخذ أشكال متعددة و مختلفة، فهو لا يتوقف عند حدود السياسة الشرعية بل يتجاوزها ليخترق مختلف البنى الإيديولوجي حيث يتشكل على مقاسها، فهو يخترق المنظومة الاشتراكية و يولد الزعيم الأوحد الحاكم بأمره، و يخترق المنظومة الليبرالية و يولد الزعيم الخالد، الذي يوظف التعددية الحزبية و ديمقراطية الصناديق لتجديد حكمه. و لعل هذا، هو ما فطن إليه الأستاذ محمد عابد الجابري، حين اعتبر أن ابن المقفع كان مشرعا للدولة الكسروية في بلاد الإسلام، و هي الدولة التي ما زالت قائمة فيها، إلى اليوم، باسم دين الإسلام في الغالب . هكذا، يتجاوز ابن المقفع وضعيته ككاتب و كخبير للدولة؛ ليتحول إلى نسق فكري استطاع أن يخترق الثقافة السياسية العربية الإسلامية، و يوجها في الاتجاه الاستبدادي، و خصوصا بعد أن تحول فكره إلى مؤسسة قائمة بذاتها، هي مؤسسة الآداب السلطانية التي وظفت الصنعة البلاغية لتسويق قيم سياسية تقدس (السلطان) و تحول المجتمع، بجميع فئاته، إلى رعايا في خدمته. و لعل إعادة إنتاج هذا النسق هو الذي مكن من استمرار ثقافة سياسية قديمة، و كامتداد لها مكن من استمرار النموذج القديم للدولة في العالم العربي الإسلامي. ابن قتيبة و إعادة إنتاج النسق الاستبدادي في الشرق الإسلامي إذا كان ابن المقفع يعتبر (المعلم الأول) في مؤسسة الآداب السلطانية، فإن فكره حقق انتشارا كبيرا، في المشرق و المغرب، و استطاع أن يؤسس لمرحلة جديدة في الثقافة السياسية العربية، قوامها الاستبداد و التسلط. و هذا ما أثر، بشكل سلبي، على روح التعددية التي طبعت المراحل الأولى من تاريخ الإسلام، حيث حضرت مفاهيم الشورى و البيعة ... بدلالات كانت تسعى إلى الحد من سلطة الواحد المتفرد، عبر إشراك الفئات الشعبية أو، على الأقل، أهل الحل و العقد. لكن الفكر السلطاني قضى على هذه الروح، بشكل نهائي، و دشن لمفهوم جديد للسلطة قوامه التقابل بين الراعي الذي يحتكر جميع السلطات، و الرعية التي لا تتجاوز مرتبة المواشي/الإبل المقادة و المنقادة كذلك . و لعل هذا النسق الاستبدادي، هو ما عمل ابن قتيبة، في المشرق، على إعادة إنتاجه و تسويقه، باعتماد نفس المنهج المقفعي، أي توظيف الكتابة الأدبية المنمقة بلاغيا، لإخفاء النسق الاستبدادي، لكن الأمر الجديد عند ابن قتيب، هو أن هذه الكتابة أصبحت تدعي الأصالة العربية و الشرعية الإسلامية، و هذا ما كان ينقص ابن المقفع من قبل، و لذلك يمكن أن نفهم، منذ البداية، خطورة هذا الفكر من حيث قدرته الخارقة على الحضور ضمن الفضاء الثقافي العربي، الذي يعتبر فضاء أليفا بالنسبة إليه. و يعتبر كتاب (عيون الأخبار) لابن قتيبة مرجعا أساسيا في الآداب السلطانية، حيث لخص فيه مجمل قضايا الفكر السلطاني، التي طرحها ابن المقفع، و التي تتمركز حول مفهوم السلطان، هذا المفهوم الذي استمد حضوره من الامتداد الفكري الفارسي، بطابعه الاستبدادي، أكثر مما ارتبط بالموروث السياسي العربي/الإسلامي. و على الرغم من أن الكتاب، في جملته، ذو مظهر عربي إسلامي، و القيم التي يعرضها و يحتج لها لا تتعارض، في شيء، مع القيم العربية الإسلامية، على الرغم من هذه الأصالة الشكلية، فإن ما يحسم في أمر انتماء هذا الكتاب هو بنيته و ليس مظهره، ذلك أن القيمة المركزية فيه هي نفسها القيمة المركزية في الموروث الفارسي، أعني "السلطان" و بالتالي "الطاعة" و هي قيمة يخلو منها الموروث العربي الإسلامي، ليس بوصفها قيمة مركزية فحسب، بل يخلو منها حتى بوصفها قيمة مستقلة قائمة بذاتها. إن هذا التعارض بين مظهر الكتاب و مخبره، ليس سمة خاصة ب " عيون الأخبار" بل تتجاوزه لتطبع منظومة التأليف في الآداب السلطانية ككل، حيث يعمد الكتاب إلى تسويق منظومة قيمية مغايرة للخصوصية العربية الإسلامية، عن وعي أو عن غيره، من خلال الاستناد إلى اقتطاع نصوص دينية و الاستدلال بها خارج سياقها الحقيقي، مما كان يسقطهم، عادة، في مطب تشويه المنظومة القيمية العربية الإسلامية، و يصل هذا التشويه مداه حينما يتعلق الأمر بمسألة الدولة (السلطان) لأن اغلب ما كتب في الموضوع، لا يعدو أن يكون نسخا للموروث السياسي الفارسي القائم على أساس تقديس/تأليه الزعيم السياسي (السلطان). و هذا ما يؤكده الأستاذ الجابري، حينما يعتبر أن الطاعة الكسروية لم يعرفها لا العرب قبل الإسلام و لا المسلمون حين بناء الدولة، الطاعة الكسروية طاعة غير مشروطة لا تقتضي احتكاما لأية سلطة، فكسرى في هذه الحالة ينزل منزلة الله و رسوله لا بل قد يصبح هو الله نفسه. و لعل هذا، هو ما دعا الأستاذ الجابري، في قراءته لكتاب عيون الأخبار لابن قتيبة، إلى القول بأن حضور ابن المقفع في هذا الكتاب حضور أقوى مما يتصور، أقوى مما كان يتصور ابن قتيبة نفسه، و قد كان الأستاذ الجابري يعني بهذا الحضور، اختراق النسق الاستبدادي الفارسي لمنظومة القيم العربية الإسلامية، بشكل عام، مما يجعل ابن قتيبة جزءا من هذا الاختراق، و ذلك من منظور أن تأليف كتاب في القيم يستند بالضرورة إلى نظام للقيم معين، بصورة شعورية أو لاشعورية، و يخلص الأستاذ الجابري إلى أن ابن قتيبة بنى كتابه على نظام القيم السائد في الموروث الفارسي، و هو نفسه النظام الذي كان سائدا في عصره . إن وظيفة ابن قتيبة، في هذه الحالة، لا تتجاوز إعادة إنتاج النسق الاستبدادي الكسروي الذي اخترق اللاشعور الثقافي العربي/الإسلامي، خلال مرحلة سيطرة العنصر الفارسي، هذه السيطرة التي جسدها ابن المقفع، على المستوى الفكري، حينما نجح في فرض أسلوبه في الكتابة الأدبية، هذا الأسلوب الذي يوظف زخرف البلاغة بهدف إخفاء النسق القيمي. و لذلك، فقد حافظت قيم الاستبداد على استمراريتها متخفية برداء اللغة الأدبية، فكان خطاب الأدب، بذلك، يقدم خدمة، سواء عن وعي أو عن غيره، للنسق الاستبدادي الذي توالد بشكل كثيف، وانتقل بين منعرجات الزمن و الجغرافيا متجاوزا حدود المشرق العربي إلى مغربه . ابن عبد ربه الأندلسي و إعادة إنتاج النسق الاستبدادي في الغرب الإسلامي إذا كان النسق الاستبدادي، الذي اخترق الثقافة العربية الإسلامية، كسروي المصدر فإنه انتقل إلى مرحلة التبيئة في الشرق الإسلامي مع ابن قتيبة، و في الغرب الإسلامي مع ابن عبد ربه. و قد كانت هذه المرحلة (مرحلة التبيئة) أخطر من سابقتها (مرحلة الاختراق) لأن النسق الاستبدادي تحول إلى نسق أليف بل، و أكثر من ذلك، مدعوم دينيا من خلال تأويل النص الديني، قرآنا و سنة، كي يستجيب للنسق الاستبدادي الكسروي . و تكمن خطورة هذه المرحلة (مرحلة التبيئة) في كونها قد نجحت في توجيه معظم الكتابات في مجال الآداب السلطاني. فبالنسبة لكتاب "عيون الأخبار" لابن قتيبة، و صنوه " العقد الفريد" لابن عبد ربه، فإنهما محكومان بنظام القيم الذي يحمله الموروث الفارسي، و الذي بقي كسروي المضمون و الاتجاه، مما يبرر إدراجهما في سلك هذا الموروث على الرغم من صياغتهما له في ثوب عربي، على صعيد المادة المروية و الشخصيات المعتمدة. أما بخصوص فإن كتب الأدب الأخرى (الأدب السلطاني) التي ألفت بعدهما قد بقيت محكومة بهذين الكتابين من ناحيتين: المادة و منهج عرضها من جهة، و الغرض المتوخى منها من جهة أخرى . هكذا، نجحت إعادة الإنتاج في المحافظة على استمرارية النسق الاستبدادي، كمكون أساسي في الثقافة السياسية العربية الإسلامية، و حينما ينجح الاختراق في الجمع بين المادة و المنهج و الغرض، فإن الأمر يتجاوز مجال التأثير الإيديولوجي إلى مجال أكثر عمقا، في علاقة بالتأثير على آليات إنتاج المعرفة/الخطاب و توجيها. إن الاختراق،إذن، ابستملوجي في الأساس، و لعل هذا النوع من الاختراق الابستملوجي هو الذي ساهم في توحيد أدوات/منهج التفكير لدى نخبة المرحلة، ظنا من هؤلاء أنهم يفكرون من داخل المنظومة العربية الإسلامية، بشكل أصيل، لكن حقيقة الأمر أنهم كانوا يستعيرون آليات/منهج التفكير، و معها كانوا يستعيرون، كذلك، مادة التفكير، و كذلك الغرض المقصود من هذا التفكير. في حديثه عن كتاب " العقد الفريد" لابن عبد ربه، يؤكد الأستاذ الجابري، بداية، أن الكتاب، في جوهره، إعادة صياغة لكتاب " عيون الأخبار" لابن قتيبة، و يستدل على ذلك بقول الصاحب ابن عباد، حينما وصله كتاب (العقد الفريد) و تصفحه و رماه جانبا و قال: هذه بضاعتنا ردت إلينا. و يعلق الأستاذ الجابري: و الغالب أن الصاحب ابن عباد كان يقصد أن ابن عبد ربه لم يأت بجديد في كتابه، و إنما نقل من كتب المشارقة، و في مقدمتها كتاب " عيون الأخبار" لابن قتيبة . و بناء على عملية إعادة الإنتاج هذه، التي مارسها ابن عبد ربه في علاقته بابن قتيبة، يذهب الأستاذ الجابري إلى مدى أبعد حينما يعتبر أنه " إذا كان صحيحا أن ابن عبد ربه قد نقل معظم مادته من "عيون الأخبار" و من مؤلفات أخرى، بعضها وصلنا و بعضها لم يصل، فإنه استنسخ أيضا النموذج الذي شيده ابن قتيبة، بما يحمله من قيم كسروية فصار مروجا لهذه القيم بقصد أو بغير قصد. إن عملية إعادة الإنتاج معقدة للغاية، مما يؤكد أنها تتجاوز، بكثير، المستوى الإيديولوجي، في علاقة بإعادة إنتاج المادة المعرفية، و هكذا ينتقل الأستاذ الجابري إلى الحفر في طبقات "العقد الفريد" ليكشف عن ترسبات الاستبداد الكسروي، على شكل ذرات دقيقة تخترق النسق الفكري من داخله، بل و تتحول إلى مكون أساسي من مكوناته: في حديث ابن عبد ربه عن السلطان (الراعي)، فهو ينسخ نموذج الآداب السلطانية كما أسس لها ابن المقفع و أعاد بناءها ابن قتيبة. فالسلطان زمام الأمور، و نظام الحقوق و قوام الحدود، و القطب الذي عليه مدار الدين و الدنيا، و هو حمى الله في بلاده و ظله الممدود على عباده. و في حديثه عن الرعية، فإن ابن عبد ربه يجسد معادلة السلطة الكسروية، حيث يعتبر أن على الرعية ألا تحاسب الإمام على كل شيء شيء، بل عليها أن تنظر إلى جملة أعماله، فتسكت عن مساوئه في سبيل حسناته، تتغاضى عن ظلمه و طغيانه، مثلا، مقابل ما يوفره من أمن . و بخصوص العلاقة بين السلطان (الراعي) و الرعية، فهي تمر عبر الله، فالله هو الذي مكن السلطان من أمور الرعية فمن حق الله عليه، إذن، أن يهتم بأمور الرعية. أما الرعية نفسها فلا حق لها، و إنما عليها واجب طاعة السلطان لان طاعة السلطان من طاعة الله. قد يوهمنا ابن عبد ربه بأصالة مادته المعرفية، و ذلك حينما يلجأ إلى تأويل النصوص الدينية لدعم نسقه الفكري، لكن خطته تنفضح حينما نركز على المنهجية المعتمدة، و هي منهجية تتحكم فيها آليات معرفية تتعارض مع آليات التفكير، سواء خلال العصر القبلي القديم في العالم العربي أو مع مجيء الإسلام. فأخلاق الطاعة و الولاء هذه، حسب الأستاذ الجابري، لا تنتمي إلى الموروث الإسلامي المحض الذي لم يعرف، في الأصل، هذا النوع من الولاء. فالبيعة في الإسلام، سواء بيعة النبي في العقبة ( الأولى و الثانية)، و المعاهدة المعروفة ب" صحيفة النبي"، و مبايعة أبي بكر خليفة للنبي، و مبايعة عمر ثم عثمان ثم علي. كل ذلك قد تم عبر مشاورات و تسويات و اشتراط و شروط. و من أجل قضية "الطاعة" قامت حرب "الجمل" بين علي من جهة و الزبير و طلحة و عائشة من جهة أخرى، ثم حرب "صفين" بين علي و معاوية . إن ما يبدو، هو أن ابن عبد ربه قد استعار آليات/منهج التفكير و معها سقط في استعارة الإشكالية الفكرية كذلك، مما يجعل خاصية الأصالة العربية الإسلامية التي يدعيها، في تفكيره، مختلة في الأساس، و هذا ما يسقطه، في الأخير، في مطب أخطر، وذلك حينما ينظر لمفهوم السلطان و مفهوم الرعية و العلاقة بينهما، من منظور فارسي/كسروي لا يتلاءم، بالتمام، مع المنظور العربي الإسلامي لهذه المفاهيم. منظومة الآداب السلطانية: من الاختراق و التبيئة إلى المأسسة عندما حاول الأستاذ الجابري التفكير، من منظور تراثي، في كيفية اختراق النسق الاستبدادي للثقافة السياسية العربية الإسلامية، لم يكن مهتما بالماضي بل، على العكس من ذلك، كان منشغلا بالحاضر و المستقبل، و هذا الحضور للهاجس التراثي، حسب الباحث عبد الرحيم العلام، يتجاوز مجرد البحث في ما مضى، ليصبح عنصرا ملازما في فهم الحاضر بل و حتى استشراف المستقبل. فمن خلال معايشته و تنظيره للتجربة السياسية، في العالم العربي خلال المرحلة الحديثة و المعاصرة، فقد توصل الأستاذ الجابري إلى حقيقة جوهرية، مفادها أن النسق الاستبدادي القديم قد تمكن من اختراق الثقافة السياسية الحديثة (بالمعنى الزمني) في العالم العربي، مما يهدد باستمرارية النموذج الخليفي/السلطاني القديم، في تناقض تام مع الثقافة السياسية الحديثة(بالمعنى الفكري) التي تغزو العالم. لقد ظلت أخلاق الطاعة و سلم القيم الذي تكرسه هذه المؤلفات (الآداب السلطانية) مهيمنين في ثقافتنا العربية، حتى صارت تلك القيم جزءا من بنية فكرية عامة متغلغلة في الكيان العربية لا يكتب الواحد في الأخلاق أو السياسة خارجها، و لا يتصور الأخلاق و السياسة على غير ما تكرس في ثقافتنا الدينية و الدنيوية من قيم كسروية. إن المسألة لا تتعلق بالانشغال بالآداب السلطانية، عبر البحث في أصولها الفكرية و لا بالتأريخ لها، و لكن الأمر يتجاوز ذلك، بكثير، لأن المسألة تتعلق بالانشغال باختراق النسق الاستبدادي للثقافة السياسية في العالم العربي، مما يساهم في إجهاض أي مشروع ديمقراطي محتمل، باعتبار أن الديمقراطية تتجاوز التنظير الفكري للنخبة إلى مجال الممارسة العملية، في علاقة بجميع الفئات الشعبية، و خطورة هذا النوع من الثقافة السياسية، التي تعمل كتب الآداب السلطانية على نشرها، تكمن في قدرتها الخارقة على توجيه الرأي العام السياسي في اتجاه استبدادي تسلطي يقوم على أساس تقديس الزعيم السياسي (الخليفة- السلطان)، كما يقوم على أساس تهميش الشعب (الرعية)، و كنتيجة لهذا التقابل بين التقديس و التهميش يولد مفهوم جديد للسياسة، باعتبارها ملكا دائما في مقابل عبودية دائمة، مع ما يرافق ذلك من قتل عنيف للقيم السياسية الحديثة، التي تقوم على أساس نسبية السلطة و طابعها الزمني المؤقت، و كذلك على ربطها بالإرادة الشعبية مما ينقل الشعب من التهميش إلى الفعالية، التي تتجسد من خلال مراقبة السلطة و محاسبتها و انتخابها . لقد كان تلقي الآداب السلطانية في الثقافة العربية، على الدوام، تلقيا سلبيا لان النخبة الفكرية عادة ما كانت تنظر إليها بعين الريبة، "فهناك من تجاهلها بدعوى ارتباطها ببلاطات السلاطين الاستبدادية، و الطابع الإيديولوجي السافر الذي يكتنفها. و هناك من يرفضها بدعوى بعدها عن الروح الإسلامية الحقة واصفا إياها بالنبتة غير الشرعية داخل الحقل العربي الإسلامي" لكن خطورة الآداب السلطانية كانت تكمن دائما في قدرتها على اختراق التلقي الشعبي، و ذلك لأنها لم تكن نظريات معقدة في السياسة، تقتصر على النخبة، بقدر ما كانت أخبارا و مرويات تتسلل خفية إلى المتخيل الشعبي مستغلة، في ذلك، الزخرفة اللغوية و الطابع العجائبي، و قد ازدادت خطورتها أكثر بعد محاولة التبيئة التي خضعت لها، مما مكنها من استغلال النص الديني، عبر تأويله، لبث قيم مخالفة تماما لروح الإسلام و الثقافة العربية . لقد تمكنت منظومة الآداب السلطانية، من خلال قدرتها على اختراق التلقي الشعبي، من توجيه الثقافة السياسية، في العالم العربي، و ذلك إلى حدود مراحل متقدمة من التاريخ العربي الحديث. ففي المغرب، مثلا، يلاحظ الأستاذ عبد الله العروي أن أديبات القرن التاسع عشر، على الرغم من كل مستجدات المرحلة، و ما حفلت به من قضايا و أسئلة " لا تعمل إلا على اجترار أمثلة و استشهادات من هنا وهناك، بعيدة كل البعد عن طبيعة الأسئلة المطروحة، فكانت بالتالي إعادة إنتاج مملة لما سبق أن قالته و أعادت قوله الآداب السلطانية" . و لعل شهادة الأستاذ العروي، لتزيد من تأكيد خطورة منظومة الآداب السلطانية، في علاقة بقدرتها الهائلة على تحقيق استمرارية النموذج القديم لدولة الخلافة في عصرنا الراهن، مما يشكل تهديدا مباشرا للقيم السياسية الحديثة التي يسعى العالم العربي، اليوم، إلى استنباتها في التربة العربية. لذلك، يبدو أن الحاجة ماسة إلى استعادة درس الأستاذ الجابري، لأنه تمكن من تفكيك الخطاب السياسي العربي القديم، و من خلاله تمكن من تحديد الآليات المتحكمة في صناعة الخطاب السياسي الحديث، هذا الخطاب الذي لا يعدو أن يكون استعادة و إعادة إنتاج للنموذج القديم، إن ما يشد الانتباه في تحليل الجابري هو وضعه اليد على أسس الاستبداد السلطاني الذي يجد في هذه الآداب مسوغه الإيديولوجي. إن التفكير في أي تحديث سياسي مرتقب، لا يأخذ بعين الاعتبار الحفر في طبقات الموروث الاستبدادي القديم بهدف الكشف عنه و استئصاله، سيكون عملا عبثيا و بدون جدوى، و ذلك لأن التراث الفكري و السياسي المؤسس للنسق الاستبدادي أقوى بكثير من تيارات التحديث الطارئة التي هبت من الغرب، بشكل متأخر، و لذلك فإن الموروث القديم ينتصر دائما، بل و يتمكن من القضاء على أي تسرب للفكر السياسي الحديث. " إن الآليات التي تحكمت في ظهور السلطة، في المجتمعات العربية اليوم، غير قابلة عمليا للفهم، نتيجة حجبها من طرف وهم الحداثة الذي يصدر عن مؤسسات قادمة من أمكنة أخرى، لذلك فإن العودة إلى الجذور تزيل مثل هذه الحواجز. و لعل هذا الوعي بضرورة العودة إلى الجذور الأولى التي تمد أغصان شجرة الاستبداد بالقوة، هو الذي يمكنه أن يشرع، في العالم العربي الإسلامي، أبواب الأمل في غد أفضل ينعم فيه المواطنون بحياة سياسية أقل تلوثا بأدران الاستبداد، و هذا ليس حلما جميلا بل هو المدخل الوحيد الذي يمكننا من الكشف عن الداء لنتمكن، بعد ذلك، من البحث عن الدواء المناسب. إن من شأن الاقتناع بهذه المنهجية، كآلية للتفكير و النضال، أن يمكننا من القطع مع تلك المقاربة الحداثوية (الطيبة جدا) التي، عادة، ما تسوق للنماذج الجاهزة المستوردة من الغرب، باعتبارها الحلول الجاهزة التي يمكنها أن تشفينا من داء الاستبداد، و لذلك تم استيراد مؤسسات عبارة عن جثث فاقدة للروح و للحراك، من برلمان و حكومة ... لكن ذلك لم يكن حلا يوصل إلى توطين الحداثة السياسية، بوجهها الديمقراطي التعددي، مما يدفع الكثير من ذوي النيات الحسنة إلى الاستغراب، مع أن السبب واضح بجلاء، إنه يتعلق بقوة الموروث الاستبدادي القديم الذي يمتلك مناعة أقوى مما يتصور هؤلاء، و لذلك فهو يقاوم أي تسرب للقيم السياسية الحديثة و ينجح، في الأخير، في تهميشها و إلغائها لأن الثقافة السياسية السائدة تعتبر امتدادا للموروث القديم، و لذلك فإنهما يتحالفان و يحققان معا الانتصار في المعركة . إن هذه الحقائق التي تواجهنا، اليوم، و نحن نفكر في منهجية الانتقال إلى الزمن الديمقراطي الحديث، هي نفسها التي أصبحت تقود بعد النخب المتنورة في الغرب، و هي تفكر معنا في الدواء الذي يشفينا من علة الاستبداد، و من بين هؤلاء نجد المفكر الفرنسي (ريجيس دوبريه) صاحب كتاب (نقد العقل السياسي). ففي تقديمه لكتاب (العبد و الرعية) للباحث المغربي (محمد الناجي) يذهب (دوبريه) إلى أن العالم العربي لن يحصل على مستقبل الحرية إلا إذا ارتضى و قبل بتقويض أساطيره و بمواجهة ماضيه. فحين يعرف المرء القوة المبنينة، اجتماعيا، للأساطير الأصلية، و بصورة أعمق،في المجتمعات التي تسعى إلى أن تحيى داخل حاضر أبدي، فانه يدرك حينها ما يتطلبه هذا النوع من تصفية الحساب، مع التاريخ، من مجهود و مخاطر و تضحيات . إن (ريجيس دوبريه) لا يمتلك جوابا جاهزا عن سؤال انتقال العالم العربي إلى زمن الحرية و الديمقراطية، و هو الجواب الذي طالما صاغه الفكر الاستشراقي، و روجه تلامذته من بين الأصوات الحداثوية، هؤلاء الذي كانوا يمتلكون أجوبة جاهزة، تقول أنه على العالم العربي أن يستورد الحداثة السياسية الجاهزة مثلما يستورد البضائع، و أن يستهلكها مثلما يستلك السلع المادية. لكن، المتنورون من هؤلاء كانوا يدركون جيدا خطورة هذه اللعبة؛،و لذلك تصدوا لها بالتحليل و النقد مؤكدين على انه على العالم العربي أن يصوغ حداثته السياسية الخاصة به، من خلال العمل المتواصل على محاربة جميع أشكال الاستبداد التي تغزو الموروث القديم، لأن من شأن هذه العملية أن تساهم في بناء ثقافة سياسية جديدة قادرة على بلورة خصوصيتها من داخل نسقها الثقافي، و هذا ما يمكنه أن يساعد على تبيئة القيم السياسية الحديثة.