بعد مرور 176 سنة على رحلة كريستوفر كولومبوس الاستكشافية، التي صادفت ذكراها 523 فى 12 من شهر أكتوبر الجاري، والتي جعلت إسبانيا من هذا الحدث التاريخي عيداً وطنيّاً لها، ركب رحّالتنا البحرَ من مدينة قادس الإسبانية مارّاً بجزر الخالدات، ووصل أمريكا الجنوبية بعد 55 يوماً وليلةً قضّاها فى المحيط الهادر، ومكث بها زهاء 15 سنة (1668- 1683). تعتبر غريزة الفضول وحبّ الإستطلاع فى الإنسان من أهمّ الغرائز فى النفس البشرية، فمنذ كان الإنسان وهو يتوق باستمرار لكشف عوالم جديدة، وسبر آفاق مجهولة، ليس فقط على الصّعيد الجغرافي وحسب، بل ينطبق هذا على جميع أشكال البحث، والمعرفة، ومختلف أنواع العلوم. وقد خلّف لنا التاريخ سجلاًّ هائلاً وحافلاً بأسماء هؤلاء الذين نذروا أنفسهم لإستكناه الغوامض والغوص وراء كلّ مجهول، والذين يعتبرون بحقّ رسلاً للإنسانية جمعاء لِمَا قدّموه لنا من خدمات وما بذلوه من جهود بحثاً عن حقائق الحياة وألغازها التي ليس لها حدود، بل وللتعرّف على أسرارالكائنات التي تدبّ عليها على اختلافها، ولا ريب أنّ رحلة البحث الطويلة المضنية التي بدأتها البشرية فى غياهب المجهولات سواء فيما يتعلق بالأماكن النائية، واكتشاف قارات جديدة، وسبر عوالم جديدة، وجزر منعزلة، وأدغال موحشة، وأصقاع سحيقة، بل وتقديم معلومات ضافية ومثيرة حول سكّان وشعوب تلك المناطق، وعن عاداتهم، وتقاليدهم، وطبيعة عيشعم، وتراثهم وآثارهم، وكلّ ما يصاحب ذلك من فضول علمي رائع، كلّ ذلك يتوازى مع رحلة البحث عن أغوار المعرفة، وأسرار الحكمة، وحقائق العلم المذهلة. ويدخل فى هذا المجال الاكتشافات الكبرى التي توصّل إليها علماء أفذاذ على إمتداد التاريخ بما قدّموه بواسطتها من خدماتٍ لصالح البشرية، وما كشفوا عنه النقاب عن غوامض ومجهولات. وعلى الرّغم من الأشواط التي قطعتها البشرية فى هذا الميدان، فإنّها فى الواقع ما تزال فى أوّل الطريق، تتابع رحلة البحث، والكشف، والاختراع، والإبداع، ولمّا تزل أمامها أشواط بعيدة المدى لبلوغ الغايات التي نتوق إليها جميعاً. والرّحلة بمعناها الواسع لا تخرج عن هذا السّياق، إذا كانت تقدّم لنا معلومات جديدة عن أماكن وقارات وأشخاص وعادات تلك البلدان، ولا شكّ أنّ رحلة كريستوفر كولومبوس للقارة الأمريكية تُعتبر ذرّةً فى جبين الرّحلات الاستكشافية على امتداد التاريخ. إنّ العصر الذي أصبحنا نعيش فيه، وما يوفّره لنا من وسائل الرّاحة وسرعة الحركة والتنقال والإتصال يقدّم لنا الدّليل على مدى الشّجاعة التي كان يتحلّى بها هؤلاء الرحّالون العظام، ومدى قدرتهم على التحمّل والصّبر ومجابهة الأخطار، ومواجهة المغامرات، والتعرّض للمخاطر، بل وللموت المحقّق فى كثير من الأحيان فى وقتٍ لم يكن يتوفّر فيه أيّ تطعيم ضدّ أيّ وباء من الأوبئة الفتّاكة التي كانت تأتي على الأخضر واليابس فى تلك العصور السحيقة إذا قيست بإمكانياتنا المعاصرة الهائلة، وفي وقت كانت وسائل السفر ما تزال بدائية. أنواع الرّحلات تجدر الإشارة إلى أن هناك أنواعاً كثيرة من الرحلات، فمنها رحلات المغامرات، والاكتشافات، والبحث عن المعادن الثمينة، والتنقيب عن الآثار النادرة، وعن منابع الأنهار الكبرى، وإجراء دراسات علمية، وكذا عن الرّحلات الخيالية، والدينية، والوقوف على الأماكن المقدّسة لمختلف الديانات، فضلاً عن الرّحلات الاستطلاعيّة، والتعليميّة، والسياسية، والدبلوماسية وغيرها من أنواع الرّحلات الأخرى، وقد تكون الرّحلة لأغراضٍ شخصية فتغدو رحلة شاملة ممتعة ومفيدة، وأشهر مثالٍ لهذا النوع رحلة إبن بطوطة الشهيرة، الذي خرج من مدينة طنجة قصد زيارة البيت الحرام فى مكّة المكرّمة، فإذا به يطوف الدنيا طولاً وعرضاً، وتستغرق رحلته زهاء 28 سنة، وهي تعتبر لذلك من أشهر الرّحلات فى هذا المجال، ولقد تُرجمت إلى مختلف لغات الأرض، ونوّه بها غير قليل من الباحثين على امتداد العصور، كان آخرهم المفكّر الفرنسي روجيه غارودي فى كتابه "حوار الحضارات"، حيث فضّل ابنَ بطّوطة على ماركو بولو الإيطالي المشهور وسواه، وكذا المستشرق الإسباني سيرافين فانخول الذي نقل هذه الرحلة إلى اللغة الإسبانية، وسواهما من الباحثين. ونظراً لما يتعرّض له الرحّالة من مخاطر، ومفاجآت، وأهوال فإنّه ينبغي أن تتوفّر فيه شروط عدّة يوجزها مَثلٌ إنجليزي طريف، تحفل به معظمُ كتب الرّحلات، هو يقول: "ينبغي أن يكون للرحّالة عينا صقرٍ ليرى كلَّ شيء، أن يكون له أذنا حمارٍ ليسمعَ كلَّ شيء، أن يكون له فم خنزير ليأكلَ كلّ شيء، أن يكون له ظهر جملٍ ليتحمّلَ كلَّ شيء، أن تكون له ساقا معزةٍ لا تتعبان من المشي، أن يكون له، وهذا هو الأهمّ، حقيبتان امتلأت إحداهما بالمال، والثانية بالصّبر .."! وليس بخافٍ أن فنّ الرّحلات من الفنون التي تتوق إليها النفس لما تتضمّنه من عناصر التشويق والمفاجأة والأخبار المثيرة، خاصة إذا كانت خالية من التصنّع والافتعال، حتى إذا قرأنا ما خلّفه لنا هؤلاء الرحّالون عشنا ما عاشوا، ووقفنا على كلّ ما حدث لهم أثناء رحلاتهم، وكأننا كنّا مرافقين لهم جنباً إلى جنب. يقول الرحّالة الشّريف الإدريسي، المولود عام 1100 م فى مدينة سبتة المغربية المحتلّة، فى كتابه الشّهير " نزهة المشتاق فى إختراق الآفاق": ليت شعري أين قبري / ضاع فى الغربة عمري لم أدع للعيش ما / يشتاق فى برّ أو بحر بالإضافة إلى إبن بطوطة الطنجي والإدريسي السّبتي الشهيرين، سجّل لنا التاريخ أسماءَ رحّالين آخرين عالميين عظام؛ مثل ماركو بولو، وكوك، وماجلان، وكولومبوس، ونونييس دي بالبوا، وإيرنان كورتيس، وفرانسيسكو بيثارّو، وفاسكو دي غاما، وأبو الريحان البيروني، والقزويني، وابن سعيد المغربي، والزيّاني، وابن جبير، وابن عثمان، والموصلي، والورداني، وسواهم. وهكذا يزخر الأدب العربي والعالمي على حدّ سواء بفنّ الرّحلات منذ أقدم العصور، ولقد عرف المغاربة على وجه الخصوص هذا النّوع من الفنّ منذ زمن بعيد، ويذكر لنا ابن بطوطة فى رحلته قصّة تدلّ على شغف المغاربة بالرّحلات والأسفار والمغامرات، فهو يحكي لنا في كتابه ذائع الصّيت "تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار" أنه عندما كان في بلاد الصّين إلتقى بمغربي آخر وهو السيّد قوام الدين السّبتي البِشْري الذي كان قد سبقه إلى هذه الديار، وأقام مدّة طويلة في الهند كذلك، وفي بلدان أسيويّة أخرى نائية. أوّل رحّالة عربي إلى العالم الجديد المحقّق الأوّل لهذه الرّحلة التي بين أيدينا وواضع تعليقاتها هو الأب أنطون ربّاط اليسوعي، والتي نشرت فى مجلة "المشرق" (السنة الثامنة العدد 18 بتاريخ 15 سنتمبر1905)، ثمّ كانت النشرة الثانية، بعد سبعين سنة من النشرة الأولى، على يد الباحثة العراقية إبتهاج الرّاضي. كما صدر عن دار السويدي (مقرها أبوظبي) كتاب عن هذه الرحلة بعنوان "الذّهب والعاصفة" بقلم نوري الجرّاح. يقول الأب أنطون ربّاط: "إننا لم نكن نعرف أنّ أحد الشرقييّن ساح منذ قرنيين ونيّف فى أكثر البلاد الأمريكية، وزار مدنها وولاياتها وشعبها وتفقّد أحوالهم ولم نعثر قط فى المكاتب عن ما نستشفّ منه ذكر سياحة كهذه". مرّ على هذه الرحلة الآن قرابة أربعة قرون، ولقد عثرتُ على نسخة من مخطوطها بالصّدفة- ويا لها من صدفة - في جامعة (سان ماركوس) بليما خلال عملي كقائم بأعمال سفارة المغرب بالعاصمة البيروفيّة أواسط التسعينيّات من القرن الفارط، وهي أوّل جامعة بالبيرو وأقدمها في أمريكا اللاّتينيّة. ويضيف المحقّق: " ففي أواسط أيار من السنة الحاضرة بينما كنّا نطالع المخطوطات المحفوظة فى مطرانية السّريان بحلب، لفت نظرَنا كتابٌ عربيٌ عنوانه (سياحة الخوري إلياس الموصلي الكلداني) فاختلسنا بعض وقت الفراغ لقراءته، وأخذنا العجب لمّا رأينا شرقياً قد زار أكثرَ الأنحاء الأمريكية فى القسم الثاني من القرن السابع عشر ووصفها وصفاً لا يخلو من اللذّة فعوّلنا على التعريف بالكتاب ونشر أهمّ فصوله". ويعرّف المحقّق الرحّالة فيقول: "هو الكلداني الخوري إلياس الموصلي ابن القسيس حنّا من عائلة بيت عمودة، ولقد نظرنا فى الكتب المطبوعة والمخطوطة التي بين أيدينا فلم نحصل حتى الآن على زيادة تعريف". ويضيف المحقق: "إنه فى سنة 1668 سافر إلياس الموصلي من بغداد لزيارة القدس الشريف، وبعد أن قضى مدّة في حلب أبحر من إسكندرونة إلى البندقية وفرنسا وإسبانيا والبرتغال وجزيرة صقلية ثم عاد إلى إسبانيا وركب البحر من قادس إلى أمريكا، فمرّ على جزر الكناري ووصل إلى قرطجنّة بكولومبيا في أمريكا الجنوبية بعد 55 يوماً قضاها فى البحر، ثم ساح فى جهات باناما ومنها تتبّع المدن والقرى والمناجم وغرب أمريكا الجنوبية فزار البلاد التي تدعى اليوم كولومبيا وخط الاستواء والبيرو وبوليفيا، ثم شيلي ومنها عاد الأعقاب إلى ليما من أعمال البيرو عام 1680 وهناك كتب القسم الأوّل من رحلته، وما لبث أن سار إلى البلاد التي يسمّيها (ينكي دنيا) أيّ المكسيكوأمريكا الوسطى، وبعد مدّة قضاها فى مكسيكو قفل راجعاً فركب البحرَ وعاد إلى إسبانيا فرومية"، بعد أن إستغرقت رحلته زهاء 15 سنة. وصاحب الرّحلة هو قسّ كاثوليكي قام برحلته لأسبابٍ ودوافعَ غير معروفة على وجه الدقّة، وإن كان من المرجّح لدى معظم الباحثين الذين اهتموا برحلته، ولدى كراتشوفسكي صاحب "الأدب الجغرافي العربي"، أنه ربّما قام بمهمّة لحساب البابوية، أو التّاج الإسباني، أو لكليْهما معاً، وهذا ما يمكن إستنباطه، وسيتبيّن لنا من سياق الرّحلة نفسها. ويصف المحقّق أسلوبَ الرحلة، فيقول عن رحالتنا: "إنه قليل الإلمام بالإنشاء والكتابة، فيكتب ما يراه ببساطة ودقة وصدق، وقد تتبعنا سفرته على خارطة كبيرة فرأيناه لم يغفل بلدة، ولم تخنه ذاكرته إلا نادراً، ولكنّ إنشاءه ركيك، ووصفه خال من التفنّن إلا بعض فصول وشذرات، ومع ذلك قرأناه بلذّة لما يذكر من الأمور الغريبة والتنقلات من حال إلى حال، وفي كتابه أغلاط نحوية كثيرة أصلحنا أهمّها تاركين له سذاجة تركيبه". ولا شكّ أن هذه الرحلة ذات أهمية تاريخية وإجتماعية بالغة نظراً لما تتضمّنه من أخبار وقصص وحكايات ووصف لتلك البلدان النائية، خاصة أنّ كلّ ما تمّ تسجيله فى هذه الرحلة كتبه الموصلي بلغته الأصلية وهي العربية، ممّا قد يجعل من مخطوطه أوّل وثيقة عربية حول تلك البلدان بغضّ النظر عن الأخطاء اللغوية والنحوية، وإستعمال غير قليل من الكلمات الأجنبية الدخيلة تُركية وفارسية وإسبانية، حيث عمل الرحالة على ترجمة الكلمات الإسبانية بالخصوص ونقلها إلى اللغة العربية، والغريب أو الطريف أنّ بعض الكلمات الإسبانية التي وردت فى رحلته هي من أصل عربي..! وعلى الرّغم من بعض الأخطاء التاريخية، والهفوات اللغوية، وفي تسمية بعض الأماكن، فإنّ ذلك لا ينتقص من قيمة رحلته. فعلى سبيل المثال؛ حين يتحدّث عن إكتشاف جزر الفلبّين نجده يحدّد عام 1583 كتاريخ إكتشاف الإسبان لهذه الجزر، في حين إن الإسبان- كما يؤكّد ذلك محقق الرحلة نفسه- تملّكوا هذه الجزر خلال 1560-1570 وقد عرفت منذ ذلك الحين باسم فيليبي الثاني ملك إسبانيا، وليس فيليبي الرابع كما جاء فى الرحلة. وقد تضمّنت الرحلة بعض المبالغات فى بعض المواقف التي وصفها لنا الرحالة؛ كقوله عن أحد معادن الفضّة ناحية "لا باز"، عاصمة بوليفيا، "إنّ إقليم هذا الجبل مسلّط عليه نجم يُسمّى عطارد وهذا النجم يطبخ الفضّة"! وسرده لبعض القصص الغريبة مثل قصة "عذراء غودالوبي" الشهيرة في المكسيك، أو قصة النبات الذي يهجم على الرّجال البيض والذي هجم عليه بالفعل، بحسب روايته، ثمّ خرّ وإنكمش عندما صاح فيه الهندي ونهره! وحكاية الخفاش في بويرتو بيلّو الذي يهجم على البشر ليلاً ويمتصّ دماءَهم وهم نيام، وقوله عن جزيرة سلامون "إنها جزيرة سليمان، ويقولون إن سليمان لمّا عمر البيت كان يحضّر الذهب من هذه الجزيرة"! وسواها من القصص الخيالية والغرائبية، إلاّ أنّ الرحلة مع ذلك لا تخلو من فوائد جمّة، وأخبار كثيرة ومثيرة عن تلك المناطق التي زارها ووقف عليها بنفسه. تقديم الرّحلة والتعريف بها يبدأ الموصلي رحلته بقوله "الحمد لله الذي خلق البرايا بحكمته، واخترع الموجودات بأمره وكلمته، وصوّر الإنسان ونهاه عن ثمر لا ياكله لئلاّ يموت موتا، فهذا المخلوق الضعيف لمّا خالف أمر خالقه وأكل من المنهي عنه تجرّد من النعمة التي كان متسربلا بها وصار مطرودا مع ذريته من فردوس عدن إلى أرض الشقاء والحزن". ويشرح فى مقدّمة رحلته كيف اعتنق معظم سكان البلاد التي زارها الديانة المسيحية التي وصلت مع المبشرين الإسبان الأوائل في هذه الأرض المترامية الأطراف، التي يقول عنها "وأمّا هذا الإقليم الذي قصدنا التكلم عنه فهو ممتد الطول والعرض، وهو أكبر من الأقاليم الثلاثة الأخرى المعروفة بآسيا وأفريكا وأوروبا طولا وعرضا، وقد جعلوا له اسما جديدا وسمّوه ميركا مسلوبا". وهو يريد بذلك- كما يشير المحقق- أن هذا اللإقليم الرابع الذي وصفه كان حقّه أن يسمّى باسم مكتشفه كريستوفر كولومبوس، إلاّ أنه يسمّى اليوم على إسم أمريكو فيسبوثيو، وهو بحّار إيطالي من فلورينسة، شخّص تلك الأرض على خارطة وعرضها على ملك إسبانيا، فحينئذ سمّيت تلك الأرض بأمريكا. عالم جديد مثير ومتنوّع الرّحلة التي بين أيدينا عالم مثير، وسياحة حافلة بالمفاجآت والأخبار والقصص والحكايات والفوائد عن تلك الأصقاع النائية من العالم الجديد الذي كان ما يزال حديث العهد بالاكتشاف. وهناك جوانب عديدة فى الرحلة تستحق التأمّل، إذ إن المعلومات التي تتضمّنها هي معلومات غزيرة ومتنوّعة وبعضها جديد على القارئ قد يتقبّلها العقل أو تنأى عن التصديق، ولكنها فى آخر المطاف طريفة لا تخلو من متعة وفائدة. ورحالتنا لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا ويوفيها حقّها من الوصف، حيث سينقل لنا مختلف التقاليد التي كانت سائدة فى تلك البلاد والأوضاع التي كانت عليها، كما يصف العمران، والبنايات، والحيوان، والطيور، والجوارح، والمعادن وكيفية استخراجها، والمواشي والزواحف وعمليات القرصنة التي كانت تتعرّض لها المراكب التي كانت تمخر المحيط فى ذلك العهد، فضلا عن عادات الطبخ عند الهنود والطقس والمبادلات التجارية والمقايضة وتجارة العبيد وعادات الدفن والزواج، والزلازل التي كانت تضرب هذه المناطق وغيرها من الأخبار المثيرة والغريبة. وصف الكلداني للمناخ عند وصفه لمناخ تلك المناطق التي زارها يقول: "ثمّ سرنا يومين بدرب سهل وصعدنا فى اليوم الثالث إلى جبل ولا زالت الرياح والبرد شديدا، فابتدأت تتغيّر أمزجتنا وتقيّأنا بسبب أننا خرجنا من أرض شديدة السخونة وجزنا عاجلا إلى أرض باردة". وعن طقس هذه البلاد يقول كذلك: "وتلك الأرض فى أيام الصيف لما تمطر تصير كلها بحيرة لأن في ذلك البلد يبدأ المطر من أول شهر أيار إلى شهر أيلول بخلاف طقس بلادنا". ويصف الموصلي وصفا دقيقا مختلف أنواع الحيوانات والنباتات والطيور التي شاهدها، وهو يقول بعد أن جال ضواحي مدينة ليما: "وما كان لهم في هذه المنطقة مواش مثل أفراس وبغال وحمير ولا ثيران ولا بقر ولا غنم ولا دجاج سوى واحد يشبه الجمل بقدر الحمار وحدبته فى صدره يحملون عليه ويأكلون لحمه ولكنه لا يسافر بعيدا وكلّ طاقته أربعة فراسخ لا غير فلمّا يتعب ينام ويزبد ويتفل على أصحابه". وفي مدينة كوسكو التاريخية بالبيرو، التي توجد على مقربة من قلعة ماتشو بيتشو التي أطلق عليها أرنولد توينبي فيما بعد كاتدرائية العمالقة، يقول: "ومن هناك سرنا فى الدرب فوجدنا أجناساً من الحيوانات، منها أيل وبقر وحشية وغيرها من أجناس أخرى وهي تعيش فى تلك الجبال المقفرة وما لها أصحاب، وجنس حيوان آخر يسمّى بيكونيا، وهو كصورة غزال لكن بدون قرون، وهذا الحيوان قويّ وأنيس لمّا يرى أناسا أو دوابّاً مجتازين ينحدر من الجبل ليتفرّج عليهم، وعددها كثير وكان عندي كلاب للصيد وبندقية فقتلت بعضاً من هذه الحيوانات، ولحمها لا يأكله غير الهنود وصوفها ناعم كالحرير ويصنعون منه البرانيط ولونه عسلي كلون الغزال، وفي بطن هذا الحيوان يوجد حجر البازهر (الترياق) بين كليتيه فيخرجونه ويبيعونه بثمن غالٍ لأنه نافع للسّموم". وفي منطقة توكمان، القريبة من بوينوس أيريس، يقول: "من المواشي في هذه البلاد شيء كثير وعديمة القيمة فى الجبال وهي وحشية". وعن هنود تلك المنطقة وخيولها يقول: "وهؤلاء الهنود ما كانوا يعلمون من قبل أحوال الحرب ولكن بعد ما تعاشروا مع السبنيولية (أي الإسبان) تعلموا مثلهم وما كان لهم أوّلاً خيل ولاكانوا يعرفون ركوبها فالآن صاروا يركبون الخيل، ويحاربون برماح تشبه رماح العرب مع السبنيولية دائماً". وفي منطقة غواياكيل في بلاد الإكوادور، يحكي لنا واقعة تاريخية حقيقية رواها غير قليل من الباحثين الإسبان وغير الإسبان حول وصول الخيل إلى هذه البلاد فيقول: "ولمّا كانوا ينظرون إلى الخيل وراكبيها كانوا يظنّون أن الفرس وراكبها شقفة واحدة مثلما كان الهنود يظنون لمّا وصلت مراكب السبنيولية إلى تلك البلاد أنها حيتان البحر، وقلاع المراكب كانوا يظنّوها جناح الحيتان لأنّ قبل ذلك الحين ما كانوا رأوا مركباً"! وصفه للزّواحف والطيور كما وصف رحالتنا مختلف الزواحف والطيور التي شاهدها خلال رحلته الطويلة بهذه البلدان، وفي ذلك يقول: "ويوجد في هذا الدرب آجناس وحوض مثل السعدان وله ألوان وأشكال، وأيضا من قسم الطيور يوجد الطائر الذي يتكلّم، وطير آخر يسمّى باكا مايا وهو بقدر ديك كبير لكن ريشه ملوّن. إنه شيء عجيب". وفي باب آخر من الرحلة يقول الموصلي الكلداني: "وكان إلى جانب الدرب بحيرة قدرها نصف فرسخ، وبقينا نتصيّد منها بعض أجناس الطيور إلى بعد العصر". وجاء فى آخر الرحلة: "وكنت قد أحضرت معي من الهند أربع درات (كذا) وهي الطيور التي تسمّى في لسان الفرنجة (بابا كاي) (الببغاء) يتكلّمون مثل الإنسان". ويصف لنا الرحالة سلاحف تلك البلاد البعيدة فيقول: "ومن هناك سرنا وجزنا على جزيرة تسمّى تورتوكا (السلحفاة) (باللغة الإسبانية) وهذه الجزيرة غير مسكونة لأنّ فيها زلاحف (كذا) كبيرة أزيد من ذراعين طولاً وعرضاً والمراكب تروح وتتصيّد في هذه الزلاحف وتملّحها لأجل زوادة". والطبيعة والنباتات وفي منطقة َبنَمَا، يصف لنا الرحّالة الموصلي جنس نبات غريب، إلاّ أنّ وصفه لا يخلو من مبالغة، وقد استغرب محقّق الرّحلة كذلك من هذا الوصف، وذلك عندما يقول: "وأما الحاكم ما أراد يخلّيني أروح وحدي بسسب الجبال التي يوجد بها نوع من الحشيش يشبه الخيزران الرفيع فلمّا يمرّ عليه رجل أبيض عابر الطريق يرتفع من الأرض مثل عود السهام ويدقر (يمسّ) الإنسان. ولا يشفى المصاب بهذه الدقرة إلى أن يموت لكنه لا يدقر الهنود العبيد ولا يضرّهم، فلمّا حكى لي الحاكم عن هذا الشيء قلت له لا أصدّق إن لم أر بعيني، فقام وأرسل معي خادمه، وهو أحمر، حتى يريني ذلك الحشيش، فلمّا وصلنا إلى الموضع الذي يوجد فيه الحشيش جاء الخادم إلى جانب فرسي واختفى فما رأيت هذا الحشيش وهو بعيد عشرة أذرع عن الدرب إلا وارتفع وامتدّ نحوي حتى يلدغني فخرج الأحمر وصاح عليه (دونك يا كلب) فلمّا صاح عليه وقع الحشيش على الأرض، وأنا شاهدت ذلك بعيني". ويصف لنا الرّحالة نبات الصبّار أو التيّن الشّوكي الذي نقله الإسبان إلى أوروبا وجزر الخالدات، فيقول وهو فى البيرو: "وفي هذا الدرب توجد أشجار مختلفة الأجناس وأكثرها أشجار يسمّونها (توكال) أوراقها فى سمك كفين وما لها أغصان لكن الأوراق مشوّكة وفي طرف الورقة تصير الثمرة ويسمّى في لسان الهنود (توناس) وهذا الثمر بقدر بيض الدجاج لكن أصلب منه وداخله حلو كطعم التوت، وهو مسهّل ومبرّد، فمن خارج الثمرة يصير شوك ناعم فيلزم الإنسان أن لا يمسكها بيده إلاّ بعد أن ينظّفها من الشوك وهذا ممتلئ منه البرّ والجبال في ذلك الإقليم". ويضيف: "ولا يوجد عندهم قمح ولا شعير سوى درر مصر( يقصد الذّرة)". وعن غواياكيل يقول: "ويوجد بساتين فيها جنس أشجار كأشجار التوت تحمل ثمرة تسمّى كاكاو ويعملون منها الجيكولاتة، وهذا الثمر تراه مثل البطيخ متعلقاً وملتصقاً على جسم الشجرة فلما يبلغ ويصفرّ يأخذونه ويقطّعونه وفي داخله يخرج الثمر وهو حبوب أخشن من الفستق ثمّ ييبّسونه حتى ينشف، وبعد ذلك يلقونه فتراه كالقهوة في اللون والطعم والرائحة لكنه كثير الدهن ومن دسامته يصير مثل العجين ويضيفون إليه السكّر على قدر الحاجة وكذلك أيضاً القرفة والعنبر خاما ويجعلونه عجيناً ثمّ أقراصاً وينشفونه بالفيء، ومن هذه الأقراص يغلون الجيكولاته ويشربونها مثل القهوة. وهذا الثمر هو سالك عند الكلّ فى جميع أنحاء البلاد النصارى يأتون به من هناك ويبيعونه". وعند وصفه لقصب السكّر، الذي يكثر في هذه البلاد كذلك، يقول: "ثم ّ خرجنا من هذه القرية قاصدين بلدة تسمّى كيتو فسرنا وجزنا على قرية أخرى تسمّى بوتيكاس دي سان أنطوان، ويوجد في هذا الدرب جنس قصب إرتفاعه أربعون دراعا وتخن القصبة أغلظ من مطواية نول الحايك، ومن عقدة إلى عقدة دراع. فهذا القصب يجعلونه الصواري، أعني غطاء لسقف البيوت والبعض منه ممتلئ ماء أبيض وحلو وأنا شربت منه ثمّ إني أمرت المكاري أن يقطع منهم ست عقد تكون مملوءة ويحملها على بغل". وصفه للمعادن ونفائس أخرى ولم يفت رحالتنا، خلال جولته الواسعة، أن يصف شيئاً إشتهرت به هذه البلاد، وهو المعادن النفيسة التي تتوفّر عليها القارة البكر، والتي كانت من أولى الحوافز التي دفعت بالإسبان إلى غزوها وبسط نفوذهم عليها وإلحاقها بالعرش الإسباني وضرب حصار كبير على أخبارها، بل وفرض حظر صارم للسفر إليها إلا بعد الحصول على إذن مسبّق من أعلى السلطات الحاكمة وتزكية الكنيسة. وهكذا قام الموصلي بوصف دقيق لمختلف المعادن الثمينة التي كانت تتكاثر فى مختلف الأماكن التي زارها، بل إنه قام بوصف مفصّل لكيفية استخراجها وتنقيتها والأماكن المتواجدة فيها ومدى أهمّيتها سواء بالنسبة للسكّان الأصليين أو للغزاة الوافدين، فيقول: "ومن بعد السنة طلبت إجازة من الوزير لأروح إلى جبال الفضّة والذهب فأطاعني الوزير وأصغى لطلبي وكتب لي مكاتيب إلى جميع حكّام البلاد وأبريشة القرى الذين تحت حكمه وصية يعزوّني ويكرّموني. فخرجنا من ليما قاصدين بلدة تسمّى خوان كاباليكا وهي أرض قليلة العافية لإختلاف الأهوية، ولسبب الجبل الذي فيه معدن حجر الزيبق لأنه مسلّط على البلد، ثم رحت لأنظر المعدن مع حاكم البلد فرأيت هذا المعدن وعظمته، ثم أروني كيف يخرجون الزّيبق فيضعون حجارة الزيبق مصطفة فوق البرانج كمثل عمل الفاخوري في أفران الخشق (الخزف)، وكذلك يضعون الحجارة على البرانج وهذا البيت له سقف مغطّى لكنه قويّ وعال وفيه أبخاش لأجل منفذ الدخان ثم يضعون الحطب فوق تلك الحجارة ويضرمون به النار فيشعل وتسخن الحجارة سخونة قوية ويجري منها الزيبق هارباً منحدراً داخل تلك البرانج، فعند ذلك يفهم معلمو الزيبق فيهدّئون النار ويخلّونه يوماً وليلة حتى يبرد وبعده يرفعون الحجارة والرّماد ويكبّونه (يلقونه) ويخرجون الزيبق من تلك الرانج. وهناك وكيل من جانب الملك يوفي لأصحاب المعدن اثنين وعشرين غرشاً حول كلّ قنطار، ويبيع وكيل الملك القنطار بتسعين غرشاً لأصحاب معادن الفضّة". وعن معادن الفضة كذلك وطريقة استخراجها من منطقة بانكاي، يقول: "بعد ثلاثة أيام خرجت متوجها إلى معدن الفضة المسمّى قندنوما، وتفرّجنا على إخراج الفضة وكيف يطحنون الحجارة مثل التراب ويجعلونها في الماء كالطين وبعد ذلك يمزجون فيه الزيبق، وطول النهار يحرّكونه مقدار عشرة أيام والزيبق يجمع الفضة ويلتصق بها ومن بعد الأيام المذكورة يغسلونه في حوض مجلّد بجلود البقر والماء يأخذ التراب ويوديه والفضّة ترسخ (ترسب) إلى أسفل، هذه الصنعة تفرّجت عليها عيانا". وعن معادن الذهب، يقول الموصلي: "ثمّ خرجت قاصداً قرية تسمّى خاوخا (هذه القرية تسمّى اليوم لوخا) وسرنا في صعوبة الأمطار ليلاً مع نهار مقدار ثلاثة أيام ودخلنا إلى خاوخا وبقيت هناك يوماً وليلة من شدّة البرد وكثرة الأمطار وثاني يوم خرجت قاصداً الجبال التي هي معدن الذهب فصرنا في درب عسر المجاز بين الجبال وحولها المعادن الذهبية، فنظرت جميع المصانع التي بها يستخرج الذهب من الحجارة، أوّلا يطلعون الحجارة من المعدن ويسحقونها بطاحون الماء وحينئذ يغسلون ذلك التراب المسحوق ويقطعون منه الذهب في الماء ثم يذوّبونه ويسكبونه أقراصاً، وأنا اشتريت من ذلك الذهب أربع مائة مثقال لأنّ ما كان هناك زمان لشغل كلّ الطواحين". تسجيله للعادات والتقاليد وقد سجّل الرحّالة الموصلي خلال هذه الرحلة مختلف عادات وتقاليد السكان الأصليين من الهنود، ومنها ما بدا له أنها مستحبّة ومنها ما بدا له مستهجنة مقيتة. وهو يروي ويسجّل لنا هذه العادات والتقاليد بدقّة متناهية ممّا يضفي على نصوصه في هذه الرحلة قيمة تاريخية وإجتماعية هامة. وهكذا يصف لنا عادات الزواج في بانكاي فيقول: "وهذا الحاكم لمّا وصلنا إلى ليما تجوّز (تزوّج) مع بنت أعطته نقداً مائة وخمسين ألف غرش كعادة بلاد النصارى أن البنت تعطي نقدا للرجل حسب حالها". وعن عادة أكل لحم البشر من طرف الهنود يقول: "لأن هؤلاء الهنود من قبل ما كانوا يعلمون أحوال الحرب، وعندما كانوا يحاربون السبنيولية (الإسبان) كانوا إذا أمسكوا أحداً منهم يشوونه ويأكلون لحمَه، وأما الرأس فيقطعون جمجمته ويعملونها طاسة ويشربون بها. هؤلاء عصاة أشدّاء وقساة القلب وهم مضادّون للسبنيول وصية من أجدادهم". وفي ضواحي كيتو يصف لنا أناساً "يصير لهم مثل غدة كبيرة نازلة تحت حلوقهم"، ويقول عن سكّان المنطقة نفسها إنّ هنود هذه البلاد "ليس لهم ذقون بل بعض شعرات ثابتة فى حنكهم، وأنا لأنني كنت رجلاً كاملَ اللحية فكانوا يتعجّبون منّي قائلين إنني ذو شجاعة شديدة بحيث جزت تلك البلاد". وعند وصفه لدار السكّة فى البيرو، يقول: "وذات يوم رحتُ إلى البيت الذي يضربون فيه سكّة الدنانير من غروش وأنصاف أرباع. وفي هذا البيت "السكتخانة" أربعون عبداً يشتغلون وإثنا عشر رجلاً إسبانيوليا فرأينا الغروش مكوّمة على الأرض ويدوسونها بأرجلهم مثل ما يدوسون التراب الذي لا قيمة له". وعن مدينة ليما يقول: "وفي هذه البلدة زلازل عدّة وشديدة، وفي تلك الأيام صارت زلزلة عظيمة خارج البلد على نحو فرسخين، وكان هناك جبل منصوب على نهر جار فسقط الجبل من تلك الزلزلة في وسط النهر وسدّ جريان الماء فطاف (طفا) ماء النهر على الأرض وأهلك مزارع ثلاث قرى، وفي ذلك الحين وتلك الساعة صارت زلزلة أخرى في ليما وخرج الناس من البلدة لخوفهم لأنه سقطت منازل كثيرة مع بعضها كنائس". ويحدّثنا عن الغلاء الذي كان سائداً في ليما فى ذلك الوقت، فيقول: "وهذه البلدة غالية المعاش بهذا المقدار حتى أنّ الدجاجة تساوي غرشاً ونصف غرش". وعن جزيرة كوبا يقول: "فبقيت في هذه الجزيرة أربعة أشهر ونصف حتى جاءت المراكب من ينكي دنيا (المكسيك)، وهذه الجزيرة هواها مليح، وماؤها طيّب، وأناسها محبّون، فلما أردت أن أخرج من هذه الجزيرة حتى أتوجّه إلى إسبانية جاءني حاكمها بشاكيش (البقشيش أو البخشيش) تسعة صناديق سكّر مع مرطّبانات المربّى". لا شكّ أن هذه الرحلة كان لها أهداف معيّنة لم يفصح عنها الرحّالة صراحة في سياق رحلته، إذ إنها تمّت بمعرفة البابا، حيث يقول في هذا الصدد في ختام رحلته: "فانعم عليّ البابا إينوسينسيو الحادي عشر صاحب الذّكر الصالح بوظايف (وظائف) لم أكن أهلا لها". كما أنّ رحلته هذه تمّت بموافقة ملك إسبانيا، إذ كما يقول هو نفسه في رحلته "لأنه لا يقدر غريب أن يجوز إلى بلاد الهند إن لم يكن معه أمر من الملك، وكان في ذلك الزّمان رسول البابا في مدريد يسمّى الكاردينال ماريسكوتي وهذا المبارك ساعدني". كما يفصح الموصلي في مقدمة رحلته صراحة عن الغاية التبشيرية لرحلته فيقول: "فسبيلنا أن نبرهن ونبيّن رجوع هذه الطوائف إلى الإيمان الحقيقي وإحتضانهم للكنيسة". ولم يتعرّض الموصلي في رحلته لا إلى الجوانب الإجتماعية للسكّان الأصليين للقارّة الأمريكية، ولا إلى التأثير الإسلامي في هذه البلدان، خاصّة في فنون العمارة والبنايات وفي اللغة والطبخ والموسيقى ومختلف أوجه الحياة العامة في ذلك الوقت المبكّر، حيث نقل الإسبان هذه التأثيرات والفنون معهم إلى العالم الجديد كما يؤكّد ذلك معظمُ الباحثين والدّارسين الثقات، خاصّةً وأنّ المدن التي زارها الموصلي مثل مكسيكو، وقرطجنة، وليما، وبوغوتا وسواها من حواضر أمريكا اللاتينية ما زالت تحتفظ إلى يومنا هذا بالعديد من المآثر، والآثار، والمباني، والدّور، والقصور ذات التأثيرات الأندلسية الواضحة، والطابع الإسلامي البيّن. كما شاهدتُ، وعاينتُ، ووقفتُ على ذلك بنفسي خلال عملي، وإقامتي لسنواتٍ طويلة في مختلف هذه البلدان، وكتبتُ عنها الكثير. تعتبر رحلة الموصلي الكلدلني والحالة هذه، أوّلَ سيّاحة عربيّة حافلة بالأخبار، والمعلومات، والمغامرات المثيرة التي سجّلها هذا الرحّالة عن تلك الأصقاع البعيدة المترامية الأطراف، كما أنّه يُعتبر هو بالتالي أوّل رحّالة أو سائحٍ عربيّ يزور ويصف لنا تلك الدّيار البعيدة، والأصقاع النائية. *عضو الأكاديميّة الإسبانيّة - الأمريكيّة للآداب والعلوم - بوغوتا- (كولومبيا).