غطى توالي الأحداث، وتعاقب الفتن، وتناسل الحروب الصغيرة والكبيرة في كل من ليبيا ومصر والعراق وسوريا واليمن على ما كان يحدث في فلسطين من تنكيل وتجويع وتقتيل لأبنائها على يد الآلة الحربية الإسرائيلية. وساد الاعتقاد في الوعي الجمعي أن المحتل في إسرائيل، بكل جبروته، أرحم على الفلسطينيين، وأكثر إشفاقا من بعض الأنظمة العربية المستبدة على شعوبها المنتفضة في ما يسمى بالربيع العربي، خاصة بعد أن بدأت تتهاطل علينا مدرارا في القنوات الفضائية، وعلى مدار الساعة، صور مباشرة لإبادة حقيقية للمدنيين تُستعمل فيها أبشع طرق الانتقام. وطال هذا الربيع غير المزهر، وأتى على الأخضر واليابس، واشتعلت النيران في كل مكان. وأصبحت أخبار الحروب والثورات والكر والفر والمواجهات والاعتداءات والعمليات الإرهابية مادة دسمة تتغذى بها كبريات شركات الإعلام وكأن هذا العالم الكبير خال إلا من بضعة ملايين من العرب والمسلمين الذين ملؤوا الدنيا صراخا وضجيجا، والذين تحولوا في ظل هذه الفوضى غير الخلاقة إلى ضحايا مباشرين لصراعات إقليمية يتداخل فيها ما هو عقدي ومذهبي واقتصادي. لم يخفت أبدا الصوت الفلسطيني حتى وإن كان الجسد منهكا بالصراعات الداخلية، ومثخنا بجروح لم تلتئم بعد، ولا أمل في التئامها، على الأقل، في المستقبل القريب أو المتوسط. ملئت أخبار ليبيا وسوريا والعراق واليمن السعيد وغيرها من الدول العربية والإسلامية شاشات التلفزة والحواسيب وصفحات الجرائد وأحاديث المنتديات والمؤتمرات والمقاهي. وتوجهت كل الأنظار نحو هذه البؤر المشتعلة. وفجأة، وعلى الرغم من أن الحرب لم تضع أوزارها في الشرق، ستطالعنا الأخبار بحدث طازج آت من الأراضي الفلسطينية التي تغيرت فيها أشكال المقاومة رأسا على عقب، وذلك بعد أن قطعت مع الحجارة لكي تخوض معاركها المقبلة بالسكاكين. الانتفاضة السابقة كان بطلها هو الطفل الفلسطيني، وكانت أداة المقاومة هي الحجارة التي واجهت، رمزيا، فيالق جنود الاحتلال، والدبابات والمدرعات والرشاشات والقنابل المسيلة للدموع. واستطاع هذا النوع من المقاومة أن ينحت مصطلحا جديدا ألا وهو أطفال الحجارة، وأن يستدر عطف وإشفاق وتضامن المجتمع الدولي، وأن يُحقق بعض الانتصارات التي سرعان ما تم الالتفاف عليها. إن الجديد في هذه الانتفاضة الفلسطينية التي بدأت تظهر بعض بوادرها هو اقترانها منذ الوهلة الأولى بالسكاكين. وهو الأمر الذي دفع الكثيرين إلى نعتها، عفوا أو قصدا، بحرب السكاكين. كان من الممكن أن تمر هذه التسمية دون أن تُثير انتباه أي أحد لولا أنها تحمل في جوهرها دلالة تاريخية. خصوصية هذه الدلالة في ارتباطها الوثيق باليهودية نفسها. ولعله من مكر التاريخ أن تكون فلسطين في القرن الأول الميلادي مسرحا لحرب سكاكين أو خناجر شبيهة بحرب سكاكين القرن الحالي، وتحديدا سنة ألفين وخمسة عشر. فإقليم يهوذا، وهو تقريبا مجموع إسرائيل وفلسطين، وقع تحت سلطة الاحتلال الروماني، وأصبح في القرن السادس الميلادي إقليما خاضعا للإمبراطورية الرومانية. وقد بلغ استياء وتذمر اليهود من المحتل الروماني والمتعاونين معه درجة كبيرة سرعان ما ستؤدي إلى ظهور حركات ثورية متشددة. وسيُشكل الزيلوت (Les zélotes) وأصحاب الخناجر أو السكاكين (Les sicaires) أهم ممثليها. إذا كان الزيلوت، وهم في الأصل من حراس الهيكل، يمثلون حركة دينية من بضعة آلاف فرد تميزت بمعارضتها الشديدة للاحتلال، ومشاركتها المباشرة في الثورة اليهودية الأولى والثانية، فإن اليهودية شهدت في الفترة نفسها نشأة حركة راديكالية وسرية أسسها يهوذا الجليلي (Judas Le Jaliléen) والتي أفتت، انطلاقا من نصوص دينية معينة، بضرورة مقاومة الاحتلال الروماني، واشتهرت باستعمالها لسكين أو خنجر يُعرف باسم (Sica). يقول المؤرخ اليهودي الروماني، يوسفوس فلافيوس، بخصوص هذه الحركة ما يلي: "وكان منهم قوم يحملون سكاكين صغيرة ذات حدين يخفونها في ثيابهم، ومن أراد منهم أن يقتل رجلا كان يعطي بعض أولئك الأشرار شيئا ويسأل أن يقتله فيمضي ذلك الشرير ويمشي إلى جانبه بين الناس ثم يضربه بالسكين في بعض مقاتله فيسقط ميتا، ويختلط القاتل بالناس فلا يُعرف". وليس غريبا أن تحظى هذه الحركة بدعم شعبي لدى بعض الأوساط الاجتماعية، وأن تحتل موقعا متميزا بين مثيلاتها من الحركات الثورية الأخرى. غير أن تشبثهم بعقيدتهم الدينية، وأمام واقع الحصار الذي كان مضروبا عليهم، انخرطوا في عملية انتحار جماعي في "مسعدة" سنة أربعة وسبعين ميلادية، وذلك تفاديا لسقوطهم أسرى في يد المحتل الروماني، وإجبارهم بالقوة على عبادة خالق آخر للكون غير الله. إستراتيجية أصحاب السكاكين في نسختها الأولى كانت واضحة، وهي ضرب الرومان فرادى حيثما ثقفوهم، وذلك بطعنة سكين. والصورة الآن، وفي نسختها الثانية، لا تختلف عن الصورة الأولى إلا في بعض التفاصيل. فالتقارير الصحافية تؤكد كلها أن دخول الفلسطينيين في هذه الحرب الجديدة كانت رد فعل طبيعي ومباشر للاقتحامات المتوالية للمسجد الأقصى، التي كان يتزعمها أعضاء بالكنيست الإسرائيلي المنتمين لليمين المتطرف أو بعض المجموعات الإسرائيلية. وقد انطلقت الشرارة الأولى من القدس لتنتقل إلى الضفة الغربية وقطاع غزة لتصل في نهاية المطاف إلى داخل إسرائيل. وأوقعت حرب السكاكين عددا مهما من القتلى والجرحى الإسرائيليين، فيما سقط برصاص الجيش الإسرائيلي العشرات من الشهداء، والآلاف من المصابين بجروح متفاوتة الخطورة. ومثلما هو الحال في حرب السكاكين الأولى، فإن الطعنة قد لا تكون دائما قاتلة، إلا أنها تنجح في خلق حالة عظيمة من الذعر والقلق والإحساس بعدم الأمان، وهو ما عبر عنه قديما يوسفوس فلافيوس، ناعتا أصحاب السكاكين اليهود بالأشرار أو المرتزقة أو قطاع الطرق. أما نتانياهو وغيره من ساكنة إسرائيل أو الغالبية منهم والمستوطنين فلا يتورعون عن تسمية أصحاب السكاكين الفلسطينيين بالإرهابيين. ولاشك في أن خطورة هذه الحرب بالنسبة للجيش الإسرائيلي تكمن في عدم قدرته على تعقب المنفذين المحتملين لمثل هذه العمليات لأن القرار والتنفيذ يكتسيان صبغة فردية. وحتى عندما يريد أعضاء في المخابرات إيقاف شخص مشتبه به بحجة حيازته لسكين فقد يحدث أن يكون الموقوف إسرائيليا. وهو ما يقع بين الفينة والأخرى مسببا لهم حرجا كبيرا. وفي جميع الحالات، فإن حرب السكاكين تولد لدى الأشخاص الإحساس التام بعدم الثقة وانعدام الأمن. إذا كانت حرب السكاكين الثانية استطاعت، وهي لا تزال في بدايتها، وفي صيغتها غير المنظمة، أن تزعزع المنظومة الأمنية الإسرائيلية. فما بالك حينما تُنظم نفسها، وتشرع في استقبال فلسطينيين جدد، لاسيما مع الحملة التي أُطلقت على موقع "يوتيوب"، والتي تحث بقية شباب فلسطين، من خلال أشرطة فيديو، إلى تنفيذ عمليات مماثلة. وقد سارعت إسرائيل إلى مطالبة إدارة الموقع بحذفها بحجة أنها محرضة على القتل. هل ستأخذ حرب السكاكين الثانية المسار الذي قطعته حرب السكاكين الأولى التي كانت من الناحية الإيديولوجية جزءا من حركة دينية أكبر متمثلة في الزيلوت؟ أو بتعبير آخر أوضح؛ ألا يمكن أن نتوقع تبني حركات سياسية فلسطينية لهذا الشكل من المقاومة؟ ما هو آثار هذه الحرب على مستقبل القضية الفلسطينية؟ هل قرأ الفلسطينيون تاريخ يوسفوس فلافيوس؟ لا يمكن أن نجزم بذلك. لكن ما هو مؤكد لدى الكثير من الباحثين، وعلى رأسهم الباحث العلامة محمد المدلاوي، أن حرب السكاكين أو الخناجر لم يبتدعها فلسطينيو اليوم. ومن المفارقات التي وقف عليها موريس سارتر، والتي تُعد مظهرا من التاريخ وهو يعيد نفسه، هو أن اليهودي الذي كان في القرن الأول الميلادي واقعا تحت سلطة الاحتلال الروماني، والذي لم يتوان لحظة عن مقاومته، وذلك من خلال خوضه بلا هوادة لحرب السكاكين الأولى الشهيرة، تحول بدوره إلى مُحتل غاشم لا يرحم، ووجد نفسه وجها لوجه أمام فلسطينيين من أصحاب السكاكين في حرب يجدر بنا أن نُسميها حرب السكاكين الثانية. لن يكون الفلسطيني في مقاومته للاحتلال الإسرائيلي لأرضه أقل شجاعة وبأسا من اليهودي الذي ضاق ذرعا من المحتل الروماني في القرن الأول الميلادي فقاومه بكل السبل بما في ذلك خوضه لحرب السكاكين. وإذا كان السوري الحر لا يعرف الآن، وقد اختلطت عليه الأوراق، أي الأهداف العسكرية أولى بالهجوم عليها أو صدها. أهو النظام السوري غير المرغوب فيه شعبيا أم كتائب حزب الله الوافد من لبنان أم "داعش" أم بعض التنظيمات الأخرى المتناثرة هنا وهناك أم الطائرات الحربية الروسية؟ إذا كان هذا هو حال السوري الحر في مقاومته لعدو داخلي تؤازره قوى إقليمية وازنة، فإن الفلسطيني لا يعيش هذا التخبط لأنه يعرف حق المعرفة عدوه، ويدرك جيدا أنه ما ضاع حق من ورائه طالبه. وقد تأخذ حرب السكاكين الثانية أبعادا أخرى إذا ما انخرط فيها بقوة عرب 48. *كلية الآداب والعلوم الإنسانية، سايس؛ فاس