لا تَسْتقِيم هذه التَّسْمِيَة في فَمِي. فأنا حين أضَعُها بين ظُفْرَيْنِ، أقصد إلى وَضْعِها في مَرْتَبَة الشَّك، أو الرِّيبَة. لأنَّنِي ببساطةٍ، لا أرى في الدِّين مَيْلاً للسِّياسَة، كما لا أرى أنَّ الدِّينَ يمكنه أن يصير سياسةً، أو يكون شريكاً في تدبير الشَّأنِ السِّياسيّ. فحَقْل الدِّين، وطبيعتُه، ليس هو حَقْل السِّياسَة، وطبيعتها. مثلاً، حين تكون السِّياسَة، وفق التعبير الشَّائع، هي «فن المُمْكِن»، وهي تبرير ل «التَّضْلِيل» و «المُغَاَلَطَة»، وتغيير التَّحالُفات، بحسب المصالح، أي أنَّها بالمعنى الأخلاقي، هي «كَذِبٌ» ولَعِبٌ بالكلام، فالدِّين، في بُعْدِه الرُّوحي، يمكن اعتبارُه فنّ المُستحيل، أي أنَّه «مَعْروفٌ» و«وَنَهْيٌ عن المُنْكَر»، وهو ليس نِفاقاً، ولا كَذِباً، وهو ما لا تقبله السِّياسَية، أو ما لا يدخل في طبيعتها، التي هي عكسُ طبيعة الدِّين، وخِلافٌ له. فكيف، بهذا المعنى، تكون السِّياسَة صِفَةً للدِّين، أو أن يصير الدِّين أُفُقاً للسِّياسَة؟ ما يعني، أن نَجْمَع النَّقِيض بنقيضه، أو بما لا يمكن أن يكون منه، أو داخلاً فيه. بالعودة لِماضِي الدِّين، وأعني الإسلامَ هُنا، تحديداً، فالدِّينُ جاء لإصْلاح ما اسْتَشْرَى من فَسَادٍ في الأرض، وجاء ليُلْغِيَ التَّعَدُّدَ والكَثْرَة، ويَجْمَع الكُلَّ في واحِدٍ، بحسب جَوْهَر الكُتُب السماوية التي اعْتَبَرَتْ نفسَها إصلاحاً، واسْتِقامَةً، أو تقويماً لِما حَدَث من اعْوِجاجاتٍ في مسار البشرية . هذا اللِّسانُ الواحِد، هو «كلام الله»، لا كلامَ غيره. فالمعنى، أو ما يَجري من فَهْم للطبيعة، والخَلْقِ، ولجوهر الإنسان، كُلِّه، من الآن، فصاعِداً، له مرجعه، وهو هذا اللِّسان النَّاطق باسم الله، لا باسم غيره، ممن كان من آلِهَة، لأنَّ التَّعَدُّدَ فيه فَسَادٌ للأرض، وفسادٌ للإنسان، أي فسادٌ للوجود. وهذا هو ما جاءتِ الدِّيانات السماوية لتُكَرِّسَه كمعنىً، وكإيمانٍ، حيث لا مكان للشَّكِ أو الشِّرْك، أي لِشَراكَة غير الله لِلَّهِ في تَدْبِيرهِ لشؤون الكون والخَلْق، ولمصيرهما. إذا كان الدِّين يقوم على هذا النوع من الفكر الواحِدِيّ التوْحِيدِيّ، الذي لا يقبل الشَّراكَةَ ولا التَّعَدُّد، ففي السِّياسَة، التي هي تدبيرٌ لشؤونِ الإنسان، ولعلاقة الإنسانِ بالطبيعة، باعتبار ما يخرج منها من خَيْرَاتٍ، تكون الشَّراكة، والتَّدبيرُ الجَماعِيّ، القائِم على التَّعَدُّد والتنوُّع والاختلاف، هي أساس الفكر السِّياسيّ، أو هي ما يَتميَّز به حقل السِّياسَة، وهو مُفارِقٌ للفكر الدِّيني، تماماً. السؤال هو، كيف يمكن أن نستعمل السِّياسَة في الدِّين، أو نستعمل الدِّين في السِّياسة، ولأيّ غَرَض؟ وما الذي يُريدُه الدِّين، أو التَّدَيُّن، بالأحرى، من اسْتِدْخالِه السِّياسَةَ في مجاله، أو بوضعه في حقلٍ، أو في فكر، هو نَقِيضٌ لحقله وفكره؟ من هذه الزَّاوِيَة، أرَدْتُ أنْ أُقارِبَ هذا الموضوع، لا من الزَّاوِيَة التي يَتَسَمَّى بها في العادَةِ. ثُمَّ إنَّ التَّسْمِيَةَ تَمَلُّك، كما يرى هايدغر. فمن يُسَمِّي يَتَملَّك ما يُسَمِّيه، ويصبح خاضعاً له، أو تَحْت سَيْطَرَتِه وتَصَرُّفِه. وكما بدا من مقدمة مُقارَبَتِي هذه، فأنا لا أريدُ أنْ أخوض في ما لمْ أُسَمِّه، لأنَّنِي سأكون واضِعاً يَدِي في ما هو ملكٌ لغيري. ولأقترب من موضوعي أكثر، فأنا سأعتبر، وفق الصورة التي تجري بها الأمور عندنا، ليس في المغرب، فقط، بل في العالم العربي، في علاقةٍ بالإسلام، اسْتِدْخالَ السِّياسةِ في الدِّين، إمَّا تَدَيُّناً، أي ادِّعاءً لِلدِّين، لا انتماءً إليه بالإيمان الخالِص، أو أنَّ من يقومون بهذا الاسْتِدْخال، هُم إسلامويون، أي يَدَّعُون الإسلام، ولا تربطهُم به صِلَة الاقتناع العقائدي، أي بالمُعْتَقَدِ ذاتِه، باعتباره رسالةً، تَحُضُّ على «المعروف» لا على «المُنْكَر». الذي يحدُثُ، هو أنَّ الإسلامَ اليوم، يتعرَّض لتحريفٍ وتَضْلِيل كَبيرَيْن. كُنَّا، من قبل، نتحدَّث عن التأويل المُفْرِط والمُجْحِف، أو الأعمى للنَّص الديني، وما ترتَّبَ عنه من تَطَرُّف في الفكر وفي النَّظَر، فأصبحنا، في مُقابل هذا النوع من التأويل، نتحدَّثُ عن التضليل، الذي هو تَشْوِيهٌ كامِلٌ لطبيعة الإسلام، ولجوهره، الذي لا يحتاجُ كُلّ ما أُدْخِلَ عليه من تعقيدات، وتَشَوُّهات، كانت السَّبَبَ في هذه الالتباسات الحاصلة، في خَلْطِ الدِّين بالسِّياسَة، والسِّياسَة بالدِّين، ووَضْعِهِما، معاً، في نفس الإناءِ، لِيَرْشَحا، بما ليس فيهما. في المغرب، كُنَّا، ونحن تلاميذ، في مراحل التعليم الثانوي، نتحامَل على السَّلَفِيين، وعلى السلفية، في درس الأدب، الذي كانت فيه نصوص بعض هؤلاء مُقرَّرَة في الشعبة الأدبية، واعْتَبَرْنا، ما اقْتَرحُوه علينا من أفكار، غير مُفيد لَنا، ولا للِزَّمَن الذي نحيا فيه، وأنَّ «التقدُّمَ» و «الحداثة» في ما بعد، هما الحلّ لهذا «التَّخلُّفَ» الذي يَسْتَغْرِقُنا. فما اعْتَبَرَه هؤلاء حَلاًّ، بالعودة بالدِّين إلى مصادره الأولى، واتِّباع السَّلَف، في ما صدر عنهم من أقوال وأفعال، هو هُروبٌ إلى الوراء، في مُواجَهَة، مُشْكِلاتٍ، أو مُعْضِلات، هي أمَامَنا، وفي مُقابِلنا، وما كان في الماضي، فهو لا يمكن أن يكون هو نفسُه ما يَحْدُثُ في الحاضر، لأنَّ السياق الرَّاهِن، مُجافٍ، تماماً لِما كان في زمن عُمَرَ، وغيره ممن هُم «سَلَف». العِبْرَةُ، عندنا، في كُلّ هذا النِّقاش، كانت في الخَلَف، المَعْنِيّ وَحْدَه بِتَفْكيرِ مشكلاته، وأزَماتِه، والبحث عن حلول لها. أتاحتْ لنا كتابات عبدالله العروي، وأنور عبد المالك، وطيب تيزيني، وحسين مروة، وأدونيس، في ما بعد، أن تبْقَى رؤوسُنا مشْدُودةً إلى الأمام، وأنَّ أيَّ شَكْلٍ من الالْتِفات إلى الوراء، هو، فقط، لاسْتِشَاَرةِ الماضي، في ما مضى، ولمعرفة طبيعة المنطق الذي حَكَم الصّيرورة التَّاريخيةَ لهذا الماضي، الذي أصْبَحْنا نعرف أنَّ في هذا الماضي، ما مَضَى وانْتَهى، وفيه ما لَمْ يَمْضِ بَعدُ، ويقبل أن نعودَ إليه، باعتباره أفُقاً للمستقبل، لا نَفَقاً له. في هذا السياق، الذي كان فيه الفكر اليساري التقدمي، هو المُهَيْمِن، وكانت المدرسة فضاءً للتنوير، ولانتشار الفكر النِّضالي التَّحرُّرِيّ، كانت السلفية، عندنا شَرّاً، وفِكْراً مُعادِياً، وهو ما تراجَعْنا عنه، اليوم، أو اعْتبَرْنا، في ضوء المَدِّ الإسلاموي، الذي رفض السلفيةَ، نفسها، واعتبرها متواطِئَةً مع السلطة، أنَّ في النظر إلى الِدِّين، ما هو أهْوَن من غيره، أو هو نوع من الرؤية الدينية المُتَنَوِّرَة، قياساً بصيغ وأشكال التَّطرُّف التي باتتْ سِمَةَ هذا «الإسلام» الذي نعتبره، دون مراجعَةِ المفاهيم، ونَقْدِها، «إسلاماً سياسياً». فحين سَمَّيْتُ السَّلَفِيِّين، في كتاب «الإسلام المُتَشظِّي»، ب «السلفية المُتَنَوِّرَة»، فأنا كنتُ أسِيرُ في هذا المعنى، وبهذا القياس ذاته، الذي باتَ فيه، بعض «الشَّر»، أهْوَن من غيره، كما يُقال. فمحمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، ورشيد رضا، وعبد الحميد بن باديس، وعلال الفاسي، والمختار السوسي، هؤلاء سلفيون، لكن سلفيَتَهُم، هي سلفية مُتَقَدِّمَة، في رؤيتها، وفي طبيعة انفتاحها على العَصْر، رغم أنَّها لم تخرج من ماضٍ رأَتْ فيه الحَلَّ، و«العُرْوَة الوُثْقَى». لم يكن هؤلاء يُفْتُون بتكفير غيرهم، ممن يُخالِفُهُم في الرأي، أو ممن يقرأ النَّصّ، بغير ما قرأوهُ به، بل كانوا عُلَماء، وكانوا أصحابَ معرِفَةٍ، وانخراطهم في السياسة، كان من أجل الإصلاح، ومن أجل التَّحرُّر من الاستعمار، ومُقاوَمَة الاستبداد، ومشروعُهُم، كان مشروعاً أصلاحياً، شُمُولياً، ينسجم مع طبيعة المرحلة التي ظهروا فيها. حتَّى الشِّعر والأدب، كان سَلَفِياً، ماضوِياً، أي تقليدياً، لأنَّه كان، بدوره عودةً للماضي، كما عند البارودي وشوقي وحافظ، لكن، بمعيار النهضة والإحياء، كما فَهِمَهُما هؤلاء، لا بمعيار النُّكوص بمعناه المطلق والشَّامِل. لا أعتبر سلفية هؤلاء بديلاً، والخيار الممكن لِحَلّ مُعْضِلاتِنا الرَّاهِنَة بل إنَّنِي أنظر إليها، قياساً بما يعرفه المفهوم من الْتِباساتٍ اليوم، ومن تشويشٍ، أو تَشويهٍ، وتَحْريفٍ. فالسلفي أصبح حامِلَ سلاحٍ، وقاطَعَ طُرُقٍ ورؤوس، وقُنْبُلَة قابلةً للانفجار في أي مكان، و«دَوْلَةً» تَسْتَحْكِمُ فيها الفوضى، وتدبير الدُّنْيَوِي بالدِّيني، وفق نَظَر هذا السلفي، وتأويله لِلنَّصّ، ولِلسِّياقاتِ التَّاريخِيَة المُرافِقَة له، أي بما يجعل من الدِّين، دِيناً في قَلْب الدِّين، أو ديناً يَنْقَلِبُ على الدِّين. وهو سَلَفِيّ بالأمر، لا سلفي بالفكر وبالنظر. ما يعني، أنَّ اسْتِدْخال الدِّين في السياسة، هو خُروج بالدِّين من وظيفته، ومن دَوْرِه، ووَضْعِه كذريعَةٍ لتبريرِ القَهْر والقَتْل، والاسْتِحْكام في النَّاسِ باسْتِبْلاَدِهِم، واسْتِعْبَادِهِم. ولعلَّ في الندوة التي عَقَدَتْها «وزارة الأوقاف والشؤوون الإسلامية» في المغرب، بمشاركة سَلَفِيين، من تيارات ومَشارب مختلفة، هي نَوْع من «تصحيح» المفهوم، ومن وضع الدِّين في سياق «الوَسَطِيَة» و «الاعتدال»، باعتبارهما بين أهم ما ظلَّت الدولة المغربية تَبْنِي عليهما فَهْمها، ومفهومَها للإسلام السُّنِّيّ المالِكي، على طريقة الجُنَيْد. فحين اعتبر وزير الأوقاف أنَّ المغاربة، جميعاً، سلفيين، أو أنَّ إسلامَهُم هو إسلام سلفيّّ، فهو كان يقصِد، هذا المعنى، الذي نَأَى بالإسلام في المغرب، عن الانحراف، أو عن تَبَنِّي «التَّطرُّف» لصالح جهة دون أخرى، ولم يقصد، في ما أتصوَّر أنَّ المغاربة جميعاً، يقبلون بالسلفية، باعتبارها اختياراً في الفكر والنظر، لأنَّ في المغرب، مَنْ يدعو للعلمانية التَّنْوِير، ومن يعتبر الحداثة، هي الأفق الممكن للدولة الوطنية الحديثة. أنْ يَصْدُر مثل هذا الكلام عن ندوة تُعْقَد في المغرب، ومن طرف جهة رسمية، ويحضرها وزير الأوقاف، وهو وزير في حكومةٍ رئيسُ وُزرائها «إسلامي»، من «حزب العدالة والتنمية» الحاكِم، فهذا، في ذاته، تعبير عن كَبْح «الدولة» لِكُلّ المفاهيم التي يمكن أن تصدُر عن هذا الطَّرَف، المَاسِك بزمام السلطة، أو عن غيره، ممن هُم خارج السلطة، من أصحاب المرجعيات الدينية المختلفة. فوجود الملك، ك «أمير للمؤمنين»، كان، دائماً، أحد الكَوابِح في اتِّجاه مَنْعِ مثل هذه الانحرافاتِ، التي كانت بعض مظاهرها بَدَتْ في خطابات بعض وزراء «العدالة والتنمية»، وعند بعض قادة الدِّراع الدَّعَوِي لهذا الحزب. الخلاف، والنِّقاش الجاري حول مشروعية «الإجهاض»، وحول مشروع مسودة القانون الجنائي الذي اقْتَرَحَه وزير العدل، وهو وزير «إسلامي»، وما عرفَه هذا النِّقاش من تَبايُناتٍ في المواقف، وخلافاتٍ حادَّة، فرض تَدَخُّل المَلِك، أو الاحتكام إلى «أمير المؤمنين»، وهو ما حَدَث من قَبْل، بصدد «مُدوَّنَة الأحوال الشخصية»، هو تشخيصٌ واضح، لِطبيعة الحقل الديني في المغرب، الذي لا يمكن أن يخرج من هذا المعنى السلفي الذي يقوم على مبدأَيْ الوسطية والاعتدال. لا يعني هذا أنَّ الدولة وَحْدَها من تعمل في هذا الحَقْل، أو هي من تَسْتَحْكِم في خيوطه كامِلةً، بل ثمَّةَ أطراف أخرى تعمل في اتِّجاه جَرِّ الحَبْل إليها، وأنَّ هناك «شُرَكاء» أصبحت الدولة مُلْزَمَة بدعوتهم للحوار، أو لاستقطابهم، مثلما حدث مع بعض أقطاب «السلفية الجهادية» ممن كانوا تَوَرَّطُوا في العمليات الإرهابية التي حدثت في مدينة الدارالبيضاء، أو جماعة «العدل والإحسان»، أو غيرهم، ممن يَطْفُون على السَّطْح، بين الفينة والأخرى. فالدولة، في هذا السياق، تلعبُ دَوْر المايسترو الذي يحرص على ضَبْط الإيقاعات والنَّغَم، وعلى العودة بالنُّوتَةِ إلى وَتَرِها الذي عليه يَسْتَوِي الغِناء كاملاً. هذا، في اعتقادي، هو جوهر ما يجري من تَحوُّلاتٍ في «الإسلام السياسي»، في المغرب، وهي تحوُّلاتٍ، لا تخرج عن هذين الزَّوْجَيْن: «الوسطية» و «الاعتدال»، أو «الإسلام» الذي ينخرط في السِّياسَة، لكن، ليس بمشروع «إسلاموي»، بل بمشروع سياسي، اجتماعي، هو مشروع «الدولة»، لا مشروع «الدين»، أو مشروع «إمارة المؤمنين»، حتَّى في شِقِّه الديني. وبالعودة إلى خطابات حزب «العدالة والتنمية»، الذي هو حزب في أساسِه خارِج من التَّنظيم الدولي للإخوان المسلمين، وبما يقولونه اليوم، وهُم في موقع المسؤولية، سنجد بَوْناً شاسِعاً بين الخطابَيْن، أو بين اللِّسانَيْن، لِسان «الدِّين»، أو «التَّدَيُّن»، ولِسان «السِّياسَة» أو السلطة بالأحرى. فالخطاب الديني اخْتَفَى، أو تَوَارَى، في خطاب هؤلاء، وأصبح الخطاب السياسي هو الحاضر، لأنَّ ما فَهِمَه الإسلامويون، سواء داخل السلطة أو خارجها، هو أنَّ مشروعاتهم الدينية، الدَّعَوِيَة، أو هذا الذي اعتبروه إسلاماً سياسياً، بغض النظر عن أعطاب التَّسْمِيَة، كما بَيَّنْتُها من قبل، غير قابلة للإنجاز، لأنَّ وزارة الأوقاف، التي هي «وزارة سيادة»، ليست تابعة لرئيس الوزراء، سواء أكان يسارياً أو إسلاموياً، فهي في يَدِ الملك، مثلها مثل وزارة الخارجية، ووزارة الداخلية، وأنَّ أي اقتراح، أو مشروع قانون يمس هذا المجال، يبقى رهيناً بالتَّوَجُّه الدِّيني للدولة، ولإمارة المؤمنين، لا لغيرها من الأفكار، ولو صدرتْ عن مفكرين تنويريين، أو أصحاب فكر حداثي تقدمي، فالأمر سيان. فما نَعْتَبِرُه َ«تَحَوُّلاتٍ» في «الإسلام السياسي» في المغرب، هو ثوابت، وهو مُكْتَسباتٍ، الدَّوْلَةُ هي من تتحكَّم في خيوطِها، وهي من تَعْتَبِر نفسَها الوَصِيَّ المُباشِرَ على الدِّين، في كل جزئياته وتفاصيله. الذين ظَهَرُوا في المشهد المغربي، سواء في الماضي، «الشبيبة الإسلامية»، أو في الحاضر، حزب «العدالة والتنمية» و «العدل والإحسان»، والسلفيات الجهادية، بمختلف أنواعها ومشاربها، هي كُلُّها خرجت من التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، وفكرُها هو نفس الفكر، الذي يميل، بطبيعته، إلى المُغْلَق، في النص الديني، وإلى تأويله بنفس المرجعيات، التي لا تبتعد في جوهرها عن فكر حسن البنا وسيد قطب، وأيضاً، عن الفكر الوهابي، وعن فتاوى وتأويلاتِ ابن تيمية، رغم أنَّ البعض من هؤلاء، مثل حزب «العدالة والتنمية»، انخرط في الفعل السِّياسيّ، واختار المُشاركة في الحكم، والقبول بالخيار الديمقراطي، لكن، دائماً، بنوع من اللَّعِب المُزدوِج. فالجناح الدعوي لهذا الحزب، في ما يصدر عنه من أفكار، وما يفتحَه من قضايا، لم يخرج عن جوهر هذا الفكر الماضوي النُّكُوصِيّ، وهو ما بَدا جَلِيّاً في مشروعات «الحزب» الحكومية، التي لم تَلْقَ قبولاً من الأحزاب والمنظمات المُعارِضَة، ومن أصحاب الفكر الحداثي التنويري، وجمعيات حقوق الإنسان، والمجتمع المدني. قراءة هذه المقترحات، تَشِي بالتَّراجُع عن المُكتَسبات التي حَصَل عليها المغاربة عبر سنوات من النِّضال والتَّضحياتِ الجسيمة، والرغبة في العودة بوضع المرأة، مثلاً، إلى ما قبل الاستقلال، أو إلى تلك العهود السحيقة التي كانت فيها المرأة «خادمة» في البيت، وليست زوجةً وشريكة، لها حقوق، وعليها واجبات، مثلها في ذلك مثل كل الرجال. ولعلَّ في تصريحات رئيس الحكومة، أمام البرلمان، في ما يخصُّ وضع المرأة، ما فَضَحَ هذا النُّزوع الماضوي، السلفي، ليس بالمعنى الإصلاحي التَّحَرُّرِي، بل بالمعنى الارتِكاسي، النُّكوصِيّ. لا تَحَوُّل، إذَنْ، ثَمَّة ثوابت، وفي ظِلِّ هذه الثوابت، التي اعْتُبِرَتْ ضمن «المُقدَّسات»، جاء قانون الاعْتِقاد، أو ما يُعْتَبَر جناية يُعاقِب عليها القانون، في ما سُمِّيَ ب «بزعزعة عقيدة مسلم» أو مُؤْمِن، والتي يُعاقَب عليها بالحبس، بما في هذا المعنى من غموضٍ، وابْتِذَالٍ في الصياغة والتعبير. فحرية المُعْتَقَد غير وارِدَة في هذا السياق، ولا يحق لمغربي غير مُقْتَنِع بإسلامه أن يعلن جَهْراً أنَّه ذهب لغير الإسلام، أو آمَنَ بغيره من المعتقدات. لكن، رغم كل هذا الذي اعتبرْناه ثوابت، ورغم كل هذه التقاطُبات والتَّجادُبات، بين الدولة، وبين الإسلامويين، سواء من كان منهم في السلطة، أو خارِجَها، فإنَّ طبيعة الدِّين في المغرب، تبقى غير طبيعته في عدد من الدول الإسلامية التي تتبنَّى الانغلاق والتَّزَمُّتَ، وتسمح، بطريقةٍ، أو بأخرى، بما يَحْدُث من انفلاتاتٍ، ومن تَطَرُّف، كما يحدث في المذهب الوهابي، وما ترتَّب عن تأويلاتِ ابن تيمية من إفراط في فهم الدِّين واسْتِعماله، أو مِنْ شَطَطٍ في اسْتِعْمالِ الدِّين. ما نعتبره إسلاماً سياسياً، هو، بالمنظور الذي ذَهَبْتُ إليه، هُنا، خُروج بالدِّين عن السياق الذي جاء منه، أو عن المعنى الذي دَعَتْ إليه الكُتُب السماوية، وما رافَقَها من كتابات، وشروحات، وتأويلاتٍ. وفي الإسلام، ليس ثَمَّة خَلْط بين الدين وشؤون الحياة العامة، فكما للدٍّين شؤونه، وله مشكلاتُه التي ترتبط بطبيعته الإيمانية الغَيبية، فللحياة الدُّنيا، مشكلاتها، وطبيعتُها التي تفرض فكراً قابلاً للمُناوَرَة، ولتغيير المواقف، ولنوع من اللُّيونَة، لأنَّ السياسة، هي تعامُل مع المسلم، وغير المسلم، وهذا، في ذاته، يجعل من السياسة، بعيدة عن الدين، وعن أمور الدِّين، لِما بين الحَقْلَيْن من فروقات، ومسافاتٍ، لا يمكن رأْبُها، بالدِّين، ولا بادِّعاء الإيمان، أو ركوب السياسة لتحقيق مآربَ أخرى.