مهداة إلى روح المرحوم محمد العربي المساري مع بداية كل موسم دراسي جديد تتناسل الأسئلة الملتهبة، والهواجس المقلقة، حول واقع التعليم في المغرب، والمآل البئيس الذي انتهى إليه، وذلك بعد أن استنفذت الوزارة الوصية في الحكومات المتعاقبة كل الإصلاحات التي كانت في جعبتها، والتي أظهرت، وإن بشكل متفاوت، فشلها في تدبير هذا القطاع الحساس. وما من أحد أثار هذا الموضوع إلا ويعود القهقرى إلى سنوات السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي ليتخذها مثالا يُحتذى به للتعليم الجيد. وعلى الرغم من اختلافنا في تقييم هذه المرحلة من تاريخ المغرب. إلا أننا قد نتفق جميعا في أنها استطاعت أن تُكون جيلا من المتعلمين من ذوي الكفاءات العليا، جيلا من مزدوجي اللغة، جيلا من الطاقات القادرة على العطاء في مجالات معرفية مختلفة. إننا نحن، أحيانا بشكل مرضي، إلى المرحلة التي كان فيها التعليم العمومي هو صاحب السيادة، والكلمة الفصل في تقدير الكفاءات لا فرق في ذلك بين غني أو فقير، بين بدوي أو مديني، بين مواطن من عامة الشعب أو فرد من النخبة. الصورة الآن تغيرت كثيرا. فقد انتشرت مدارس التعليم الخصوصي كالفطر، ولم تعد التراتبية قائمة بين كل من التعليمين العمومي والخصوصي، وإنما أصبحت مستفحلة داخل التعليم الخصوصي نفسه. وبعد أن كان التعليم خدمة عمومية يستفيد منها كل مواطن مغربي بصرف النظر عن وضعه الاجتماعي، تحول على أيدي حفنة من ذوي المال، سلعة تباع وتُشترى. وهذه السلع نفسها، يا للأسف، غير متساوية في الثمن. ففيها السلعة المتواضعة والمتوسطة والجيدة والممتازة. وفي هذه الأجواء المحمومة والمسمومة يتسابق الآباء، على الرغم من قصر ذات اليد، لتسجيل أبنائهم في أرقى المدارس، وذلك على حساب قوتهم اليومي، ومشاريعهم الصغيرة. أما من يعجز عن الدخول في هذا السباق فيكتفي بمدرسة خصوصية متواضعة أو متوسطة، وحسبه أنه أنقذ فلذة كبده من رداءة التعليم العمومي. ما الذي حدث؟ من يتحمل مسؤولية أزمة التعليم في المغرب؟ من يقودنا إلى الكشف عن بعض مكامن الخلل فيه؟ سيكون من باب التجني أن نُلصق كل التهم الصحيح منها والباطل بالتعليم الخصوصي. وسيكون من باب المزايدات السياسوية المحضة الدعوة إلى إلغاء هذا الصنف من التعليم. فقد تجذر في نسيج المجتمع المغربي، وأصبحت له دوائر الضغط التي تدافع عن مصالحه الحيوية. وخير مثال على ذلك أنه اكتسح في الآونة الأخيرة في غفلة عنا السور المحصن للتعليم العالي، ووجدنا أنفسنا، رغم أنفنا، أمام جامعات خاصة، بما في ذلك كليات للطب التي كان مجرد التفكير في تحقيقها لدى الكثيرين أشبه بالهلوسة. إن قدر الطفل المغربي المسكين الذي ينتمي إلى أسرة متوسطة أن يبدأ مساره الدراسي الخصوصي في الروض بمستوياته الثلاث، ويتدرج نحو التعليم الابتدائي، ويصل إلى الإعدادي، ثم ينتقل للتعليم الثانوي لتتلقفه في نهاية المطاف الجامعات الخاصة. وبقدر تقدم التلميذ في أسلاك التعليم يتضاعف المقابل المادي، وتثقل أعباء ولي أمره لتصير جحيما لا يطاق خاصة إذا ما كان أبا لعدة أبناء متقاربين في العمر. ومما يزيد في الطين بلة أن التحاق الأبناء بالتعليم الخصوصي لا يعفيهم من الدروس الخصوصية التي أصبح لها سماسرتها، والتي مست كل المواد دون استثناء. وليس غريبا أن ترى في فترة الامتحانات أستاذا متنقلا متأبطا محفظته، يمر في أوقات محددة على منازل عدة ليلقن أبناءها النجباء دروسا في مواد معينة. إن البعض منهم يبدأ مشواره الطويل في السادسة صباحا، ولا ينتهي من هذه المهمة السامية إلا في منتصف الليل. وليس عجيبا أن تلاحظ بقلب مكلوم مقاه معروفة لدى الخاص والعام تعج بأساتذة جشعين محاطين ببضعة تلاميذ يتلقون العلم مقابل مبالغ مادية متفق عليها. هذا دون الحديث عن مدارس الدعم التي صارت بقرة حلوبا تمتص آخر قطرة من دماء الآباء والأمهات. حينما نستعرض في أذهاننا هذه الصور المستقاة من الواقع المعيش نُدرك حجم الأزمة التي يعاني منها التعليم في المغرب، والتي مافتئت تتفاقم في غياب شبه تام لأية إستراتيجية حقيقية لمواجهتها. لا يمكن في الواقع أن نبخس الجهود التي بُذلت، و التي لا تزال تُبذل داخل الدوائر الحكومية من أجل التخفيف من حدة الأزمة. هذا على الرغم من أن كل المؤشرات لا تؤكد فقط عدم جدوى مثل هذه الجهود، بل تُبرز لكل من يملك ذرة من النباهة محدودية النتائج التي حققتها بالنظر إلى الأموال الطائلة التي صُرفت من أجل ذلك. وكم كنا سُذجا وبُلهاء حينما اعتقدنا خطأ أو سوء تقدير أو حسن نية أن البرنامج الاستعجالي كفيل برد الروح إلى التعليم العمومي في المغرب. لقد فوجئنا في ظل حملة تسويق وترويج هذا البرنامج بتغول مفرط للتعليم الخصوصي في مقابل تلكؤ الوزارة الوصية في ترصيد مكتسبات المدرسة العمومية المغربية التي أصبحت في نظر الكثيرين قاب قوسين أو أدنى من الانهيار التام. وأخشى أن يأتي يوم لا يستطيع أحد منا أن يرفع عقيرته عاليا ويقول ملء فيه لتحيا المدرسة العمومية كما فعل ذلك مُنتشيا المرحوم محمد العربي المساري منذ سنوات عندما نشر في العدد 1511 من جريدة المساء مقالة عنوانها: لتحيا المدرسة العمومية. فما الحل إذا؟ أين هي مكامن الخلل؟ إن إحياء المدرسة العمومية لا يقتضي أبدا القضاء على التعليم الخصوصي، ولا حتى التقليص من انتشاره على المستوى الوطني. غير أنه من واجب الوزارة الوصية ألا تتركه يعيث في الأرض فسادا، وأن تجعله شريكا حقيقيا في تشغيل المعطلين، وأن تحد قانونيا، وبشكل صارم لا هوادة فيه، من نزيف استقدام أساتذة التعليم العمومي. أما المدرسة العمومية فتحتاج إلى إعادة تأهيل. ومن المؤسف حقا أن ما تحقق على مستوى البنيات التحتية في الخمسين سنة الأخيرة لا يرقى إلى المستوى المطلوب، وكأن قطار التعليم في المغرب تعطل و لا أمل في إصلاحه. وإذا ما كُتب لأحد منا أن يزور الآن المدرسة التي تعلم فيها منذ عشرين أو ثلاثين سنة فلن يلحظ أي تغيير حقيقي. بل قد يُصدم أحيانا حينما يكتشف صدفة أن بعض المعدات الديداكتيكية في بعض المواد العلمية قد أصابها الصدأ، وتم الاستغناء عنها نهائيا دون التفكير في تعويضها بمعدات أحدث. إن للفضاء أهميته في العملية التعليمية التعلمية. أما الأستاذ، الحلقة الأضعف، المهووس حتى النخاع بتعليم أبنائه قي المدارس الخصوصية على حساب قوته اليومي، فهو يتأرجح بين حالتين اثنتين. أستاذ يقاوم بكل ما أوتي من قوة من أجل تبليغ رسالته التربوية النبيلة في ظروف لا يعلمها إلا الله والمقربين منه. وأستاذ غير مبال وجشع يجعل من حصصه في مهنة التدريس التي يزاولها في قطاع التعليم العمومي استراحة محارب. وقد اعتبرت قصدا الأستاذ الحلقة الأضعف لأن قيمته الاعتبارية في المجتمع المغربي تدنت كثيرا إلى درجة أن صورته صارت موضوعا أثيرا للاستهزاء، والنكت السخيفة والسمجة. وبالإضافة إلى ذلك تُبالغ الوزارة الوصية في التقليل من قيمته حينما تُغيبه بقصد أو بغير قصد في كل برامجها الإصلاحية الفاشلة. ومع تنامي واستفحال العنف في الحياة المدرسية بدأت تصلنا أخبارا غير سارة لأساتذة كانوا في قلب الحجرات الدراسية ضحية مباشرة لتعنيف تلامذتهم لهم. فهل هناك ذل أكبر من أن تكون ضحية تلميذ تجاهد من أجل تعليمه؟ وهل هناك جرح أكثر إيلاما على النفس والجسد من أن يكون التلميذ هو الجاني والأستاذ هو الضحية؟ أين نحن من قُم للمعلم وفيه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا؟ من المسؤول عن هذا السلوك المشين؟ أهو ولي أمر التلميذ أو هو المجتمع الذي أضاع الكثير من قيمه الإنسانية أو هي المدرسة التي أصبحت غير قادرة إطلاقا على تأمين محيطها؟ لكن تبقى للوزارة الوصية في جميع الحالات مسؤوليتها الكاملة في الحفاظ على هيبة المدرسة، وبدون هذه الهيبة التي افتقدناها، سيكون فضاء المدرسة العمومية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وكرا لكل أشكال الانحراف التي تضر بما تبقى من قيمننا المغربية الأصيلة. وإذا ما انتقلنا إلى ما يُلقن في المدارس المغربية العامة منها والخاصة فإن أول ملاحظة تثير انتباه المراقب هو كثرتها. ولاشك في أن الكثيرين منا قد يشفق على تلميذ غض العود يضع على ظهره ثقلا لا يقوى على حمله، فيترنح ذات اليمين وذات الشمال. ومصدر هذه الكثرة آت من التجزئة المقيتة التي يعرفها النظام التعليمي في المغرب، ومن سوء تدبيرنا لموضوع التعدد اللغوي. و لا أستبعد أن يكون للتعريب الذي نهجه المغرب في عز القومية العربية المستوردة من الشرق دور ما في الأزمة التي يعاني منها التعليم الآن. فمن المضحك المبكي أن يُفرض التعريب على التعليم المغربي في كل أسلاكه التعليمية ليتوقف نهائيا بعد حصول التلميذ على شهادة الباكالوريا. فقد آن الوقت لنختار نهائيا أي طريق نسلك. هل نسلك طريق التعريب الشامل إرضاء وتوددا لأشقائنا العرب. مع العلم أن سوريا وحدها هي التي شقت هذا الطريق الوعر. هل نعود دون عُقد إلى تدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية معززين من حضور اللغة العربية مثلما كان الأمر في الماضي، وذلك مسايرة لركب الحضارة الغربية المتقدمة. قد يعترض معترض، ويقول متبجحا: لماذا لا تكون هناك دعوة إلى ضرورة تدريس المواد العلمية باللغة الإنجليزية؟ وكأني بهذا المعترض يقول ذلك نكاية باللغة الفرنسية التي يعدها في لاوعيه الجمعي من مخلفات الاستعمار الفرنسي. ويعرف القاصي والداني أن اللغة الفرنسية مستتبة في النظام التعليمي بالمغرب، وسيكون من الصعب إلغاؤها بجرة قلم لمجرد أنها تنافس في نظر البعض اللغة العربية في عقر دارها. وعقر الدار نفسه الذي يستخدمه دعاة التعريب للذود عن اللغة العربية تعبير لا يستسيغه المنافحون عن اللغة الأمازيغية. ولهم الحق في ذلك لأن المغرب يتسع للجميع. ومن الأجدر أن نرسخ التعدد اللغوي في المغرب. فبعد إقرار اللغة الأمازيغية لغة رسمية إلى جانب العربية ليس هناك أي مجال للعودة للوراء. غير أن دعم حضور هاتين اللغتين الرسميتين في التعليم العمومي والفضاء العام لا ينبغي أن يكون على حساب باقي اللغات الأجنبية و لاسيما الفرنسية والإسبانية والإنجليزية. ويتعين علينا في قضايا التعليم أن نضع دوما نًصب أعيننا مصلحة أبنائنا أولا وأخيرا، وأن لا نراهن بمستقبلهم من أجل خدمة إيديولوجية معينة. لهذا من الحكمة أن تكون الوزارة الوصية على التعليم وزارة سيادية لا تخضع لتقلبات الأحزاب، ولأهواء الحكومات المتعاقبة. فأهم شيء في قضايا الإصلاح هو الاستمرارية، وليس التوقف في وسط الطريق، والبدء من نقطة الصفر مع تشكيل كل حكومة جديدة تتنكر للخطوات التي قٌطعت، و تشرع من جديد في الدعاية لإصلاح آخر. وإذا ما عزمت الدولة حقا على تأهيل المدرسة العمومية في ظل كل هذه التحولات، فأول ما يجب أن تقوم به هو رد الاعتبار للمدرس ماديا ومعنويا، ومحاسبته بعد ذلك على أية ساعة غير قانونية أنفقها ظلما وعدوانا في مدارس التعليم الخصوصي، إشراكه عمليا في تأليف الكتب المدرسية وذلك حتى لا يستفيد من ريعها المالي حفنة من المقربين من ذوي القرار. والإنصات إلى هموم وهواجس المدرس. وما أكثرها. كما أنه من الضروري أن نجتهد جميعا في البحث عن مكامن الخلل في نظامنا التعليمي. فكيف يُعقل أن يتابع التلميذ دروسا في أرقى المدارس الخصوصية، ويكون مع ذلك ملزما بالدخول في دوامة الساعات الإضافية؟ كيف نفسر تعثر الكثير من تلامذتنا في المدارس العليا الأوروبية على الرغم من حصول البعض منهم على أعلى النقط؟ ويعرف الكثيرون أن خريجي المدرسة العمومية كانوا حتى حدود الثمانينيات من القرن الماضي مفخرة للمغرب في الجامعات الأوروبية. أي علة لحقت جسم التعليم في المغرب، وأصابته في المقتل؟ ما الذي وقع لكي يصبح التخصص في الآداب والعلوم الإنسانية سُبة ما بعدها سبة؟ حينما نفلح في الإجابة عن بعض هذه الأسئلة المؤرقة سنكون قد بدأنا فعلا في وضع أرجلنا على الطريق المؤدي إلى بر الأمان. في انتظار أن تسترجع المدرسة العمومية مجدها الضائع، وفي انتظار أن نجعل من التعليم ورشا يحظى بالأولوية في برامجنا الإصلاحية سنهمس في آذان مديري ومالكي المدارس الخاصة، ومدرسي الساعات الإضافية: رفقا بجيوب الآباء والأمهات أو سنُعلن أمام الملء (بعيدا عن أنظار النقابات) بضرورة أن تتحمل الوزارة الوصية في مستقبل الأيام قسطا من أعباء الأب (أو الأم) في تدريس أبنائه(ا) لأنه من غير المستبعد أن نسمع في يوم من الأيام، ومع ارتفاع نفقات التدريس وتكاليف الساعات الإضافية، إشهار بضعة أُسر حالة إفلاس. نجانا الله وإياكم من كل مكروه وكل سنة دراسية وأنتم بألف خير. * كلية الآداب والعلوم الإنسانية، سايس، فاس