تشكل الانتخابات آلية لتنزيل الديمقراطية التمثيلية داخل الأنظمة السياسية، وميكانيزما تقنيا لإعطاء هذا المفهوم السياسي بعدا ماديا، تطبيقيا وحسا تجريبيا. هي محطة أساسية لصناعة الخريطة السياسية، لاقتسام السلطة، لدوران ولتجديد النخب التي ستتحمل مقاليد سلطة التسيير. في الانتخابات الجماعية الرهانات محلية وجهوية، أما في الانتخابات البرلمانية فالرهان وطني وأصوات الناخبين تأخذ طابعا سياسيا تتحدد به الأغلبية والمعارضة. الانتخابات محطة تستأثر باهتمام المتتبع للشأن السياسي، وفرصة للباحثين في مجال علم الاجتماع السياسي، من اجل دراسة وفهم ظاهرة العزوف وتفسير دوافع التصويت العقابي، ومختلف المواقف المصاحبة للمزاجية التي يسلكها الناخب بمفرده داخل المعزل، وتخلق دينامكية تفتح منابر النقاش العمومي. في ظل انتشار ثقافة استطلاعات الرأي، تتعدد زوايا القراءة من الوقوف على أنماط التصويت، إلى رصد لمحدداتها القانونية والتشريعية، وللزوايا المحيطة بعملية الانتخابات ككل مع مختلف الأطراف المتدخلة و المتداخلة فيها، إلى ظواهر الترحال و أشكال الحملات وتأثيرها في تشخيص معالم السلوك الانتخابي الذي ينبئ بنوايا التصويت لدى الناخبين، ومن ثم بالنتائج المحتملة والتي تتفاعل فيها عدة مكونات. شهد المجتمع المغربي أول انتخابات منذ بداية الستينيات من القرن الماضي. مسار كون فيه المجتمع المغربي تراكما وتصورا حول انتظارات وتطلعات الشارع وحول ممارسات الفاعل السياسي. من خلال المقاربة الميدانية التي اعتمدتها عدة أبحاث، فان جغرافيا المغرب، ذات أغلبية قروية تخضع فيها العملية الانتخابية إلى مؤثرات المؤسسات التقليدية التي تتحكم في مجرياتها على نحو عملي معطى الانتماء القبلي. فالبدويون هم أكثر الناخبين مشاركة في الانتخابات مستندين في ذلك على معيار العلاقات التي تربطهم بالمرشح الذي يكون إما ابن العم أو الدوار أو القبيلة. كما تؤثر في عملية التصويت والانتخاب بصفة عامة، في المجال الحضري على نحو عملي سلطة الأعيان. أي أن المال لا زال محددا رئيسيا للسلوك الانتخابي بالمغرب وعاملا أساسيا في النتائج. أولا باعتبار أن الانتخابات مكلفة ماديا، رغم أن هناك سقفا ماليا محددا مسموح بصرفه من طرف المرشحين. ثانيا باعتبار المال سلوكاً سياسيا يتعامل من خلاله المصوت، بمنطق العلاقة النفعية والتي تتحكم في اختيار الناخب، أكثر مما يعبر من خلاله عن أرائه وقناعاته السياسية ببرنامج الحزب وبالشخص الذي يراه مناسبا، لتحمل مسؤولية تسير شأنه المحلي. فالانتخابات تتطلب لوجيستيكيا، مصاريف وإمكانات، التي غالبا ما لا تتوفر عليها كل الأطر. لأن الفاعل السياسي والمناضل الحقيقي، لا يحمل في الغالب إلا فكره ولا يملك غير التزامه ونضاله وإيمانه بمبادئ الحزب. في مقابل ذلك يجد أمامه آلة انتخابية، خبيرة بطرق الإكتساح، يعجز على مواجهتها ويترك لها الساحة فارغة. في إطار غياب الديموقراطية في الحقل الحزبي، ورفض الحكومة لحالات التنافي، هناك وزراء، ثم التشريع على مقاص تطلعاتهم خوفا من العطالة السياسية، هم اليوم مرشحون للانتخابات، ولا توقف مهامهم خلال فترة الحملة، لذلك يستغلون نفوذهم وانجازات وزارتهم بالمال العام في حملتهم الانتخابية، فتكون بذلك الحملة غير متكافئة بين وزير آمر بالصرف، له موقع في السلطة التنفيذية، واختصاصات واسعة، و له يد على لوجستيكية الدولة، وبين مناضل ليس في رصيده إلا تاريخ وأفكار وبرنامج حزبه. منطق المنفعة المتبادلة بين المرشح والناخب حاضر بقوة، وذلك راجع إلى هشاشة الوضع الاقتصادي والثقافي، حيث يعمل جل المرشحين إلى تقديم خدمات للأحياء و للبيوت التي تتوفر على خزان انتخابي كبير، مثل تقديم الوعود بتوظيف العاطلين. أي أن خصائص المجال الجغرافي والبنية الثقافية، ومستوى وعي طبقات المجتمع تتحكم في مواقف الساكنة من التصويت. مواقف تتباين بين مؤيد ومعارض. هذا الأخير ينخرط جزء منه في صفوف العازف الذي يرفض شراء الذمم. خاصة في صفوف نخبة من الشباب الذين يكفرون بعملية الانتخابات، مستندين في ذلك على هيمنة محترفي الانتخابات، في وقت ترفض فيه الأحزاب المغامرة بتزكية وجوه واعدة، أمام من يعتبرون آلة تحصد الأصوات و تكتسح "بخبرتها" السوق الانتخابية. العزوف الذي يسلكه البعض، كموقف من الممارسة السياسية ككل، مرده إلى الأحزاب التي تخلى جزء منها عن دورها التأطيري، وعن ظاهرة الترحال التي ميعت المشهد السياسي وأفقدته المصداقية، وذلك بتركيز الأحزاب في سباقها المحموم على تحقيق اكتساح للنتائج، لدرجة تتحول معها الانتخابات إلى موسم تبدل فيها الألوان، ويمكن أن يتحول فيها المرشح من اشتراكي إلى ليبرالي أو من شيوعي إلى إسلامي محافظ مثلا، وتساهم من ثم في تعميق أزمة الحقل الحزبي و إفلاس عمله، لكونه يضرب في الصميم الإلتزام الأخلاقي أمام الرأي العام، ويعبر عن هشاشة القناعات والمرجعيات. لذلك يلاحظ المتتبع لما يجري في الحياة الانتخابية عقب التصويت على أعضاء مكاتب الغرف، وما سيأتي في مجالس الجماعات والجهات، من انكماش للمرجعيات الفكرية، بل ذوبان للصراعات والخلافات الأيديولوجية والتجادبات التي من المفروض أن يتسم بها الحقل السياسي، وبزوغ لظاهرة التوافقات القبلية والبعدية تتحكم فيها الشخصنة والمصالح الضيقة، ولو على حساب تغييب انضباط الأحزاب لمواقعها في المعارضة، أو بضرب بعرض الحائط للميثاق الذي يجمع الأغلبية. انطلاقا من هشاشة الهوية السياسية، التي تؤشر على هشاشة البرامج وتبصمها بالمستنسخة، يعتبر البعض أن لا جدوى من الانتخابات، لكونها، بالنسبة لهم، لا تعدو أن تكون تكرارا لنفس السيناريو، وعودة لنفس الوجوه، وموسما يفتح باب اللغط السياسوي ويشغل الرأي العام عن قضايا الوطن وهموم المواطن الحقيقية. رغم التحولات التي تعرفها البنية الديمغرافية التي يشهدها المجتمع المغربي، فإن ارتفاع معدلات الأمية لا زالت تفرض هيمنة النخب التقليدية، واستمرارها في المشهد الانتخابي، خاصة مع رفض مقترح تحديد مستوى دراسي للمترشح، وتجعل من تواجدها في تسيير المجالس، أمرأ مقبولا لا يشكل نشازا. يلعب دورا مهما في ذلك انتماءهم إلى الحي وإلى أسر ذات جاه وشهرة، وكونهم من أبناء المنطقة والعارفين بمشاكلها وتأكيدهم أنه لا تحركهم المحفزات المادية وأنهم مستعدون للتضحية في سبيلها. في ذلك هناك فئة تستغل العوز، وغالبية توظف المناسبات الدينية للقاء بالناخبين ومباركة العيد لهم وتمتين الروابط والعلاقات معهم، وكذلك المناسبات الاجتماعية كالأفراح، والجنائز، أو فك منازعات إدارية أو قضائية أو تنظيم رحلات استجمامية أو قوافل طبية، تولد الإحساس بالجميل وتعتبر مدخلا لتوطيد أواصر العلاقات مع المواطنين. خاصة في ظل مجتمع محافظ تكافلي، تلعب فيه العلاقات الإنسانية والأسرية دورا محوريا يبني النظام الاجتماعي التقليدي. في فترة الحملة الانتخابية وخصوصا يوم الاقتراع، يبرز دور العلاقات المبنية مسبقا في فرض الاختيار، وبالتالي الحصول المضمون على أصوات أفراد الأسرة أو العائلة بل أحيانا إجماع الحي بكامله. بالنسبة للباحثين في مجال اتجاهات التصويت، يمكن توقعها من خلال سيطرة بعض الأحزاب في بعض المناطق الجغرافية. فالإستعداد السياسي لدى الناخب يتحكم فيه وضعه الاجتماعي، الاقتصادي، مستواه التعليمي، قناعته الدينية ووسطه الطبقي. العامل النفسي أيضا محدد لاختيارات الناخب. مثلا التربية في بعض مؤسسات التنشئة السياسية يمكن أن تحقق اكتساحا لحزب معين، لكن التربية في مناخ ديمقراطي وفي بيئة سياسية وثقافية معينة لا تعني بالضرورة الحصول على نفس السلوكيات السياسية الانتخابية للأفراد. هذا يعني أن هذا المرتكز غير قابل للقياس، لأنه لا يعطينا ضمانات دقيقة حول مدى تأثيره على النتائج. بعد المرور من عملية ذهنية، تركز على الجوانب الأكثر سلبية من المعايير المدرجة في المقارنة بين المرشحين. التصويت الأبيض هو تعبير عن إلغاء أو تأجيل لوضع الثقة، انطلاقا من رؤيا مبنية، بعد عملية المقارنة التفاضلية بين المرشحين، على غياب المرشح النموذجي الذي لا يوجد سوى في التصور الذهني، الذي يقترب من الصورة المثالية، تحث تأثير قناعات وميولات معينة. إن تنظيم أول انتخابات جماعية، في ظل دستور جديد، هو حدث سياسي بامتياز، وعملية دقيقة تجند لها إمكانيات وطاقات وموارد عرفت عبر التاريخ تطورا كبيرا. لكن مقابل ذلك الممارسات لم تعرف من المتغيرات المؤثرة في السلوك الانتخابي الذي ظل متأثرا بطبيعة تقسيم الدوائر الإنتخابية. ولأن لكل حزب إستراتيجيته في خوض غمار المعركة الانتخابية، لاستمالة الناخبين، لكسب أكبر عدد من الأصوات والمقاعد، فيهمنا تتبعها لأنها تفرز لنا أعيانا جدد، أصبحوا أغنياء بعد مراكمتهم للمسؤوليات الانتخابية، هذا يعني من الأكيد أننا لم نقطع نهائيا بعد مع بعض الأساليب غير المشروعة والملتوية للحصول عليها. لكن بخلاف ذلك، نهتم كباحثين في الحقل السياسي وكممارسين، بتتبع منهجية الحكومة في فرض سيادة القانون وضمان انتخابات حرة ونزيهة تلتزم فيها الإدارة بالحياد. والمغرب يعيش أطوار الإنتخابات الجماعية السابعة من نوعها منذ1963 نؤكد على أن الذهاب إلى صناديق الإقتراع هو أداة للتعبير عن وعي سياسي بقيم المواطنة، والمشاركة هي تفويض في صناعة القرار، وفق المنظور الدستوري الذي يحدد موقع المؤسسات المنتخبة داخل النظام السياسي المغربي. نظرا لأهمية اللحظة التاريخية، ننتظر أن تؤسس لثقافة و لحكامة انتخابية جديدة وجادة تضع النخبة المناسبة في المكان المناسب وتحول عملية الانتخابات إلى عنصر منظم للحياة السياسية والسعي إلى القطيعة مع كل ماله صلة بالفساد الانتخابي لأن شراء الدمم هو ضرب للديمقراطية. أي الاحتكام على أساس البرامج، ورزمانة الإجراءات والمشاريع المجتمعية، وفق الأيديولوجيات والتوجهات والتنافس الحر والشريف للمؤسسات الحزبية وللأشخاص، نظرا لأهمية هذا الفعل في المسار الديمقراطي الذي يسلكه المغرب. السلوك الانتخابي هو ثقافة كفيلة بتنزيل مفهوم الديمقراطية التمثيلية، تعيد نحث مفهوم جديد للمواطنة، تحترم الحقوق المشتركة، وتراعي الواجبات وتحترم المؤسسات والعلاقة بين المواطن و الدولة. * باحثة في علم الاجتماع السياسي.