الآن وقد أصبح المغرب، بدليل الأمر الواقع، وبشهادة المنظمات الدولية والإقليمية والمتتبعين السياسيين والحقوقيين، أرض استقرار بامتياز للمهاجرين الأفارقة المنحدرين من بلدان جنوب الصحراء، وللهاربين من ويلات حرب التخريب والتقتيل ببلاد الشام، وحتى لفئة من الأجانب القادمين من بعض الدول الآسيوية النامية، بعد أن كان أرض عبور، ومحطة استراحة اضطرارية، قبل ركوب أمواج الهجرة السرية نحو "جنة" أوروبا، عبر بوابة الشريط الساحلي الممتد من سبتة ومليلية إلى طنجة .. الآن وقد انتصرت المقاربة الحقوقية والإنسانية في معالجة ظواهر الهجرة غير الشرعية وتدفق اللاجئين الهاربين من النزاعات المسلحة، والأزمات الاقتصادية والمالية، واستبداد الأنظمة السياسية المحلية القائمة، بإصدار التقرير التاريخي للمجلس الوطني لحقوق الإنسان أواخر سنة 2013 الذي تحدث عن واقع وضعية المهاجرين بالمغرب، وعن مبادرة ثورية في اعتماد سياسة جديدة للهجرة واللجوء، قوامها الفصل الثلاثون من دستور 2011 وكل الفصول المعنية بحقوق الإنسان، والمواثيق والصكوك الدولية المصادق عليها وطنيا، والقاعدة الحقوقية كما هي متعارف عليها عالميا، والتي جعلت ملك البلاد، في أيام قليلة بعد توصله بهذا التقرير الاستثنائي، يعلن عن خطة تسوية أوضاع آلاف المهاجرين غير الشرعيين المستقرين بالبلد، ومنحهم تدريجيا بطاقات اللجوء أو بطاقات الإقامة، وفرص الإدماج السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وخاصة للمتوفرين على الشروط الأساسية للإقامة الدائمة أو المؤقتة، مع استثناء النساء والقاصرين وذوي الأمراض المزمنة من كلية أو جزئية هذه الشروط.. الآن وقد انفتح المغرب على واجهته الإفريقية، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وعسكريا ودينيا وإنسانيا، بعد انسحاب سنة 1984 المرتبط بقضية وحدته الترابية، وقيادته الآنية لمشروع التعاون جنوب-جنوب على أساس إلغاء قاعدة المساعدة، وتعويضها بقاعدة النفع والربح المشترك، مع تحمّل ارتفاع وثيرة تدفق أعداد المهاجرين غير الشرعيين المنحدرين من دول إفريقيا جنوب الصحراء، وخاصة من الدول الشريكة التي أبرم معها المغرب أكثر من 500 اتفاقية شراكة وتعاون في المجالات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية والتنموية.. الآن وقد أمسى المغرب منذ سنوات يقوم مقام جنوب أوروبا في حماية حدودها البحرية عبر منع تدفق مزيد من المهاجرين غير النظاميين مقابل مساندة قضاياه الحيوية، ودعمه ماديا ولوجستيكيا وسياسيا في مواجهة هذا التدفق، وغض الطرف عما قد يشوب هذه العمليات القذرة من إفراط في استعمال القوة، أو انتهاج لسلوكات عنصرية، رغم أن هذا الأمر المزعج والمحرج، والذي لا توازيه، بنفس القدر، أعداد عمليات الترحيل القصري إلى المواطن الأصلية، أو على الأقل المناطق الحدودية التي تسلّل منها المعنيون، قد ساهم بشكل أو بآخر في تحويل المغرب من أرض عبور إلى أرض استقرار، وتحملّه لوحده في الغالب فاتورة الإقامة الجبرية لهذه الأعداد المتدفقة على هذا البلد، محدود الثروات والإمكانيات، بحكم موقعه الاستراتيجي وقربه من ضفة "الجنة الموعودة".. الآن وقد أصبحت العلاقات الدولية، والحفاظ على المصالح القومية الحيوية، وحسن الاستقبال والوفادة بالهيئات الأممية والمنظمات الحكومية وغير الحكومية، ونيل شرف التحالف في الحرب الدولية على الإرهاب والجماعات المتطرفة ولو تحت مظلة وقيادة الشيطان، والتناغم الاختياري أو الإجباري مع سياسة ومزاج كل أو بعض الدول القوية التي تمتلك حق الفيتو، رهينة بمدى إقرار مسألة حقوق الإنسان بصيغتها الدولية على المستوى الوطني، وفتح الأبواب على مصراعيها في وجه الحريات الفردية والجماعية، والحق في المعتقد والانتماء والتجول واللجوء، مع ما يتبع ذلك من احترام الوصفات الأممية لخلطة ديمقراطية مؤسسات الشأن العام والمحلي، ورفع سوط انتهاك حقوق الإنسان وتهم العنصرية والتمييز، وحتى التهديد بصك ارتكاب جرائم ضد الإنسانية والمتابعة القانونية والسياسية في المحافل والمحاكم الدولية، ولو كان الأمر لا يتعدى مسألة الحق الأمني الداخلي في حماية الحدود الترابية من المتسللين غير الشرعيين من أفواج الهجرة السرية.. الآن وقد ارتفعت أعداد العصابات الإجرامية التي تتاجر في فقر وبؤس البشر، وتغتني من وراء أعمالها غير المشروعة بتوسيع أسهم وأرقام معاملات سوق الهجرة السرية، حتى إن وزارة الداخلية المغربية قد أعلنت في إحدى بياناتها أنها تمكنت من تفكيك حوالي 105 عصابة تتاجر في البشر برسم سنة 2014 لوحدها، مع ما يحمله هذا الرقم الكبير المفكّك، والأرقام الأخرى التي ما زالت بعيدة عن أعين مصالح وزارة الداخلية، من تخمين حول أفواج المهاجرين الذين تمكّنت هذه العصابات، قبل وخلال وبعد سنة 2014، من نقلها وتكديسها وإخفائها داخل المجال الترابي المغربي على الأقل.. الآن وقد تحرّرت الحكومة المغربية من عقدة وكابوس شبح المهاجر السري المقيم بالبلد بلا هوية ولا بطاقة إقامة ولا عنوان ولا حتى اسم، وأصبحت بفعل صعقة تقرير صادم لمؤسسة دستورية وطنية محايدة، ودعوة ملكية استثنائية جريئة وموازية، وتلميحات غير بريئة وعروض مقايضات دولية، تضخ إكسير الحياة فجأة في وزارة بروتوكولية مزدادة في مطلع سنة 2012، تسمّى وزارة شؤون الهجرة إلى جانب شؤون المغاربة المقيمين بالخارج، وتغدق عليها أموالا خارج الاعتماد السنوي المعروف، للمصالحة مع عينة من المجتمع المدني المعني بشؤون حقوق الإنسان والهجرة والإدماج، وتدعو بالمقابل وزاراتها ومؤسساتها في الداخلية والمالية والتربية الوطنية والتكوين المهني والصحة والشباب والرياضة والتضامن والتنمية الاجتماعية إلى التعبئة القصوى، في أفق تسوية أوضاع المهاجرين غير الشرعيين الذين تقول المصادر الرسمية إن أعدادهم تتراوح ما بين 30 و40 ألف مهاجر، ولو بشروط ثقيلة ما زالت موضوع نقاش رأي عام، والتسريع في منح بطاقات اللجوء وبطاقات الإقامة لدفعات المستوفين للشروط المطلوبة، أمام عدسات الكاميرات والصحافة الوطنية والدولية، والبعثات الدبلوماسية المعتمدة، والنسيج الجمعوي، برئاسة التركيبة الوزارية المختصة، والسهر اللاحق على العمل الحكومي المشترك، على قاعدة الحقوق والواجبات التي يخضع لها كل المغاربة، في أفق الإدماج السوسيو اقتصادي والثقافي للمعنيين، وإطلاق عمليات التأهيل النفسي والاجتماعي والمهني، وتيسير ظروف الاستفادة من فرص المساعدة القانونية والإنسانية والعيش الكريم، والوصول المباشر إلى الخدمات العمومية في التمدرس والتكوين والتطبيب والإسكان والتشغيل وفق الشروط القانونية والإدارية المعمول بها، وعلى قاعدة القدرة والفاعلية الفردية في الانخراط في العمل والنشاط، والمساهمة في إنعاش الاقتصاد، وبناء المجتمع، والمحافظة على أمنه وأمانه.. الآن وقد غدت نسبة المهاجرين النظاميين وغير النظاميين، من دول الساحل وبلدان جنوب الصحراء، وبعض البلدان العربية والآسيوية، وحتى من فرنسا وإسبانيا وأوروبا الشرقية، تصل إلى عتبة 0.50 في المائة من ساكنة المغرب، وصار المهاجرون السريون، الذين اختاروا المغرب أرضا للاستقرار بعد أن ضاقت بهم سبل التسلّل إلى جنوب أوروبا، يعملون بكثرة في القطاع المهيكل وغير المهيكل، وينتشرون بشكل لافت وجماعي بمدن طنجة والحسيمة والناظور القريبة من مدينتي سبتة ومليلية، وكذا بمدن وجدة والرباط والدار البيضاء وغيرها من المدن الكبيرة والمتوسطة، ويتجولون في الشوارع والطرقات دون توجّس أو تخوّف من ملاحقة رجال الأمن الذين يبدو أن التعليمات الفوقية صدرت في شأن التريث في تعقّبهم أو التثبت من هوياتهم، في انتظار الإفراغ من عمليات التسوية الإدارية الإستثنائية الجارية، ويفترشون الساحات العمومية، وملتقيات الطرق، والمساحات الخضراء أو المبلّطة، وواجهات المؤسسات والأسواق والمساجد، يبيعون الهواتف الذكية وغير الذكية، والأحذية المحلية والمستوردة، والسلع الإفريقية الخالصة أو المغشوشة، بل منهم، فرادى أو جماعات، بأطفال أو رضّع أو أشباه نساء، يحتلّون ويوزعون بينهم جنبات الإشارات الضوئية للتسول، واستجداء عطف وأريحية المرور، تارة باسم الدين والعقيدة المشتركة، وتارة باسم الجوع أو الضعف أو المرض.. الآن وقد أصبحت ظاهرة الهجرة إلى المغرب، التي يتداخل فيها العامل السياسي بالاقتصادي بالاجتماعي بالحقوقي، بادية للعيان، وأمرا واقعا يضاف إلى حزمة مشاكل وصعوبات المغرب السياسية والاقتصادية والاجتماعية الراهنة في مواجهة قضايا التغذية والأمن والبطالة والقدرة الشرائية... هل يحق لنا الحديث بصراحة عن الظاهرة المتحكّم فيها كما هو الأمر بالنسبة للشأن الديني، والسلم الاجتماعي، والاستقطاب الإرهابي وغيرها من المواضيع الحسّاسة التي توفّق المغرب فعلا في حسن إدارتها السياسية إلى غاية اليوم ؟ وهل الشروط الموضوعة لتسوية ملفات آلاف المهاجرين المقيمين بالمغرب بطريقة غير شرعية، من حيث مدة الإقامة، وعقود العمل وغيرها كافية لتقنين ومحاصرة هذه الظاهرة السوسيو سياسية الجديدة ؟ الأكيد أن المغرب في موقف تاريخي لا يحسد عليه، فهو من جهة يدافع باستماتة، منذ سبعينات القرن الماضي إلى غاية اليوم، على وحدته الترابية المقدسة من جهة الجنوب، في عالم سياسي منافق لا يعترف إلا بالمصالح الخاصة، ومن جهة ثانية، وبسبب موقعه الاستراتيجي الرابط بين قارتين، ووضعيتين سياسيتين واقتصاديتين مختلفتين ومتناقضتين، إلى جانب الاقتطاع التاريخي الظالم لجزء من مدن شماله، وتشويش جاره الشرقي العربي، يقوم بمهمة الدركي في حماية حدود جيرانه، ليتحوّل في الأخير إلى فاعل الخير، والمتدخل الوسيط الذي يتلقّى الضربات واللكمات الخاطئة أو المنحرفة ؛ وكلما أعلن عن استقلاليته في اتخاذ قرار سيادي في بناء ميناء المتوسط، أو إبرام عقود الصيد البحري، أو التنقيب على الثروات الطبيعية في الشمال أو الجنوب، أو حماية الحدود وصدّ محاولات التسلّل والإغراق غير الشرعي، أو الترحيل القصري نحو الشرق أو الجنوب، أو الانفتاح السياسي والاقتصادي على عمق افريقيا المحاصرة أو سوق روسيا المغضوب عليها، أو طرد الصحافيين والسياسيين الأجانب غير المرغوب فيهم، أو ضمان الأمن وحماية الممتلكات بأقاليم الجنوب... كلما ارتفعت ورقة حقوق الإنسان في وجه هذا البلد، وبدأ التلويح بإطالة عمر تسوية قضاياه الاستراتيجية الحيوية، ومصالحه الداخلية والخارجية ؛ غير أن قدرته في التكيّف مع هذه التوازنات والإكراهات الدولية، والتحالف المصلحي مع بعض دول الفيتو التي ضمن لها مرغما بعض الامتيازات السياسية والعسكرية والاقتصادية الخاصة، وإقراره لدستور ما بعد ثورات الربيع العربي الذي أشاد فيه بمبدأ حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا، وإطلاقه، من طرف واحد، لخطة جريئة في تسوية أوضاع المهاجرين التي لقيت استحسانا وإشادة من كافة الأبواق الصادقة والكاذبة، جعلته يطمئن، بحسابات وضمانات شركائه في أوروبا وأمريكا والمنتظم الدولي، إلى أن ظاهرة الهجرة السرية، إلى حدّ ما، مازالت ظاهرة متحكّم فيها، وأن شروط الإقامة الشرعية المرتبطة بمدة خمس سنوات سابقة، وعقود عمل متواصلة لا تقلّ عن سنتين، وزواج شرعي من مواطنين مغاربة وغيرها، ستساهم لا محالة في الحفاظ على موازين القوى الداخلية والخارجية مؤقتا، إلى حين صدور قرارات ترحيل كل المقيمين غير الشرعيين في الأوقات السياسية المناسبة، علما أن أعداد المهاجرين المعنيين، وخاصة منهم السينغاليين والسوريين والنيجيريين والإفواريين والماليين والغينيين، وخريطة انتشارهم وتنقّلهم، ومواقع إقامتهم أو مرورهم، وأماكن أنشطتهم وتجمّعهم، وحتى أفكارهم وخططهم وأحلامهم، هي تحت أنظار وعيون كل مصالح وزارة الداخلية، بدءا من مقدم الحي إلى الوزير المعني، ومرورا بالمؤسسات الأمنية والاستخباراتية، وهذا في نظرنا أمر مبالغ فيه، وعدم تقدير لعواقب ظواهر اجتماعية ذات تركيبة دولية تأخذ حجم وشكل وأثر القنابل الانشطارية التي يصعب، في مرحلة لاحقة أو متأخرة، إبطال مفعولها العمودي والأفقي، مع تأكيدنا إلى أن هذا الموقف الاحترازي المعارض لا يعني بالضرورة أننا إنسانيا وحقوقيا ضد هذه الظاهرة، لأننا نحن أيضا شعب هجرة، وحوالي خمسة ملايين من أبنائنا وبناتنا وأسرنا منتشرين بالعالم بطرق أولية نظامية وغير نظامية، ولأننا مع المقاربة الحقوقية والإنسانية بالدرجة الأولى في معالجة تبعات هذه الظاهرة الدولية المنتشرة، غير أننا شعب لدينا ما يكفي من المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعيق تنميتنا البشرية، وأننا لسنا أمة رفاهية تقبل بمن يقتسم معها ثرواتها الزائدة، وأننا ما زلنا نبحث عن وعود السلم الاجتماعي إلى جانب نعمة الاستقرار السياسي، وأن قدرتنا الشرائية ما زالت رهينة برحمة الأمطار، وتقلّبات السوق الدولية، وتحويلات جاليتنا المقيمة بالخارج، وأن صور ومشاهد عجزنا الاجتماعي في التمدرس والتكوين والتطبيب والإسكان والتشغيل وكافة الخدمات العمومية الأساسية والثانوية الأخرى، تطلّبت منا تضحيات يومية جسام في أداء فاتورة إصلاح منظومتنا الضريبية، وبدء مشوار مراجعة أنظمتنا في التقاعد والمقاصة والأجور واستهلاكات الماء والكهرباء وغيرها، وهي صور تزداد ضغطا واستفحالا مع قرب وصول ساكنتنا إلى نسبة 40 مليون مواطن مغربي يجب، في عمق استراتيجية وخطة تنميتنا المستدامة، ضمان كل حقوقهم في البقاء والعيش الكريم، داخل رقعة جغرافية ثابتة وثروات طبيعية محدودة. وإننا نكاد نجزم أن خيوط ظاهرة الهجرة التي يجب ألا تحيد عن واجب الضيافة وحسن الوفادة المحددة في المكان والزمان، قد بدأت تنسلّ من بين أيدي مسؤولينا الذين لهم ثقة عمياء في أجهزة الرصد الموازية، وتأخذ أشكالا حلزونية صعبة الإمساك والمحاصرة، خاصة مع توسّع شبكة المتاجرين بالبشر وزعماء المقايضة الدولية المعروفة. وإننا نرى وجوه هذا الانفلات المرئي وغير المرئي، السريع والبطيء، المدروس من جهات معلومة وأخرى مجهولة، يتمثل أساسا في الأشكال والإشارات الخمسة التالية : 1/ اقتحام 85 شقة سكنية في ملك الغير بحي العرفان بطنجة، ومنها شقق تعود ملكيتها لمواطنين مغاربة من الجالية المقيمة بالخارج، والاستيلاء على ممتلكاتها من طرف حوالي 400 من المهاجرين المنحدرين من بلدان افريقيا جنوب الصحراء، والإعلان عن الحالة الأولى للعصيان الجماعي وضرب قاعدة الملكية الخاصة. ورغم أن السلطات المعنية قد قامت في وقت لاحق بإجلاء كافة المقتحمين، وترحيل معظمهم إلى مدن مختلفة، إلا أن فعل الاقتحام غير الشرعي، والأضرار التي لحقت بهذه الممتلكات، ومضامين شكايات ومسيرات المواطنين، ظلت إلى غاية اليوم معلّقة، وبدون جواب أو متابعة. 2/ العودة بظاهرة التسول - الاحترافي بالخصوص - إلى سنوات الوراء، وإقبار كل البرامج الحكومية والجمعوية السابقة التي كانت تعمل جاهدة على القضاء على هذه الآفة الاجتماعية، من خلال امتهان غالبية هؤلاء المهاجرين، رجالا ونساء وأطفالا، للتسول كمصدر وحيد للرزق والعيش، فاختلطت جنبات الإشارات الضوئية، والساحات الخارجية للمساجد والمؤسسات والأسواق، وأرصفة الطرق العمومية والشوارع، والسيارات والحافلات والدراجات، بأفواج من المتسولين الجدد الذين يستجدون المارة بكل الطرق البريئة والماكرة، كأن هذه البلاد المباركة قد عادت إلى أيام الجوع والتخلف والفقر المدقع. 3/ تكدّس المهاجرات والمهاجرين السريين، باختلاف أجناسهم وأنواعهم ودياناتهم ولغاتهم وعاداتهم وسلوكاتهم، وخارج أي إطار مدني أو اجتماعي أو صحي سليم، داخل أحياء هامشية أو معزولة، وبيوت مكتراة قد تضم الغرفة الواحدة فيها ما يزيد على عشرة أنفار، مع ما يتبع ذلك من ضجيج وأزبال وأوساخ ومظاهر معيشية متناقضة قد لا تناسب المجتمع الذي يقيمون فيه، وبالتالي تبدأ ماكينة الإنجاب والتوالد عقب العلاقات الجنسية الشرعية وغير الشرعية، وتبدأ أجيال جديدة منحدرة من هذه الجيوب والثقوب والمتع الجنسية العابرة، تنشأ وتترعرع في غفلة عن أجهزة الرصد التي تجاوزتها الوقائع والأرقام. 4/ أمام انغلاق أبواب الهجرة إلى أوروبا، وانسداد آفاق وفرص الشغل، واشتداد المنافسة على التسول وضعف المدخول، وحاجة الجسم المقهور إلى الأكل والشرب والنوم وأشياء أخرى، تبدأ سلوكات ردود الفعل تتمظهر على شاكلة أفعال السرقة، واعتراض سبيل المارة، والعنف، والاغتصاب، وتكوين العصابات، واقتحام ملك الغير، بالإضافة إلى النصب والاحتيال والتزوير، وهذه كلها جرائم وجنح قد تزيد من أعباء ومتاعب السلطات الأمنية، وتنغّص حياة بعض المواطنين الذين يطول عليهم مشوار المسطرة القضائية. 5/ عدم وضع خطوط حمراء على رقعة لعبة إرضاء القائمين على شؤون حقوق الإنسان بالمنتديات الدولية، والظهور دوما بمظهر التلميذ النجيب الذي يحفظ الدروس بانتظام، ويحترم الأساتذة الكبار، ويأخذ على عاتقه القيام بمبادرات إنسانية وحقوقية لا تزيد سوى في شهية أطماع المقايضين، قد تجعله يستفيق يوما على وقع الوافدين الجدد، الذين قد يطالبونه برقعة من جغرافية الوطن، وبحصة اقتصادية من الثروات القومية، وبحكم سياسي واستقلال ذاتي يعيد النظر في خريطة تاريخ وجغرافية ونظام وسيادة البلد. نعم.. وزارة شؤون الهجرة يجب أن تزول، وأن تحلّ محلها مؤسسة وطنية دستورية محايدة، تتّبع، بأمانة واحترام للقانون، شؤون الهجرة وقضايا المهاجرين، وأن يتم تنزيل الإطار القانوني للهجرة إلى المغرب بموافقة ممثلي الأمة، وأن تتم تسوية وضعية المقيمين غير الشرعيين بشروط ميسّرة دفعة واحدة محدّدة في المكان والزمان، وأن يتم ترحيل غير المستوفين للشروط المطلوبة في حدودها الدنيا إلى مواطنهم الأصلية، وأن تشرع البلاد، بحركية سياسية وسيادية حرة، في إدماج المهاجرين المقبولين في نسيج الحياة العامة، على أساس قاعدة الحق والواجب، ليس ببهرجة ملتقيات عدسات الكاميرات، وتوزيع دوريات ومذكرات الإدماج على الإدارات العمومية، بل بالوصول القانوني السلس إلى كل الخدمات العمومية، وتجاوز عقبات الإدماج على مستوى اللغة والدين والثقافة والسلوك، والحفاظ على كرامة وآدمية وهوية هذا المهاجر الذي أصبح نظاميا له نفس الحقوق وعليه نفس الواجبات، بما فيها دعوته للمشاركة السياسية في الانتخابات المحلية على الأقل، كما جاء في الدستور وفي إحدى توصيات المجلس الوطني لحقوق الإنسان، وأن يتم طي هذا الملف الشائك بعودة الروح إلى شرعية هذه الظاهرة التي تحترم قوانين البلاد، وتغدو فعلا ظاهرة متحكّم فيها، بقوة مرجعية القانون، والإطار المؤسساتي، والالتزامات الدولية، وروح التضامن الإنساني والأخلاقي، وليس بقوة الإملاءات الفوقية، والمقايضات الداخلية والخارجية.