بلغ التّشوّه العقدي والأخلاقي غايته .. ﻻ أدري في أيّ صحراء ملعونة نغرس البذور، ونرفع أكفنّا نجسة نطلب المدد ، ننشدها بساطا أخضر، تعلوه ألوان الثّمار الطّيّبة ؟ أطفالٌ لا يزالون يتحسّسون منابت شواربهم على استحياء ، يحملون أسماء اﻷنبياء ، ﻻ يتركون عمودا من الدّين والمبادئ والقيم إﻻ انهالوا عليه بكلّ ما أوتوا من قوّة الجهل والعناد .. زعما بأنّ عقولهم المتحرّرة من كلّ ضابط ، تجد سبيلها إلى الخلاص. وأنّهم نظروا إلى حقيقة الحياة الخالصة ، فوجدوها تكمن في كتب تسيلُ سفسطةً .. وفي التّلقِّي اﻷعمى عن أشخاص اتّخذوا من الشّكّ في بدهيّات العقل المنضبطِ المتّزنِ منهجا لتشويه كلّ ما هو ربّانيّ فطريّ سويّ . معذورون وربّي .. إذ كيف يُعقل أن نلومهم ، وهم ﻻ يجدون في مؤسّسات المجتمع من ألفها إلى يائها منابعَ تروي ظمأهم .. وتُسكت ثورتهم . وإن حدثَ أن وجدت ، فإنّها تفني جهودها في صراع وقائيّ مع مؤسسات اجتماعية أخرى، أبلغ منها تأثيرا وأكثرعتادا و عددا . فسؤال الطّفل والديه في مجتمعنا أسئلة تتعلق بالوجود والميتافيزيقيا والدّين والقيم – ممّا تدعوه الفطرة إليه في مرحلة نموّه - تُعدّ من الحشو الفارطِ على اللّهو و المعدة ، فاشتغالهم بجوع بطنه ولهوه يغلب اشتغالهم بجوع العقل .. ونداءِ الفلسفة ، وﻻ يُستبعد أن يرى الوالد في اﻻجابة عن تلك اﻷسئلة كسرا لوقاره وطعنا في كبريائه . فتبحثُ أسئلة الطفل هته عن مجيب عنها خلف المقاعد الدراسية .. فلا تجد ما يخمد نارها ، إمّا لعلّة في المناهج .. أو لضعف جرعة المحتوى الدّراسيّ .. أو لرتابة المعلّم واكتفائه بالتّلقين والحشو الكمّيّ للمعلومات ، ورفضه كلّ سؤال خارج المقرّر أو ضمنه، ممّا قد يسبّب له حرجا إن هو لم يحسن جوابا ، أو لم يلتزم بحدود المنهج والوقت .. أو لعجز الدّولة عن تكوين معلّمين مربّين ، والاكتفاء بالأول منهما . وبين جهل الوالدين وغياب دور المدرسة تربيةً ، يركب الطّفل سفينة بلا شراع ، مقتحما بها محيطات أخرى، يحمل معه بوصلة ﻻ يحسن استخدامها .. يبحث عن شاطئ ﻻ يعرفه !! يجلسُ خلف الشّاشات .. يتكيّف مع عالم من التّناقضات أُعِدَّ سلفًا لطمس قدرات عقله ، وزعزعة إيمانه الفطريّ ، وإخراجه عن النّسق القيميّ . فأبسط اﻷمر.. أن يرى عبرالشّاشة قناةً وطنيّة تكرّس جهودها للصق كلّ ما يمحقُ هويّته ، وتنجح في سعيها نجاحا يشهدُ له كمّ التّشوّهات الملموسة في شخصيّات كثير من الشّباب اليوم . ويقتحم شبكات التّواصل اﻻجتماعي بحثا عن نفسه .. عن الأجوبة ، فيقف عند أول عابر يلمحه ، يتربّع بين يديه ساعة .. يشرب كأس فكره .. ويُعجَب بحسن إصغائه لأسئلته .. وتفانيه في حلّها ، فيكاد الطّفل التّائه من فرحٍ به يطير، بيد أنّه يعود لسابق عهده حين تندفع أسئلة أخرى باحثة عن مسائلَ يعجز العابر عن حلّها . فينتقل الطفل من وجه لآخر .. من فكر ومنهج وخصائص شخصيّة إلى أخرى .. يبدّل الوجوه والصّفحات ، ويبحث حائرا في بطون الكتب ، إلى أن يبلغ اليأس منه تمامه . فينكر فجأة كلّ ما آمن به يوما ، ليبدأ بعدها رحلة القرصنة .. يخرب كلّ سفينة يمرّ عليها ، ويشكّك في بدهيّات الأمور فضلا عن المعقّد منها . فلا يخرج من مرحلة الطّفولة إلاّ وقد تشوّهت ملامح شخصيّته .. ليعيش بعدها رحلة الشّقاء .. بحثا عن الخلاص المجهول . فيظلّ عالقا في ظلماتٍ كان عقلُه الصّغيرُ آخرَ مَن أوصلَهُ إليها ، ظلماتٌ حدّد حجمَها ولونَها ومكانها أيدٍ كثيرة . فكلٌّ راع .. وكلٌّ عن رعيّته مسؤول . فلا تسألوا أحمد عن سبب إلحاده .. ولا خديجة عن عرّيها ، واسألوا عقولهم .. تجبكم أصواتها المبحوحة من خلف أسوار الضّياع . نسأل الله الهداية والرّشاد ..