لحظة مثيرة تفرضها (مسيرة الجمهورية) تضامنا مع ضحايا " شارلي إيبدو " وتنديدا بالهجوم الارهابي الذي تعرضت له. مثيرة ليست لأنها نجحت في تجميع حشد عريض من المتظاهرين و بنوعية سياسية وازنة يميزها حضور العشرات من التمثيليات الدولية يتقدمها رؤساء دول و حكومات ووزراء ورجال دين ورموز الأحزاب والجمعيات الحقوقية. أي أننا كنا بإزاء لحظة كرنفالية بدلالة الكرنفال السياسي الذي يفترض فيه استدعاء جوهر الانسانية أو الانية الآدمية للإحتفاء بالحرية و المدنية ونبذ الوحشية و العدوان... المفترض في ( مسيرة الجمهورية ) أن تكون لحظة احتفال بإسقاط كل الأقنعة، و الرقص على ايقاع الحقيقة بوجوه عارية بدون مساحيق، تحث على التأمل الموضوعي في سرية " الماجرى " و الدعوة إلى استبدال "الباراديغم" الذي يشتغل فيه الغرب و هو يستفز الشعوب بتجديد آليات القهر والإلحاق الاستئساري المؤبد ... كان من الممكن أن تكون "مسيرة الجمهورية" مسيرة القرن لولوج عالم جديد يكون مقدمة لانتفاء الكراهية و العنف و لحظة لمصالحة الإثنيات و الأديان. لكن للأسف، أخطأت المسيرة مرماها و فوتت على العالم فرصة تجديد دورة المنظور الذي يحتاجه إنسان اليوم في علاقته بذاته و بالآخر، لأنها استبدلت طقوسية التظاهر المفترض المنبعث من الوجدان المشترك رغبة في التعايش و الحياة، بطقوسية الارتداد أو بطقوسية التمسك بالعادة و ممارسة التكرار ... العادة على الكراهية و تكرار فعل الحقد، فسقطت مسيرة الجمهورية، وا أسفاه، في أتوكتونية سياسية autochtonisme politique » " تمجد التعصب الاثني والديني بالتجرؤ مكررا على الاساءة لمشاعر المسلمين و اهانة منزلة الرسول محمد " ص " عبر الصور المرفوعة و الشعارات المرددة من داخل المسيرة، في سياقات مشهدية خادمة للأطاريح الاسلاموفوبية الناشطة بقوة في فرنسا و ألمانيا و السويد و الولاياتالمتحدةالأمريكية و تفضيلية بتسليط الأضواء على رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيمين نتنياهو الذي جعلت منه وسائل الاعلام الفرنسية مكونا بارزا من مكونات الشخصيات الحاضرة في المسيرة للإثارة الضمنية لدعاوى الأحقية المغلوطة حول مسألة الصراع الفلسطيني الاسرائيلي كما هو مخطط له إعلاميا من طرف اللوبي الصهيوني في فرنسا. حضر نتنياهو متقدما للمسيرة بدعاوى مضمون إنساني وقد تأثتت وراءه الأصوات الشاجبة للعدوان و للإرهاب. فأي معادل يمكن أن نعطيه لهذه المسيرة و قد مارس نتنياهو عملية أكبر إرهاب ضد فلسطينيين مدنيين بغزة. لماذا لم يحضر العالم كما حضر في مسيرة الجمهورية في مسيرة إنسانية بغزة؟ أليس هذا الشعور وحده كفيل بخلق أعمق أحاسيس الكراهية لدى الطرف الآخر و حفزه على اللجوء إلى الارهاب المقابل للإرهاب؟ قد يتساءل البعض أن حضور محمود عباس رئيس الدولة الفلسطينية قد خلق التوازن بالحضور المقابل لنتنياهو غير أن الأمر لا يعدو أن يكون حضورا للإلحاق و حمل القناع المفروض على وجه استبعد الحقيقة و تنكر للجرح الفلسطيني المعمق، إن حضور محمود عباس بحضور نتنياهو في أجواء التمييز و التحيز العرقي و الديني عبر عن سوريالية طقوسية تقوم على تبادل الأدوار ليس على نحو متكافئ و إنما على نحو اتباعي توافقي بسلبية. لقد زجت مشهدية مسيرة الجمهورية مضمونها الانساني المعلن عنه إلى تهريب سياسي أوتوكتوني تفضيلي يشعر من خلاله العرب و المسلمين أنهم غير معنيين بالمدنية و غير مدرجين في عالمية الانسانية و الكرامة .وهو أمر سيدفع إلى تعميق القطيعة ما بين الهويتتين ويخصب مركزية الاثنيات و العصبية المذهبية. ألا يحضر هذا ، افتراضا، ضمن تهيء مناخ سياسي جديد لتحقيق أهداف جيوستراتيجية جديدة بمنظور أوروبي هذه المرة، غير معلومة خفاياه في الشرق الأوسط و شمال أفريقيا؟ إن الغرب وحده مسؤول عن صناعة الارهاب أو تصنيعه، لأنه انغلق بعمى في فردانية متعالية، تقوم على إطلاقية المصلحة المطقسنة بأهازيج السلام المشترك و النظام العالمي الجديد... أهازيج سياسية انتهت إلى نتائج عكسية أربكت العالم و جعلته يعيش الفوضى و عدم الاستقرار، تفخخه الأزمات الاقتصادية و السياسية و العسكرية والقيمية. الغرب وحده من ينتج الأزمات. أزمة أفغانستان، أزمة فلسطين و العراق و سوريا و اليمن و ليبيا. هل نسي الغرب أن أمريكا هي التي دعمت تنظيم القاعدة في مواجهة السوفيات 1988 في أفغانستان؟ و كيف استخلصت الدروس من هذه الحرب فغيرت تكتيكاتها الحربية في الشرق الأوسط باستبدال الحرب المباشرة بالحرب بالوكالة عبر ما أسمته بحروب الجيل الرابع القائمة على إثارة العصبيات و الاثنيات، ثم خلق مجموعات " جهادية " متطاحنة للإطاحة بالقاعدة كما هو شأن صناعة داعش. المؤكد أن الشرق الأوسط و شمال افريقيا يعيش برؤية غربية مخطط لها أدخلت العرب و المسلمين في نفق مسدود أطلقوا عليها الفوضى الخلاقة، فكانت فعلا خلاقة للتطرف والارهاب. من الطبيعي إذن، أن يكون لهذه الفوضى انعكاس في دول الغرب نفسها... أن يتصادى العنف هنا و هناك ليكبر في أحداث 11 شتنبر، أن يتحول شعور العرب و المسلمين بوجودهم في الهامش إلى إرادة تدمير المركز الذي يمارس ضده الالغاء و التحقير، أن تكون الارادة في التعبير عن الذات التي بنيت بالاستلاب الممنهج عبر ايديلوجية التأسلم المتطرف إرادة عدوان مباشر نتيجة كره ممأسس راكمه مسلسل الغرب بأخطائه التي لم تنته بعد. حقا كانت لحظة مسيرة الجمهورية مثيرة لأنها انقلبت لا شعوريا على المضمون و الهدف الذين أقيمت من أجلهما، فعوض أن تكون مسيرة كلية لإنسانية صافية متعالية عن حسابات العرق و الدين، تدين الارهاب و التطرف، و قعت في كرنفالية تبادل و استبدال الأقنعة الممجوجة من ذات الهوية نفسها. فكانت مسيرة بلون " أوتوكتونية سياسية " و برائحة تفضيلية تمييزية ضد العرب و المسلمين. *أستاذ الأنثربولوجيا السياسية