لم تهتم الصحافة الوطنية كثيراً ب"شبه" المقال الذي نشره قطري يدعى علي الهيل، ويصف نفسه بالأستاذ الدكتور وهي مرتبة علمية لا نظن أنه يتوفر على ما يبرر الترامي عليها. المقال المذكور اختار له صاحبه عنوانا مثيرا هو :"هل يخطط الإيباك للإطاحة بمحمد السادس؟".. وتعتبر الإيباك، وهي لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية، أقوى جمعيات الضغط على أعضاء الكونغرس الأمريكي، هدفها تحقيق الدعم الأمريكي للكيان الصهيوني الموجود على أرض فلسطين (حسب تعريف الموسوعة الحرة). المقال المذكور مثير للغاية، ويكشف أي نوع من الأداء الأكاديمي أوصل صاحبنا إلى مرتبة "البروفيسورا"، وهو أمر لن أتوقف عنده طويلا لأن حتى قراءة عابرة تظهر خللا منهجيا فرغم أن المقال قصير جدا تتناطح فيه الأفكار وتتخلخل التعابير لتكون الحصيلة إنشاء مهلهلا منكوشاً كلحية صاحبه.. ما يهمني هنا هو الفقرة التالية تحديدا :"يبدو أن رفض (الملك محمد السادس) الأسبوع الماضي، استقبال (مهندس مذبحة قانا) الأولى، والمدافع الشرس عن جرائم (إسرائيل) أثناء الحرب الصهيونية على غزة رئيس الكيان الصهيوني غير الشرعي المُقام على أرض فلسطين، (شيمعون بيريز)، الذي كان ينوي حضور منتدى عالمي في المغرب، قد أصاب الإيباك في مقتل، وأي مقتل حتى على افتراض أن ما حصل كان صوريا ومن قبيل الاستهلاك السياسي وامتصاص نقمة المغاربة والعرب والمسلمين. فهو يعني في ظاهر الاستنباط أن المغربَ المصدِّرَ العربيَّ الأكبرَ لليهود إلى (إسرائيل) فباراك وزير حربها وأحد كبار مجرميها مثلا من أصول مغربية - اقتفى - بقصد أو بغير قصد - خطى لبنان وسورية وتركيا وإيران وفنزويلا في مضمار التسابق لقراءة خريطة المتغيرات الدولية والإقليمية المستجدة في الشرق الأوسط الجديد عربيا وإسلاميا ولاتينيا)..".. فما تحمله هذه الجمل مثير للضحك والشفقة في آن واحد، خاصة وأنه صادر عن أستاذ ودكتور وحامل -وهذا هو الأهم- لجنسية قطر.. فمشكلة هؤلاء الذين استفاقوا متأخرين، بما أن نصف المغاربة تقريبا ولدوا قبل اكتشاف "دولة قطر" نفسها، هو أن لهم قراءة خاصة للتاريخ والجغرافيا.. فالمغرب -حسب هؤلاء- مسؤول عن كونه "أكبر مُصدر لليهود" ولكن لا أحد يذكر مثلا أن المغرب لم يحصل على استقلاله إلا سنة 1956، وأن الهجرات الإسرائيلية الكبرى تمت خلال فترة الاحتلال الفرنسي .. كما أنه مسؤول عما يفعله إيهود باراك وزير الحرب الصهيوني فقط لأن أصوله مغربية.. فأية نكتة أسخف من هذه؟ وفي الواقع فإن كثيرا من "العرب" حين يتحدثون عن علاقة المغرب بالقضية الفلسطينية يحملونه تلقائيا مسؤولية ضياع الأرض وتشريد من فوقها وحين تسألهم:"كيف كذلك"؟ يجبونك بقيل ويقال ويروى ويتردد.. أي بصيغة "التمريض" كما يقول علماء الحديث.. ولهذا إذا كان هؤلاء غير قادرين على استحضار تفاصيل الجغرافيا، فلا ضير من الاستعانة بخريطة للعالم العربي حتى يتوافق كلامهم مع الواقع.. فالمطلوب من المغرب، حسب هؤلاء، أن يتحمل وحده تبعات العربدة الإسرائيلية الدائمة، وكأن الجيش القطري يحاصر تل أبيب من الشرق، وقناة "الجزيرة" تحاصرها من الغرب.. التاريخ يمكن أن يفترى عليه، أما الجغرافيا فلا.. المغرب، ترتيبه جغرافيا السادس من جهة الغرب، أي أن "الجهاد" لا يلزمه وفق "السياسة الشرعية" لابن تيمية -الأب الروحي للسلفيين- نفسه، إلا بعد أن تتقهقر جيوش مصر والسودان وليبيا وتونس والجزائر، ومثلها من الشرق بناء على قاعدة أن الجهاد يجب على الأقرب فالأقرب إلى أن يلزم أهل الأرض جميعا..وقطر في كل الأحوال أقرب إلى "إسرائيل" منا جغرافيا وسياسيا وعسكريا بما أنهما يشتركان في الرضاع من نفس الثدي الأمريكي الذي حول الكيان الصهيوني إلى كلب حراسة، و"دولة" قطر إلى مستودع للأسلحة الموجهة أساساً نحو العرب والمسلمين..الأطفال منهم والنساء تحديداً.. بل إن الإنجاز الأكبر ل"جزيرة" قطر هو أنها أدخلت الصهاينة إلى كل بيت عربي، ومنحتهم فرصة الدفاع عن أطروحاتهم الكاذبة كما حدث في مشهد شهير عندما انقض "الضيف" الصهيوني موردخاي كيدار على المذيع الفلسطيني الأصل جمال ريان في إحدى النشرات، وتطاول على العرب وقطر بلسان عربي فصيح، فقال من ضمن ما قاله إن اليهود كانوا في القدس قبل 3000 سنة أي عندما كان العرب يشربون الخمر ويئدون بناتهم..وأن القدس عاصمة إسرائيل وهي حرة فيها كما أن الدوحة عاصمة قطر وهي حرة فيها أيضا..هذا ناهيك عن كلام أخطر وأكبر لم يجد المذيع إزاءه سوى التسبيح والحوقلة..وإحناء الرأس.. أستاذنا الدكتور الهيل، وهو يوزع شهادات حسن السيرة القومية، نسي أن المغرب يكاد يكون البلد العربي الوحيد الذي لم تتلطخ يداه بالدم الفلسطيني، لأنه لم ينشئ فصيلا ولا سلح مجموعة ضد أخرى، بل إن قرار العاهل الراحل بعدم فتح مخيمات للاجئين الفلسطينيين المنكوبين على مر السنين كان حكيما للغاية، فالذين استقبلوا النازحين، إما حاصروهم في المخيمات وحرموهم من كافة الحقوق، كما في لبنان، أو حولوهم إلى وسيلة للابتزاز، كما في سوريا، أو سلحوا فريقا ضد آخر وأوقدوا نار الاقتتال الداخلي..كما حدث في أكثر من مكان.. إذن أي درس يمكن أن يعطيه المشرق للمغرب في هذا الباب؟ إن أكبر جريمة ارتكبت في حق فلسطين هي تحويلها إلى قضية عربية، لأن الدم الفلسطيني ضاع بين القبائل في نهاية المطاف.. فلو ترك الفلسطينيون وشأنهم، لحرروا بلدهم اعتمادا على النفس، كما حدث مع الدول المغاربية التي دفعت ثمن الاستقلال من دمائها، ولو أنها عولت على الجيوش العربية -كما حدث لفلسطين- لكانت اليوم ما تزال جزءا من الأراضي الفرنسية.. فالمقاومة سَنة من سنن الكون، فكلما كان هناك احتلال إلا وكانت المقاومة..إلا أن العرب بطبيعة الحال وكالعادة، يريدون معاكسة حتى سنن الكون الصارمة.. ولهذا فقد ضاعت فلسطين سنة 1948، ليس بسبب تدفق يهود المغرب، بل لأن الجيش العربي ذهب إلى حرب مصيرية مسلحا بالشعارات وقصائد الشعر، فكانت النكبة التي تلتها نكبات ونكسات لازالت مستمرة لحد الآن..بل حتى الرمق الأخير المتمثل في بقايا المقاومة الفلسطينية حاليا، هناك من يدعمه ليس كرها في إسرائيل ولكن من باب مناكفة مصر، ولم لا لتكريس المزيد من الانقسام الفلسطيني لأن ذلك هو المدخل الوحيد للإبقاء على حالة اللاحرب واللاسلم التي تبرر تغييب الديموقراطية بدعوى التهديد الخارجي، وتَعدم التنمية الاقتصادية والاجتماعية بمبرر "اقتصاد الحرب" الذي لم يمنع حكام دول "الطوق" و"الممانعة" من التوفر على قصور ويخوت..وما إلى ذلك من متطلبات أجواء ألف ليلة وليلة.. فلسطين ضاعت مرة أخرى سنة 1967 لأن العرب أيضا ذهبوا للحرب مسلحين بالشعارات، فخرجت إسرائيل من قمقمها وتوسعت وتمددت بل لولا "كرمها" لكانت اليوم حدودها من القاهرة إلى دمشق..ودون حاجة إلى "مساعدة" من المغرب الذي طالته بركات جيش مصر سنة 1963 خلال ما عرف بحرب الرمال.. ولهذا فإن الفضيحة مضاعفة، فحين يصدر اتهام سخيف من "أكاديمي" يفترض أنه يعرف ولو نزراً يسراً عن المنهجية العلمية، لا يبقى أمامنا سوى نفض أيدنا من الأساتذة والدكاترة الذين منحتهم الفضائيات المشبوهة تأشيرة الدخول إلى البيوت من دون استئذان.. والمشكلة الأكبر أن هذا الانقطاع عن الواقع، يتحول إلى حالة من الفصام أبسط تمظهراتها العيش في عالم افتراضي، إرضاء لرغبات من يدفع تحت الطاولة أو فوقها، يتحول بدوره وبالتدريج إلى واقع متخيل يحجب رؤية الواقع الحقيقي.. شخصياً، لم أجد ما أجيب به أحد الزملاء الأفارقة حين قال لي إنه درس بإمعان التاريخ السياسي المعاصر لمصر، وخاصة صراعها مع إسرائيل، واستغرب للتناقض الذي سجله حتى لدى بعض النخب المصرية نفسها.. وقد اختصر المعادلة كما يلي: عبد الناصر كان زعيما وطنيا قوميا صادقا ومخلصا لا شك في ذلك، لكنه غادر الدنيا وفي رصيده هزيمة عسكرية وسياسية مذلة، وأرض محتلة، وملف ثقيل لخرق حقوق الإنسان واعتقالات وإعدامات بالجملة...وتضييق على الحريات الأساسية.. والسادات كان موضوع "تنكيت وتبكيت" ولا يزال في بلده قبل الخارج، لكنه ترك في سجله انتصارا عسكريا وسياسياً -ولو معنويا-، وأرضاً محررة، وانفتاحا سياسيا ولو نسبياً.. وهذه -حسب صديقنا الإفريقي- هي الصورة كما يراها الآخرون..من خارج الدائرة الذي يتقوقع فيها أستاذنا الدكتور وغيره..من مداحي الأنظمة الديكتاتورية.. إن ما يغفله هؤلاء، هو أننا لا يمكن أن نكون فلسطينيين أكثر من أصحاب الشأن أنفسهم.. لا يمكن أن نمارس حق الشفعة في قضية اختار جزء من أصحابها بيعها بالتقسيط المريح.. وبدل اجترار الكلام وتعليق الفشل والهزيمة النكراء أمام الكيان الصهيوني على "صادرات المغرب من اليهود" وعلى مجرمي الحرب المنحدرين منه..كان الأولى ضرب المثل بخطوات عملية..فقمة "الممانعة" -كما سمتها "الجزيرة"- والتي عقدت في قطر أثناء العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة، وأطلقت قنابل صوتية مدوية، كان يمكن أن تخرج بقرار عملي، فقد حضرتها إيرانوالجزائر وليبيا وهي من أكبر الدول المنتجة للبترول، وكان بإمكانها الإعلان عن وقف إنتاجها النفطي ولو لأسبوع واحد..إذا كانت صادقة فعلاً في الحرص على الدم الفلسطيني.. المغرب "لا خيل عنده يهديها ولا مال" كما قال المتنبي..لكن عندما يعلن جيران إسرائيل الحرب عليها وتتحرك جيوشهم الجرارة التي تلتهم الأخضر واليابس من الميزانيات، للقتال بدل تطويق الشعوب التواقة للحرية..سيكون لكل حادث حديثاً..وساعتها حاكموا المغرب إذا لم يقف كتفا إلى كتف مع إخوانه في الخطوط الأمامية.. وأقف هنا حتى لا أترك سؤالاً معلقاً حول ما الذي قدمه العرب لقضية الوحدة الترابية للمغرب، حيث يغيب التضامن معه حتى في البيانات الختامية للقمم العربية، فقط حتى لا تغضب الجزائر.. [email protected]