تجاربي مع الثقافة، لا سيما ثقافة القراءة، في منطقة الشرق الأوسط، لا تنطبق على ما تقوله حول ذلك أرقام الإحصائيات. والأرقام في هذا الصدد ليست هينة. كما يطالعنا تقرير التنمية البشرية العربية لسنة 2003، إذ تم في سنة 1996 نشر فقط ألفين كتاب أدبي، في مجموع الدول العربية التي يبلغ عددها 22 دولة، وإذا كانت مبيعات الكتاب تتعدى خمسة آلاف نسخة، على مستوى العالم العربي الذي يقدر تعداده السكاني ب 270 مليون نسمة، فإنه يعتبر أكثر الكتب مبيعا. أما بخصوص ترجمة الكتب الأجنبية والأدب الأجنبي، فإن الأمر كئيب ومحزن، ورد في ذلك التقرير أن إجمالي الكتب المترجمة في العالم العربي أثناء القرون العشرة الأخيرة، مساو لعدد الترجمات التي تنشر سنويا في إسبانيا وحدها. إنه أمر يبعث على الصدمة والمأساوية والاستفزاز، فهل جميع هؤلاء العرب متخلفون ثقافيا؟ تكاد تعتقد ذلك. وبعد... حسب تجربتي في الشرق الأوسط أن الجميع هناك حقا يتحدثون كثيرا عن الثقافة. ليس الثقافة الرفيعة، ذات الطابع الباطني، وإنما الثقافة الشائعة. العرب سرعان ما يتملكهم شعور البهجة عندما يتحدثون عن الأدب والشعر. وعندما عملت هناك باعتباري صحافيا، اتخذت شخصيا شعارا لي مؤداه؛ تبدأ الحديث في السياسة، وينتهي بك الأمر في أي موضوع. تبدأ الحديث في الثقافة، ثم سرعان ما توضع في محادثة عميقة حول السياسة. يبدو أن الأمر يتعلق بمسألة الرؤية. فالغرب يتميز بثقافة الكتابة. وهذا يبدو واضحا، غير أنه من خلال المنظور العربي المعاصر إنها ظاهرة بارزة الملامح. ليس لأن حياتنا اليومية، تستند إلى الوثائق (اسأل جميع المهاجرين الذين يلجئون إلى تزوير وثائق الهوية لإثبات وجودهم)، وليس لأننا نفضل التواصل عبر الكتابة (ليس فقط البريد الرقمي والمذكرات الداخلية، وإنما مختلف إشارات المنع والإعلانات ولوحات المرور)، وإنما لأننا نقرأ كذلك بما فيه الكفاية (البريد اليومي، الأدب، الجرائد، صفحة ممتعة في القطار وكتاب جيد). نحن نقرأ بعض الشيء، أما العرب فلا يقرؤون. هكذا فإننا سرعان ما نستنتج أن حال الثقافة في العالم العربي سيئة. إن الإجابة التي تقدمها طبيبة النساء رانيا (28 سنة) من القاهرة، تبدو جد واضحة لأغلب العرب، فهي تؤكد ذلك من خلال كلامها: "أنا لست مهتمة كثيرا بالثقافة، عندما أعود عند الساعة الثالثة من العمل، أنشغل كثيرا بعائلتي وأصدقائي". لكن ألا تذهبون معا إلى عرض (قد يكون مسرحيا أو غيره)؟ تضحك (رانيا) بخجل. وتقول: حسنا، لا. نجلس معا، ندردش بعض الشيء، نأكل، نخرج. وعندما سألها: القراءة؟ كانت تهز رأسها. كلما حدثت العرب في هذا الصدد، كلما أدركت أكثر أن كلمة "الثقافة" تسبب لهم الالتباس. فالغربي يقصد بهذه الكلمة، الحفلات، المهرجانات، العروض، قراءة كتاب، أو الاستماع إلى الموسيقى. أما في العالم العربي فهذا يفهم بصيغة متقطعة، ليس لأن العرب لا يحملون ثقافة، وإنما لأن ثقافتهم هذبت بشكل مختلف. إنهم يمتلكون ثقافة "جمعية". إذ أن طابع التعامل الاجتماعي لديهم والحديث مع بعضهم البعض يفضي بهم إلى إنتاج شكل فني معين. في مقابل ذلك، فإن أغلب الأشكال الفنية الغربية ذات طابع فردي، مثل: قراءة كتاب، تأمل لوحة فنية، الاستماع إلى الموسيقى. وغالبا ما يتم ذلك في صمت مقدس، إذ الدردشة أثناء الحفل من المحرمات، كما أنه يمنع إزعاج القراء، أما في المتاحف فلا يتم التواصل إلا بالهمس. هذا هو أحد الأسباب التي تقف وراء مسألة قلة القراءة في العالم العربي، مما يجعل منها فعلا معاديا للمجتمع، والمعادي للمجتمع لا يحمل معنى سيئا يدعو إلى الشجب، فهو يعني حرفيا: لا اجتماعي. فالتمتع بالغوص في (قراءة) قصة، تعني وفق هذا التعريف، أن القاريء ينقطع عن محيطه لينتظم في عالمه الخاص. في الغرب يعتبر فتح كتاب إشارة اجتماعية جد واضحة تعني: آسف، أنا لست هنا. وبعبارة أوضح، نحن نعتقد أن الذي يقرأ لا يرغب في أن يزعجه أحد. وبصرف النظر عن المرحاض، ليس هناك شكل أفضل من الخصوصية الشخصية كالتي توجد بين دفتي الكتاب. كم هو الأمر مختلف في العالم العربي. أستسلم أحيانا لقراءة كتاب حتى أتفادى سأم أوقات الانتظار الطويلة في محطات القطار أو الحافلات. فجأة يصل أناس يسألونك بكل لطف ما إذا كانت الأمور على أحسن ما يرام. الاستمرار في مواصلة القراءة بصلابة يجعلهم يسعون بثبات إلى كسر جدران عالم القراءة التي تنصبها حولهم. هذا ليس سوء نية منهم. بل يبعث على القلق في نفوسهم: أوه، هذا الفقير، يجلس هناك وحيدا دون استحقاق، هل كل شيء على ما يرام؟ في الحقيقة، عرف العالم العربي دوما بامتلاكه لتقليد ثري فيما يخص رواة القصص؛ (أي ما يدعى في المشرق الحكواتي، وفي المغرب الحلايقي)، حتى أن كل مقهى أو نادي كان يحتوي على راو قار، مما يجلب الكثير من المستمعين، وهذا يعني زيادة الربح. وغالبا ما كانت تحكى ملحمة قديمة في شكل تسلسلي. إذ ظل بول مطر، وهو لبناني، ينظم في مسرحه الصغير بمدينة بيروت لقاءات لرواة القصص، يتذكر أنه في الستينات سمع في جنوب لبنان راويا عجوزا يحكي ملحمة البطل العربي عنتر. "يتم تقسيم المقهى إلى مؤيدين ومعارضين للبطل. ويعمل فن الخطابة على منح الفرصة بالتناوب للفريقين قصد التعبير عن فرحتهم". وقد تم اليوم استبدال ذلك التقليد بالتلفزيون، لكن هنا أيضا (أي في الغرب) يحدث الأمر نفسه، إذ المسلسلات التي تتمتع بشعبية كبيرة، غالبا ما تكون ذات جودة عالية. وهذا ما ينطبق على القصة وموهبة التمثيل، لكن فيما يتصل بالمواضيع التي تتعرض للرقابة حتى فيما بين السطور، يسري كذلك أن المرء يمارس السياسة من خلال الثقافة. وثمة القليل ممن حاول بث حياة جديدة في تقليد الحكي القديم، كالمصرية شيرين الأنصاري، التي قدمت بنجاح عروضها، حيث إنها بتوظيف سمات بسيطة – قطعة قماش، عصا، صندوق- تحكي قصص ألف ليلة وليلة، التي قوبلت بحماس. لا سيما عندما تدخل في حي شعبي يتفاعل الجمهور معها بشكل مكثف: "لا! شيء مرعب، تلك المرأة الفقيرة!" "يا له من محتال!" المصريون البسطاء الذين يأتون للمشاهدة يسمعون بأفواه فاغرة، أما الأغنياء لا يعاملون دائما بالطريقة نفسها عروضها، تقول شيرين أن: "منهجي البسيط لا يعني عندهم شيئا". "لماذا بأقدام عارية؟" يتساءلون. "لماذا عدم استعمال المؤثرات الضوئية والمضخمات الصوتية؟" تهز شيرين رأسها. "مشكلتهم الكبيرة أن الصورة التي أقدمها للأجانب هي أننا نحن المصريين لسنا عصريين". من اللافت للنظر أن العرب الذين يسألون عن ثقافتهم، سوف لا يشيرون مطلقا إلى الحكي أو الشعر، في الوقت الذي يعتبر هذان المكونان جوهر الثقافة العربية. والسبب الذي يقف وراء ذلك، هو أن الثقافة لديهم تفسر دوما من خلال المعنى الغربي لهذه الكلمة، أي باعتبارها أمرا ساميا وعاليا، ومحاطة بالاحترام المناسب. وهذا ما لم يعد يحدث اليوم مع الشعر والروايات. التي ينبغي أن نتقاسمها مع الآخرين، ويجب أن ننقلهما ونرسلهما، سواء في المنزل للعائلة، أم أثناء نزهة ما مع الأصدقاء. في جو من الضحك والتعليق، النكات والضوضاء. في تسجيلات المطربة أم كلثوم، التي غنت قصائد يقدر عمرها بأكثر من خمسة عشر ألف سنة، تسمع كيف يتفاعل الجمهور بصوت عال مع بيت شعري جميل، أو مع تنهد في صوت المغنية، عندما تتغنى بقلب البطل المكسر. أعرف النزر القليل من العرب الذين يقرؤون، بل وكذلك القلة القليلة ممن يكتبون، لكن لم ألتق بعد العربي الذي لا يحفظ عشرات القصائد والأغاني عن ظهر قلب، أو الذي لم ينظم بنفسه مرة قصيدة شعرية. الجميع، رجلا أو امرأة، من الأحياء الفقيرة أو من الطبقة الأرستقراطية الغنية، يعرفون القراءة أو لا يعرفونها، أميين أو غير ذلك، سبق له مرة أن نظم قصيدة غرامية. البعض منهم يكتبونها، أما الأكثرية منهم فيلقونها في حضرة الأصدقاء، وغالبا ما يؤدونها على إيقاع الطبل، ويخرجونها في نسخة موسيقية. هل سوف يكون هذا هو السبب نفسه الذي يؤدي إلى تراجع وظيفة الكتب ووسائل نقل المعرفة في العالم العربي؟ أعتقد ذلك. أغلب الكتب تكلف كثيرا: التاريخ، الفلسفة، العلوم. ليس ذلك النوع من القصة الذي تضعه على المنضدة، إنها تلك الكتب التي لا تقرأها أنت، وإنما تعتبر بمثابة مواد الدراسة. والآن حقيق بنا أن نقول أن تلك الأدبيات تعود إلى الستينات، عندما كان أولئك الذين يعتبرون أنفسهم مثقفين مشهورين يدخنون بشدة في المقاهي، ويتجاذبون الحديث عن هيجل وماركس وإنجلز. هذا الأدب الاشتراكي تم استبداله الآن بالأدب الإسلامي. إذ أن العلماء المسلمين ينشرون أي شيء عن الحياة الحقيقية للمسلم المعاصر، غير أن أغلب تلك الكتب هي مجرد إعادة طبع لأمهات الكتب الدينية من الماضي، فهي لا تحدد نوع القاريء بالنظر إلى طموحه الثقافي والفني، أو رغبته الترويحية، باستثناء كتاب الطفل، اعتبارا بأن هذه الظاهرة النسبية الغريبة في العالم العربي يمكن عزوها إلى أنها وسيلة لنقل الإسلام وتاريخه عبر القصص التعليمي إلى الجيل الناشئ. ليس لأن الكتاب كان ينبغي أن يكون خفيفا (في متناول الجميع)، فحتى وقت قريب كان يسري ذلك على الأدب الغربي المترجم، إذ كانت تترجم دوما المؤلفات الضخمة: فولتير، بروست، غوته، بالزاك. فبغير مزيد من الأدب السامي، ليس في متناول الأغلبية الوصول إلى عالم الأدب الأوروبي. وفي الوقت نفسه، اكتشفت سوق الترجمة العربية – ولو بشكل محدود للغاية – أدب أمريكا الجنوبية، فماركيز وأليند يحضران بشكل كبير لدى الشباب. يقول تلميذ في المرحلة الثانوية من مدينة دمشق أثناء المعرض السنوي للكتاب: "هذان على الأقل نعرفهما". "إنها قصص جميلة، وهذه الدرامات العائلية تبدو تماما كالتي عندنا". إلا أنه أعاد وضع كتاب فارغاس لوسا في الرف، لأن ثمن خمسة يورو باهظ للغاية. إن انكماش ثقافة القراءة في العالم العربي ليست فقط نتيجة للفهم المغاير للثقافة والأدب، فالكثير من العرب لا يستطيعون القراءة، ولا يحبون القراءة. فلندع الأرقام تعبر عن ذلك، إذ أكثر من ثلث الشباب العربي أميون (الربع من الرجال، والنصف من النسوة). بالنسبة للذين يستطيعون القراءة يعانون من رقابة الحكومات بشكل لطيف على الكتب، وتشديد الرقابة تختلف من دولة إلى أخرى، أما بخصوص وصول الكتاب إلى هذا الجمهور العربي العريض – العرب يتحدثون مختلف اللهجات لكنهم يقرؤون جميعا لغة واحدة مجزأة، بسبب أن الناشر يحتاج إلى إذن من اثنا وعشرين هيئة رقابة، إذا أراد توزيع كتابه مرة واحدة في سوق الكتاب العربي برمته. فماذا سوف يتبقى من ذلك الكتاب بعد أن تمر عليه اثنا وعشرين قلما من أقلام الرقابة الحمراء... لا، إنه من الأفضل أن تخزن الروايات والقصائد في الذاكرة، حيث لا يصل أحد، ولا يكلف ذلك ثمنا باهظا، ثم إن ذلك يجعلك تتمتع أكثر. (*) مستشرق وقانوني هولندي، حامل لدرجة الدكتوراه تخصص السياسات العامة والشريعة، عمل لدى معهد Clingendael، والآن يعمل بروفيسورا متخصصا في الإسلام لدى جامعة لايدن، عرفا بكتابين حول الإسلام هما: الإسلام برتقالة، والإسلام تحت جلدي. مصدر المقالة المترجمة: VPRO Gids, nr. 41, 2004