بينَ انبلاجِ أملٍ في الحريَّة مع بدءِ انتفاضاتِ "الربيع العربي" بالمنطقة، وتحوُّلِ تنظيم "الدولة الإسلاميَّة" بقيادة أبِي بكر البغدادي إلى كابُوس يبثُّ الرعب، لدى الأقليَّات الدينيَّة والأنظمة العربيَّة على حدٍّ سواء، طفت مؤشراتٌ كثيرة، حسب الصحفي، عدنان بنِّيس، عن حجمِ الانسجام داخل المجتمع الواحد، والتجانس الكائن بين المكونات السياسيَّة. ممَّا أيقظَ حلمَ الديمقراطيَّة على واقعٍ صاخبٍ من الفوضى. ويتساءلُ الكاتبُ حولَ ما إذَا كانتْ "داعش"، قدْ برزت إلى الوُجود على حين غرَّة، أمأنَّها تجدُ لأفكارها المتطرفة، سندًا لدى شريحة من المجتمع، قبل أنْ ينحي باللائمة على بعض التيارات الحداثيَّة، التي يرى أنَّها تخوضُ نقاشاتٍ في غير محلها، بالسير في طريق الاصطدام مع منظومة اجتماعيَّة وثقافيَّة، على قدرٍ كبيرٍ من الرسُوخ. فيما يلِي نصُّ عدنان بنِّيس كمَا وردَ إلى هسبريس.. لقد أدت الأحداث الدائرة رحاها في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وخاصة الدول التي شهدت أحداث “الربيع العربي” إلى تمزق الأقطار العربية وتشتتها إلى دويلات فاشلة يحكمها أمراء الحرب وزعماء الجماعات الاسلاموية، أو إلى أنظمة عسكرية يحكمها الجنرالات. ولعل القاسم المشترك بين هذه الدول هو التباين الأيديولوجي بين فئات المجتمع الواحد وانعدام التعايش والتجانس الفكري بين الأطياف السياسية الذين اتفقوا على الاختلاف الراديكالي في كل شيء إلى حد الصراع الطائفي والقبلي. وفي خضم هذه الفوضى والتشرذم غير المسبوق اصطدمت آمال الشباب الحر المتطلع إلى العدالة والحرية والكرامة بواقع جيوستراتيجي معقد أدى، بسبب عدة عوامل تطبعها المصلحة والبراغماتية، إلى تغير المسار السلمي ل “الربيع العربي” وإلى تطاحنات سياسية وحروب بالوكالة، حروب غيرت المسار الديمقراطي للثورات إلى مسار كارثي ودموي قد يسمى بالكابوس العربي. ويمثل بروز “الدولة الإسلامية في العراق والشام” أفظع تجليات هذا الكابوس العربي الذي يؤرق صفوة العالم نظرا لفظاعة الجرائم التي ترتكبها جيوش الدولة الاسلامية “داعش” تحت يافطة الإسلام. وما يجعل الأمر أكثر تعقيدا هو تضارب واختلاف الأنباء حول ما يجري هناك بين المعلومات الحقيقية والخبر المزيف الذي قد يختلف باختلاف المنابر الإعلامية المؤدلجة حسب مصالح الدول الراعية لها. فمن هم وراء هذه الصحوة الداعشية ومن يغذي فكرها العابر للقارات؟ هل نحن بصدد فكر وليد اليوم أو هو فكر أصولي متجذر في وجدان بعض شرائح المجتمع، والذي أدى بفعل الإقصاء الذي مورس في فترات سابقة إلى شذوذ أيديولوجي مظلم؟ وهل نحن في منأى عن هذه الصراعات بحكم بعدنا الجغرافي أم أن الفكر لا زمان ولا مكان له؟ قد يعتقد البعض أن التنظيمات الجهادية والتكفيرية السائدة هي وليدة هذه الفترة الراهنة أو هي تطرف فكري غير ذي صلة بالتراكمات السياسية التي طبعت فترة ما بعد التحرر من الاستعمار وفترة الحرب الباردة. كما قد يعتقد البعض الآخر أن التطرف الفكري ل “داعش” هو ردة فعل لتطرف آخر تطغى عليه اللبرالية المتوحشة في الإباحية والرأسمالية المنبثقة من الفكر الغربي السائد بفعل العولمة. فلا يخفى على ذي عقل الاستغلال الذي مورس ولا يزال يمارس على الشعوب الاسلامية عن طريق التلاعب بالدين الاسلامي لأغراض سياسية واستراتيجية صرفة بغية الهيمنة الاقتصادية (احتلال العراق وغزو افغانستان) أو السيطرة على الشعوب للاستحواذ والانفراد بالحكم المطلق أو لإيقاف مد فكري أو طائفي معين (الاعتماد على الحركات الإسلامية لمناهضة المد الماركسي اللينيني في سبعينيات القرن الماضي كمثال). وفي كل الحالات يتم الاستنجاد بالدين كطرف رئيسي من أجل تطييع الحشود وفق نسق وبنية جاهزة ومحبوكة في دهاليز السياسيين والمنظرين الاستراتيجيين. ولعل السياق الراهن الذي تمر به دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والمتمثل في الفكر والفكر المضاد لا يخلوا من تجاذبات جيوستراتيجية لها مصالح معينة لإعادة ترسيم خريطة الشرق الأوسط الجديد وإعادة إنتاج فكر معين وقوى إقليمية جديدة. العلاقة بين الحرية والاحترام إن المعروف عن الشعب المغربي وطريقة تفكيره اعتداله وتعايشه في انسجام واحترام مع أفكار وديانات أخرى كاليهودية، ويشهد على هذا التاريخ المغربي بحكم تعايش اليهود المغاربة مع المسلمين العرب والأمازيغ لآلاف السنين. فالاعتدال في المغرب منهج قائم بذاته، يتجلى في الحياة اليومية للبسطاء كما يتجلى بين المثقفين والنخب باختلاف انتماءاتهم. ولعل أهم ركائز هذا المنهج المغربي هو تماسك المجتمع حول لحمة الاحترام. فالاحترام المتبادل والسائد بين الناس هو جوهر المعاملات اليومية سواء تعلق الأمر بالنقاشات الفكرية أو المعاملات الاجتماعية أو العلاقات الأسرية. وهذا ما يميز المغرب نسبيا كبلد للتسامح والسلم والتمازج العرقي المتعدد الانتماءات. فالعقد الاجتماعي المتعارف عليه بين الجماعة تجاه الفرد من جهة وبين الفرد تجاه الجماعة من جهة أخرى مبني على احترام حرية الآخر في غياب الأنا وتفضيل الذات والأنانية المفرطة. ولعل مفهوم الحرية لدى الإنسان المغربي لا يبتعد عن مفهوم الاحترام سالف الذكر، بل هو لصيق له إلى حد التلاقح المفاهيمي للكلمتين. فلا حرية بدون احترام ولا احترام بدون حرية. إذ أن الحرية في غياب الاحترام تجاه الآخر وشعور الآخر استهتار بكرامته وانتهاك لحرمته، على اعتبارأن حب التعايش يشكل الإطار السلوكي المتوارث. كما أن احترام الآخر في غياب جزئي أو كلي للحرية انتقاص لمبدئ الكرامة الواجب وجودها كضرورة أساسية لاستكمال هذه العلاقة الوجودية، وإلا تتحول هذه الأخيرة إلى خوف أو ريبة واختلال في ميزان القوى بين فئات المجتمع الواحد. وهذا ما يميز نسبيا مفهوم الحرية بين الأقطار الغربية والأوطان المغاربية والشرق أوسطية. إذ أن الحرية الفردية “Individual Freedom” في الدول الغربية تعتبر الفرد نواتها الأساسية، وهي (الحرية الفردية) مستقلة باستقلالية الفرد ككيان منفرد له خصوصيته المعينة التي لا ينبغي المساس بها ولو اختلفت عن الجماعة. فالتعاقد الاجتماعي الأمريكي مثلا يغلب عليه الطابع الفرداني “Individualism” والإباحي مع وجود اختلاف نسبي بين التيار اللبرالي والمحافظ. وفي المقابل نجد الجماعة أو الأسرة هي المكون الأساس للمجتمع، حيث يوجد الفرد كجزء لا يتجزء عن الأسرة، وبالتالي تحكمه ظوابط وأعراف مختلفة باختلاف المكان والزمان والفئة العمرية والجنس. وهذا راجع بالأساس إلى التكوين البنيوي للمجتمعات الشرقية ذات الطابع الأسري التشاركي. التطرف والتطرف المضاد في المغرب، أية علاقة: لا يختلف اثنان أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر غيرت العلاقات الدولية التي طبعت حقبة ما بعد الحرب الباردة أو ما يصطلح عليه ب القطب أحادي الجانب الذي تمثله الولاياتالمتحدةالأمريكية. كما بينت هذه الأحداث قوة وتأثير الجماعات الإسلامية المسلحة (تنظيم القاعدة) كطرف أساسي في التأثير الجيوسياسي والجيو ستراتيجي، فأفرزت الإسلام السياسي كخطر يهدد هيمنة واستقرار اقتصادات الدول الغربية. وهذا أدى إلى تزعم الولاياتالمتحدة للحرب ضد الإرهاب بعد غزو أفغانستان واحتلال العراق. وقد كانت لسياسة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش أو ما عرف ب “The Bush Doctrine” الوقع السيئ على السياسة العالمية في علاقتها مع الإسلام والمسلمين، حين فرض على الدول، خاصة الإسلامية ان تنخرط معه بشكل مطلق في حربه ضد الإرهاب، “you are Either with us or against us” “إما معنا أو ضدنا”. وقد بادرت بعد ذلك الإدارات الأمريكية إلى خلق برامج تستهدف الشباب العربي وشباب الدول الإسلامية لتكوينهم على أدبيات الديمقراطية الغربية وأساليب التأثير على الحكومات المحلية، مركزين في ذلك على التيارات الليبرالية لخلق التوازن في المجتمعات المستهدفة بين الأصوليين والليبراليين. ومن خلال هذه العملية، انخرط الشباب المثقف والصحفيين والباحثيين للاستفادة من هذه المنح الدراسية والتشبع بالمعايير الدولية حول حرية التعبير والحريات الفردية. وهذه مبادئ دولية متعارف عليها عالميا وضرورية حتى يرقى المواطن العربي في علاقته مع الأفراد والجماعات داخل وطنه إلى مرتبة سامية تحمي اختياراته وقناعاته الشحصية من أي ممارسات قمعية أو إقصائية أو إضطهاد فكري ممنهج قد يطاله. لكن ما يؤاخد على القلة من هذه التيارات اللبيرالية أو الحداثية تركيزها على المظهر العام لمبادئ التعددية الفكرية عوض الخوض في جوهر الحريات في سياقاتها المجتمعية القريبة إلى الشعب، خاصة المواطن البسيط. فعوض الاعتدال في طرح المبادرات حتى تقترب إلى ما يخالج الأغلبية الساحقة من المجتمع، والأخذ بعين الاعتبار لخصوصية هذه المجتمعات التي تتعايش معها كي يتم التناغم الفكري والنضج المفاهمي، انساقت، إلى حد ما، إلى التطرف الفكري، أدى في بعض الحالات إلى التعارض مع أدبيات العقد الاجتماعي واللحمة السائدة على أساس الاحترام. فأطروحات من قبيل الحرية الجنسية والإفطار العلني في رمضان وسب الدين واعتبار المجتمع منافق لسلوكيات القلة قد لا تتناسب وطبيعة المجتمع المحافظ الذي يعتبر هذه الأطروحات خروج عن المألوف، وبالتالي دحضها ورفضها جملة وتفصيلا. الحري ببعض المنادين بهذه الحريات التقرب إلى عامة الشعب ومعرفة مشاكله اليومية ومعاناته مع لقمة العيش كي يسهل الحوار ويتم التفاهم والتعايش بين جميع أفراد المجتمع. فالحداثة في جوهرها لا تعني الإباحية والتخلي عن مبادئ المجتمع المنبثقة من تاريخ وتقافة وحضارة لها من الأسس والدلالات القوية ما يقومها بذاتها. إن الحداثة أخلاق ونهج متقدم تعتمد على المنطق واحتكام العقل والنقد البناء للظواهر المجتمعية، خاصة الظواهر المسكوت عنها: كالشعودة، وزيارة الأضرحة …إلخ. كما أن الحداثة سلوك منهجي يعتمد على الأخلاق العامة التي تحترم الوقت وتعتبر روح المبادرة والريادة أدوات عملية تؤدي بالمجتمعات إلى التقدم الفكري والمجتمعي والاقتصادي والبيئي والصحي. وفي الجانب الآخر، نجد الأصولية الفكرية التي تعتمد على الإفراط في المحافظة على كل ما هو تراثي وأصيل، باعتباره الأصل والطريق الصحيح. بالإضافة إلى التيار الجهادي التكفيري الذي يعتبر الحداثة كفكر تنويري دخيل على المجتمع، حيث ينظر إلى الحريات الفردية والديمقراطية كأداة إمبريالية غير مرغوب فيها بحكم انبثاقها من الدول الغربية. وينظر حيال اللبراليين المغاربة والحداثيين على أنهم دعاة فتنة وعملاء لأجندات خارجية. وهنا تكمن الإشكالية والتحدي المطروح من خلال التطرف والتطرف المضاد. فكل ينظر إلى الآخر كنقيض يجب إقصاؤه ومحاصرته فكريا بل وشيطنته حتى. والأساس أن في الاختلاف رحمة وتناقح وإغناء لفكر الآخر. ويبقى ما يحز في النفس هو التغييب الممنهج للأغلبية الساحقة من المجتمع المعتدل الذي يتم على حسابه وباسمه طرح الأطروحات المتطرفة من هذا أو ذاك، ناهيك عن “فتاوى الفجور” التي تصيبنا بالذهول والتقزز من فحواها، وحول المستوى الذي وصل إليه الخطاب الديني والثقافي المغربي. إن ما يميز المجتمعات المتحضرة هو كيفية التعامل مع المتغيرات المجتمعية وعقلنة المفاهيم الحديثة حتى يتسنى لها التعايش في انسجام بين مختلف أطيافها وفي تناغم مع ماضيها وحاضرها، لأن مستقبل الأمة لا يملكه فرد أو افراد بل يملكه المجتمع ككل. ولذلك علينا أن نعي ماذا نريد: هل نريد التعايش أم نريد التداعش؟ فمن يمتلك الحقيقة؟ ومن له الحق في تغيير النظم والقوانين؟ أهو فرد واحد, أم أفراد بعينهم، أم المجتمع بأسره.