أفاد الدكتور إدريس لكريني، مدير مجموعة الأبحاث والدراسات الدولية حول إدارة الأزمات، أن العمليات العسكرية في غزة والتي حاولت إسرائيل تسويقها كعمل يندرج ضمن ممارسة حق الدفاع الشرعي، تندرج ضمن الأعمال الانتقامية التي يحرمها القانون الدولي. وأوضح لكريني، في مقال خص به هسبريس، أن تنامي التحايل على استعمال "حق الدفاع الشرعي" بغير حق، يخلق حالة من الفوضى في العلاقات الدولية، ويشجّع بعض الدول على ارتكاب سلوكات انتقامية، وعلى الاعتداء على دول أخرى بتهم وذرائع مختلفة". وهذا نص مقال لكريني كما ورد إلى الجريدة: نصّ ميثاق الأممالمتحدة صراحة على تحريم اللجوء إلى القوة أو التهديد باستعمالها في العلاقات الدولية؛ ورغم ذلك؛ فالممارسة الدولية تشهد تناميا في لجوء الدول إلى القوة لحسم خلافاتها القائمة، حيث أضحى الاعتداء العسكري مرادفا لممارسة حق الدفاع الشرعي ضمن الخطاب والممارسة الدوليين في كثير من الأحيان. وتعدّ إسرائيل على رأس قائمة الدول الأكثر لجوءا إلى هذا المدخل القانوني لتبرير عملياتها العسكرية العدوانية في مواجهة الشعب الفلسطيني؛ حيث ما لبثت أن أدرجت اعتداءاتها المتكررة والمتجددة على غزة ضمن هذا السياق. إن الدفاع الشرعي هو إمكانية وقائية واحترازية تتيحها القوانين الداخلية كما الدولية للدفاع عن النفس؛ عندما يصعب أو يستحيل الاستعانة بالقانون في رد الاعتداءات والأخطار الداهمة وحماية الحقوق. وهو يندرج ضمن الحقوق الطبيعية التي يملكها الشخص طبيعيا كان أم معنويا والتي تسمح له بالقيام بكل ما يراه نافعا لنفسه، وكفيلا بضمان بقائه واستمراريته. وحرصا على ضمان تطبيق هذه الإمكانية القانونية على وجه سليم وبعيدا عن كل انحراف؛ حرص المشرع والفقه المحليين كما الدوليين على تطويقها بمجموعة من الشروط. فالخطر موضوع الدفاع ينبغي أن يكون داهما وحقيقيا، مع استحالة اللجوء إلى السلطات الأمنية والقضائية لدفع الخطر وتجاوزه، وأن يكون الرد آنيا؛ ويتناسب مع حجم الخطر ولا يتجاوزه. وعلى الصعيد الدولي تعتبر المادة 51 من الميثاق الأمامي بمثابة المرجع القانوني لإعمال وتنظيم هذا الحق، فهي تنص على أنه: "ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينتقص الحق الطبيعي للدول؛ فرادى وجماعات في الدفاع على أنفسهم إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء "الأممالمتحدة"، وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدولي...". ويبدو من خلال هذه المادة أن الميثاق أطر استعمال هذا الحق(الدفاع الشرعي) بمجموعة من الضوابط والشروط؛ حتى لا يكون ذريعة ومطية لترهيب الدول والاعتداء على الشعوب وتحقيق المصالح الضيقة. حاولت إسرائيل منذ سنوات التذرّع بأن عملياتها العدوانية المتكررة في غزة؛ تندرج ضمن "الحق المشروع الذي تمارسه في سياق الدفاع عن نفسها" بموجب المادة 51 من ميثاق الأممالمتحدة؛ في مواجهة الصواريخ التي تقصف بها حركة المقاومة حماس مناطق في العمق الإسرائيلي. ومعلوم أن إسرائيل ومنذ قيامها في الأراضي العربية؛ كانت تلجأ إلى هذه الذرائع باستمرار لتبرير اعتداءاتها المتكررة في فلسطين أو مختلف الأقطار العربية. بالشكل الذي تحول معه هذا الاستثناء على المبدأ الأساسي المرتبط بمنع استخدام أو التهديد باستخدام القوة العسكرية في العلاقات الدولية؛ إلى ما يشبه القاعدة العامة في ممارساتها الميدانية. ونذكر في هذا السياق؛ غاراتها العسكرية المتكرّرة ضد المقاومة الفلسطينية في لبنان خلال سنوات السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم؛ وعلى مقر منظمة التحرير الفلسطينية في تونس بتاريخ 25 أكتوبر 1985؛ والغارة التي تم شنها في السابع من شهر يونيو 1981 على المفاعل النووي العراقي "تموز"؛ والعمليات العسكرية التي باشرتها القوات الإسرائيلية بتاريخ 5 أكتوبر عام 2003 واستهدفت فيها موقع "عين الصاحب" داخل الأراضي السورية بذريعة أن الموقع تابع لحركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية، إضافة إلى الهجمات الواسعة التي شنتها داخل التراب اللبناني بتاريخ 12 يوليوز 2006 والتي دامت أكثر من شهر. إن حق الدفاع الشرعي الذي تكيّفه إسرائيل وفق مصلحتها، يمكن أن يصل إلى حد الاحتلال المستمر لأراضي الطرف "المعتدي" وضم أراضيه؛ وذلك في سياق ما يعرف بسياسة "الحدود الآمنة" التي تقوم عليها استراتيجيتها العسكرية. وبالعودة إلى الغارات العسكرية الإسرائيلية الحالية في غزة؛ نجد دولة الاحتلال وكعادتها في التعامل بانتقائية مفرطة مع القانون الدولي وتوظيفه بانحراف كبير في الحالات التي تهمها دون غيرها من الحالات التي تضعها في موقع المسؤولية الدولية؛ تتذرع مرة أخرى بالدفاع الشرعي لتبرير هذه العمليات. وهكذا يتحدث قادة الكيان الإسرائيلي عن "اجتثاث جذور الإرهاب في غزة" تارة؛ وعن الحؤول دون وصول الصواريخ التي تطلقها "حماس" إلى إسرائيل.. تارة أخرى. بناء على مقتضيات هذه المادة 51 من الميثاق الأممي؛ فالحق في الدفاع الشرعي مشروط بوقوع عدوان مسلح؛ وقد اعتبرت إسرائيل أن إطلاق الصواريخ من غزة بمثابة عمل عسكري حقيقي؛ وهو ما لا ينطبق على الأعمال الدفاعية التي تقوم بها المقاومة الفلسطينية في غزة كرد على الحصار وإغلاق المعابر..؛ طالما أنها في وضعية رد الاحتلال ومقاومته؛ الأمر الذي أكدته المادة السابعة من توصية الجمعية العامة رقم 3314 المرتبطة بتعريف العدوان والصادرة بتاريخ 14 دجنبر من سنة 1974؛ التي نصت على أن تعريف العدوان لا يمكن أن يمس على أي نحو بما هو مستقى من الميثاق من حق في تقرير المصير والحرية والاستقلال للشعوب المحرومة من هذا الحق بالقوة.. كما أن الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية أقرت فيه هذه الأخيرة بتاريخ 09- 07- 2004 بعدم شرعية الجدار العازل بالأراضي الفلسطينيةالمحتلة؛ ورفضت فيه التبريرات الإسرائيلية المتصلة بحق الدفاع الشرعي في هذا الصدد. ومعلوم أن مقاومة المحتل بكل أشكالها (الفردية أو الجماعية، المباشرة أو غير المباشرة، المسلحة أو غير المسلحة..) تستمد مشروعيتها من مبادئ القانون الدولي الإنساني التي تؤكّد على حماية أفراد المقاومة الشعبية المسلحة والتي تجسدها اتفاقية جنيف ومؤتمر فيينا؛ ومن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر سنة 1948؛ ومبادئ وميثاق الأممالمتحدة ومختلف القرارات والتوصيات الصادرة عنها والتي تؤكد على شرعية تقرير المصير والحق في الدفاع الشرعي الجماعي والفردي(توصيات الجمعية العامة: توصية رقم 3246 بتاريخ 29 نونبر 1974؛ توصية رقم 2625 بتاريخ 24 أكتوبر 1970؛ توصية رقم 3314 الصادر في 14 دجنبر 1974..)؛ بالإضافة إلى مختلف القرارات الصادرة عن عدد من المنظمات الإقليمية في هذا الخصوص؛ إضافة إلى ما ذهب إليه الفقه الدولي في غالبيته باعتبار هذا العمل مشروعا. كما أن الأعمال التي باشرتها المقاومة في غزة تنتفي فيها "عتبة الخطورة"، التي تعد معيارا رئيسيا للتمييز بين العدوان وبين أعمال القوة الأخرى؛ فهي لا تصل من حيث الخطورة إلى الدرجة التي تسمح بمباشرة هذا الحق. ويشترط في الهجوم أيضا أن يحمل قدرا من الفجائية؛ التي تجعل تلافي مخاطره بالسبل القانونية أمرا مستحيلا؛ بينما نجد أن رد المقاومة في فلسطين كان متوقعا؛ كما أنه جاء كرد فعل على الاحتلال وعلى إغلاق المعابر والحصار الذي باشره المحتل.. وكان بالإمكان تلافي هذا الرد عبر اتخاذ تدابير وقائية أخرى يسمح بها القانون الدولي كاللجوء إلى مجلس الأمن أو عقد اتفاقات هدنة ورفع الحصار.. ومن جانب آخر؛ فاستعمال هذا الحق ينبغي أن يتم بشكل احتياطي ومحدود وبعد إبلاغ مجلس الأمن بالأمر؛ حتى يتسنى له التدخل والقيام بما تمليه عليه مهامه في هذا الشأن؛ باعتباره المسؤول الرئيسي عن حفظ السلم والأمن الدوليين؛ ولكي لا يتحوّل رد الفعل إلى عمل انتقامي. غير أن مجلس الأمن باعتباره الجهاز الرئيسي المسؤول عن حفظ السلم والأمن الدوليين؛ لم يتحمّل بعد مسؤولياته في إيقاف هذه العمليات عبر اتخاذ ما يسمح به الميثاق من إجراءات وتدابير في هذا الشأن؛ بفعل الضغوطات التي ما فتئت تمارسها الولاياتالمتحدة بداخله؛ وهو ما أسهم في إعطاء فرصة كافية للجيش الإسرائيلي لتنفيذ عدوانه واستكمال جريمته في غزة. وقد أكد القانون والقضاء الدوليين كما الفقه على شرط التناسبية في ممارسة حق الدفاع الشرعي؛ ذلك أن حجم رد الفعل ينبغي أن يكون ملائما ومتناسبا مع الفعل ولا يفوقه خطورة؛ وهو ما ينتفي أيضا في العدوان العسكري الإسرائيلي على غزة؛ الذي استعملت فيه الطائرات والقنابل ومختلف الأسلحة الأخرى في مواجهة صواريخ محدودة التأثير تأتي في سياق مواجهة الاحتلال وممارساته الوحشية؛ كما طال المدنيين العزل واستمر لمدة طويلة.. وبناء على هذه المعطيات؛ فالعمليات العسكرية الحالية – كما في السابق - في غزة والتي حاولت إسرائيل تسويقها كعمل يندرج ضمن ممارسة حق الدفاع الشرعي؛ تتنافى بصورة لا لبس فيها مع مضمون وأهداف المادة 51 من الميثاق الأممي؛ بل هي عدوان واضح المعالم وتندرج ضمن الأعمال الانتقامية التي يحرمها القانون الدولي. إن تنامي التحايل على استعمال هذه الإمكانية(حق الدفاع الشرعي) بغير حق؛ يخلق حالة من الفوضى في العلاقات الدولية؛ ويشجّع بعض الدول على ارتكاب سلوكات انتقامية وعلى الاعتداء على دول أخرى بتهم وذرائع مختلفة؛ مما يسهم في تكريس اللجوء إلى القوة العسكرية لتسوية الخلافات؛ بالشكل الذي سيؤدي حتما إلى تهميش السبل الدبلوماسية لتسوية المنازعات وإدارة الأزمات؛ ويحدّ من دور الأممالمتحدة في تدبير النزاعات والأزمات الدولية ويشجّع على التدخل في شؤون الدول الضعيفة دون حدود أو ضوابط. [email protected] | www.facebook.com/driss.lagrini