وجهه حمّال أقنعة. يهوى السياسة لدرجة الهوس، يحب الرسم ليفجر مكنون دواخله ألوانا لها معجبون عبر العالم. أخطبوط إداري خبر دواليب الإدارة الرسمية حتى عد من صفوة 'دار المخزن‘. يخبو وهجه أحيانا ولا ينطفئ، إذ سرعان ما ينبجس كالفينيق. بين جوانحه تسكن قضيته الأولى، القضية الأمازيغية، والتي طالما جاهر بها مخلفا أكثر من علامة استفهام: أتسكنه فعلا أم يمتطيها لممارسة هوايته المفضلة: السياسة؟ "هو ملكي بامتياز ومشاكس سياسي بامتياز"، يقول أحد المقربين منه. إنه السياسي المغربي المحجوبي أحرضان الذي سلم بعد أكثر من نصف قرن من الزعامة، مفاتيح "الحركة الشعبية"، وفي قلبه غصة. خطبة الوداع؟ في مؤتمر "الحركة الشعبية" الأخير (11-13 يونيو)، خاطب أحرضان المؤتمرين قائلا: سأراقب من بعيد. هو الفنان الذي رسم الأحاسيس، لابد أنه أحس بالضياع وهو يرى 'قاعدة‘ حزبه تقرر إبعاده عن الرئاسة. ولابد كذلك أن أسئلة تزاحمت على عقله وهو يرى ما بناه لأكثر من نصف قرن، تذهب ملكيته لمالك آخر. فحزب الحركة الشعبية، إذا استثنينا بعض الأحداث الجانبية، كان بمثابة عقار مسجل باسم الزعيم المؤسس. هكذا الأمور في المجتمعات غير الديمقراطية، تنتقل المسؤوليات إما بانقلابات يتبعها سحل علني، وإما بتدخل مباشر من ملك الموت. المحجوبي أحرضان هو الآن على مشارف المائة سنة، وما يزال يتوعد بمراقبة الحزب مستقبلا. من يعرف أحرضان لا يستبعد إمكانية عودته المفاجئة، إلا إذا سارع الملك محمد السادس بإضفاء الشرعية على القيادة الجديدة، وعندئذ يركن أحرضان في بيته للرسم وكتابة الشعر والرواية والرسم. "أحرضان يقرأ كثيرا وكتب الشعر والنثر، لكن دائما باللغة الفرنسية"، يقول عنه الوزير السابق امحمد المرابط وأحد المقربين منه. خسارة حياة هذا الشخص مليئة حتى التخمة بالأحداث والحوادث والطرائف والنوادر. أحرضان معروف بفطرته وقرب لغته السياسية من لغة الشعب. أما أفعاله السياسية فلا يستطيع حتى السحرة فك طلاسمها. حينما يحلل الوضع السياسي المغربي يفعل ذلك بالمختصر المفيد: الملك هو الذي يحكم. وعندما يرد على الإسلاميين لا يستخدم قاموسا سياسيا مُخشبا، بل يتوجه إلى الإسلاميين مباشرة: الفرق بيننا وبينكم هو أنكم تصلون الصلاة في وقتها، ونحن نجمعها! كثيرون يتمنون غياب أحرضان عن المشهد السياسي، وربما هذا ما سيتحقق ليس فقط بابتعاده عن رئاسة الحزب، ولكن أيضا برحيله عن الحياة بالنظر لسنه المتقدم. غير أن آخرين سيخسرون بغيابه ذاكرة المغرب المعاصر، بل المغرب كله سيخسر أحد أبرز وجوهه السياسية. فالرجل قد تختلف معه ألف مرة، لكن ذلك لا يمنع من الاعتراف له بأنه صانع لأحداث ومشارك فيها أو منفذ لها، ما تزال في معظمها مبهمة وغامضة بالنسبة لغالبية الشعب المغربي. الأمازيغية: حصان أم قضية يعد حزب الحركة الشعبية ومؤسسها أحرضان أول من طرح الأمازيغية كقضية تخص المغرب والمغاربة. "اللغة العربية نحترمها لأنها لغة القرآن"، كان يقول دائما. لكن اللغة الأمازيغية بالنسبة إليه هي أيضا لغة وطنية. وقد دعا مؤخرا الملك محمد السادس لتعليم ابنه وولي العهد اللغة الأمازيغية. غير أن دفاع أحرضان عن الأمازيغية، لغة وثقافة وحضارة، لم يؤخذ من طرف نشطاء الحركة الأمازيغية محمل الجد، معتقدين أن أحرضان ركب حصان الأمازيغية لتحقيق أهدافه السياسية الشخصية البحتة. وهذا ما يستبعده الوزير السابق امحمد المرابط في حديث للقسم العربي بإذاعة هولندا العالمية، مؤكدا على أن أحرضان "معتز بانتمائه الأمازيغي"، ويضيف قائلا: "حمل (أحرضان) لواء الأمازيغية دائما وما يزال. وفي هذا الإطار يمكن أن يلعب دورا مهما جدا من أجل الدفع إلى الأمام بالقضية الأمازيغية في المغرب". مسار منعرج ولد المحجوبي أحرضان في العشرينات من القرن الماضي بالأطلس المتوسط (والماس) وهو أب لستة أبناء. حفظ القرآن في سن مبكرة قبل أن يلتحق بمدرسة طارق بن زياد في مدينة أزرو الأطلسية. شارك لمدة قصيرة في الحرب العالمية الثانية كضابط في الجيش الفرنسي. ثم التحق – حسب روايات متطابقة – بالمقاومة وجيش التحرير، قبل أن يلج السلك الإداري في المغرب المستقل، كعامل ووزير (الدفاع والبريد)، وغيرها من الوظائف الرسمية. إلا أن مشواره السياسي الفعلي ابتدأ حينما شكل مع عبد الكريم الخطابي، أحد رجالات المقاومة وجيش التحرير المغربي وأحد خدام المخزن الأوفياء أيضا، حزبا سياسيا (1958) أرادا به منافسة حزب الاستقلال الذي جاهد زعماؤه وخاصة المهدي بن بركة آنذاك، للاستفراد بالسلطة بعد الاستقلال. ولعل إحدى المحطات الغامضة في مساره السياسي أيضا، هي دوره والخطيب في أحداث الريف التي انفجرت أواخر سنة 1958 وانتهت بتدخل شرس للجيش ضد المنتفضين. أحرضان "تقاعد" الآن عن السياسة مضطرا، لكنه بالتأكيد سيظل شخصية مثيرة في المشهد السياسي المغربي المعاصر. هو كنز أسرار قد لا يسلم مفاتيحه لأحد. *إذاعة هولندا العالمية