شعري أنا قلبي...و يظلمني من لا يرى قلبي على الوَرَق يعتبر الشعر من الأشكال الإبداعية الفنية والتعبيرية الذي جادت به قريحة العرب عبر بحوره المختلفة الأوزان والأشكال، عبر مسيرة عشرات القرون من الإبداع والإتقان والصقل، استحق أن يكون الشعر بها ديوان العرب، بما يحمل من قيم و أخلاق ترقى بالإنسان وتسمو به، نال على إثرها الشعر وسام الفضيلة كما يقول الجاحظ :" الشعر فضيلة العرب". وسنخصص مقالنا هذا و في مقالنا هذا سنخصصه لمفهوم الشعر عند أحد المعاصرين ممن شغل الناس بشعره مدة من الزمن و ما يزال، وهو الشاعر السوري نزار قباني، و سنقتصر في ذلك على نثره دون شعره. تعريف الشعر عند نزار قباني: لقد اختلفت التعاريف التي أعطيت للشعر من الشعراء أنفسهم بل عند الشاعر الواحد( أعط نماذج للشعراء الذي فعلوا ذلك في الهامش) ، و هذا ما نجده عند نزار نفسه. فرغم أنه يقول بأنه لا يملك " نظرية لشرح الشعر" و لو كان عندي مثل هذه النظرية لما كنتُ شاعراً ." ويعقب شارحا سبب ذلك " أن المعرفة بما نفعله يعطّل الفعل ، تماماً كما يرتبك الراقص حين يتأمل حركة قدميه" ، إلا أنه حاول مرارا أن يمسك بتلابيب الشعر وإن أعجزته ماهيته فإنه لم يعجزه رسمه ولا تقسيمه ولا التمثيل له، يقول نزار مؤكدا على وظيفته "إن الشعر هو فن التوعية لا فن التعمية، ولا سيما في بلادنا التي تحتاج إلى ضوء نجمة تضيء ليلها الطويل، وإلى كلمة جميلة تنقلها من مرحلة أهل الكهف إلى مرحلة الفضاء" ، و مع ذلك فإن نزار يخشى من كثرة الكلام في الشعر التي تخرج به عن فضاءه الفني الجميل إلى عالم الثرثرة يقول: "الكلام الكثير في الشعر ليس في مصلحة الشعر، و الثرثرة كانت دائما ضد الشخص الثرثار. القصيدة الجيدة لا تحسب بالفدادين أو بالكيلومترات، بل بقدرتها على الإضاءة السريعة، كما يضيء البرق الدنيا بثانية.." فلا عبرة بهذا المعنى عند نزار للكم الشعري، و لا بعدد الدواوين أو القصائد و إنما بالكيف فالمعيار هو الجودة و الجدة. بهذا يكون الشعر عملا أدبيا يهدف إلى التغيير من حال سيء إلى حال أفضل منه و أحسن. يقول نزار "الشعر انقلاب بالكلمات يحاول تغيير وجه العالم ..انقلاب يقوم به عاشق..ليحوّل الأرض كلها إلى بستان للعشق. الشعر خطاب إنساني يتوجه إلى (الآخر).. و لا قيمة لشعر يخاطب الفراغ ..أو الملائكة ..أو يخاطب نفسه. الشعر فعل رقيّ و حضارة ، و بطبيعته مع الشمس ضد العتمة ..و مع الوردة ضد المسدّس...و مع الليبرالية ضد القمع..و مع الحب ضد الكراهية..و مع المشنوق ضد حبل المشنقة". و نزار هنا لا يكاد يخرج عن تعريف الجاحظ السابق الذكر " الشعر فضيلة العرب" إلا بتفصيل ما أجمل مع التمثيل لبعض معاني الفضيلة. شروط الشعر عند نزار قباني: " الشعر ..خطاب نكتبه للآخرين..خطاب نكتبه إلى جهة ما..و المُرسَل إليه عنصر هامٌ في كل كتابة ، و ليس هناك كتابة لا تخاطب أحداً ..و إلاَّ تحولت إلى جرسٍ يقرع في العدم. و أزمة الشاعر الحديث الأولى هي أنه أضاع عنوان الجمهور.." و يضيف متسائلا و مجيبا في الآن نفسه " لماذا يعيد موزّعُ البريد قصائد شعرائنا إليهم؟ لأنهم نسوا عنوان الشعب". لهذا نجد نزار قد راعى هذا الشرط في شعره فاهتم بمتلقي شعره فلم يتعال (الفعل مجزوم بحذف حرف العلة) عليه و لم يتكبر عليه ،و إنما تقبله كما هو بإيجابياته و سلبياته، فقبل أن يكتب الشعر أنصت لهموم القارئ العربي جيدا و فهمها ، فعبّر عنها بأحسن عبارة و أجود معنى لهذا بادله هذا القارئ الذي لطالما نُعت بأنه قارئ لا يستطيع فك ألغاز و رموز الشعر المكشوف منها بله المضمر. و لكن نزار كسّر هذه الخرافة عندما استعمل لغة قريبة من الجمهور يعرفها و يدرك ألفاظها و يفهم مضمونها، هذه اللغة التي سمّاها نزار باللغة الثالثة أو اللغة الوسطى فهي منزلة بين المنزلتين،بين العامية و العربية الكلاسيكية. و مما زاد من انتشار شهرة نزار في الآفاق و اتساع شعبيته ضمن الجمهورية العربية المتحدة للشعر هو غناء نخبة من المطربين والمغنين قصائده فأسمعت من به صمم. من هنا صح القول بأن" القصيدة مكتوبة أصلا لتصل إلى من كُتبت إليهم ...كما تتجه المراكب إلى مرافئها لتتزود بالوقود...و كل قصيدة لا تتجه إلى مرفأ ما تموتُ جوعاً و عطشاً" . من شروط الشعر كذلك عند نزار الصدق و الحسم و الشجاعة ، الصدق في القول و الحسم في الاختيارات و المبادئ و القيم، و الصدع بفضيلة الشعر أمام كل صور و أشكال الفساد و الاستبداد وأشكاله، يقول نزار: "لكي تدخل الناس حزبك الشعري ، لابد أن تكون صادقاً و حاسماً و شجاعاً. فالجماهير لا تصفق أبداً لشاعر يكذب عليها و لا تتسامح مع أديب مزدوج الشخصية، و مذبذب في أفكاره و مواقفه" ثم يضيف قائلا: "إن الشاعر الغشّاش لا مكان له بين الجماهير ، و كذلك الشاعر المهرّج..و الشاعر الذي يأكل من خبز السلطان ، و يضرب بسيفه". فالشعر عنده لا يقبل الخضوع لأي سلطة ، بل هو السلطة التي يُخضع لها فهو تعبير ثوري منتفض:" إن الشاعر الذي يعيش تحت جُبّة السلطة ، هو شاعر ساقطٌ أصلا..فالتاريخ لا يتذكر أبدا دراويش الشعر ، و الجالسين طول الوقت على أرصفة مدينة (نعم)..حسب تعبير الشاعر يوفتشنكو.." و الصدق الذي يشترطه نزار في الشعر يصل إلى حد التماهي و الانصهار التام بين الشاعر و ما يكتبه "فالشاعر الذي لاينعجن بموضوعه و لا يشتبك به اشتباكاً يومياً، يبقى خارج دائرة الضوء..." هنا تكمن ورطة الشاعر؛ إذ بمجرد قول الشعر يفضح كل شيء، من هنا تكون "الكتابة هي أعلى درجات التورُّط . هي فضيحة مكتوبة بحبر صيني غامق" . " و الشعر هو الفن الوحيد الذي لا ينجح فيه الخداع. من أول بيت في القصيدة يتعرّى الشاعر تماماً أمام الجمهور، و من سابع المستحيلات أن يبقى شاعرٌ ثلاثين عاما بغير ثياب أمام جمهوره" . و لكي يكون للأدب معنى صادقا لابد له من قضية و رسالة لكي يحيا و يستمر، فنزار لا يعترف بنظرية الفن للفن، إذ لابد للأدب من رسالة .يقول نزار :"الأدب لابد له من التزام بقضية ما فحياد الأدب موت له" . من شرط الشعر كذلك التحدي و المغامرة ، "إذ لا يوجد شعر حقيقي خارج التحدي و المغامرة" . و لهذا كان "الموقع الطبيعي للشاعر أن يسكن (في جفن الردى و هو نائم) كما قال سيّدنا أبو الطيب المتنبي" . و المغامرة التي يقصد نزار تعني تحدي الخوف إلى درجة الاستعداد للشهادة،و الموت في سبيل الشعر "و أن يموت الإنسان و هو يكتب الشعر ...خير له من أن يموت و هو يلعب الوَرَق..أو يدخن الشيشة... أو يتفرج على مسلسل عربي في التلفزيون. " فالشاعرالصادق بهذا المعنى "يجلس على قصيدة مفخَّخَة ...لا يدري متى تنفجر به ". إذ "ليس هناك مزاح مع الشعر .فإما أن يعطيك الميدالية الذهبية .و إما أن يسبب لك الذبحة القلبية" ... و من شروط قول الشعر و مقتضياته الإبداع في اللغة إذ الشعر رقصة باللغة كما يقول نزار و الصور الشعرية و إن احتفظ الشاعر بنفس المواضيع التي سبقه غيره إليها.و هنا تكمن عبقرية الشاعر .يقول نزار " إن عبقرية الشاعر تتجسد في قدرته الدائمة على افتراع كلام جديد لمواضيع قديمة...فالحب مثلاً مؤسسة عتيقة إلاّ أنها تحتمل دائماً كلاماً جديداً.. لا قيمة لشعر يعيدُ اكتشاف الأشياء المكتشفة، و يستعمل حجارة العالم القديم كما هي . و لتقريب المعنى للذهن أكثر يعقد مقارنة بين الطبيعة و الشعر لبيان الفرق بين الشعر المجدّد و الشعر المقلّد. يقول نزار "فالطبيعة تتحمل الإعادة و التكرار، أما الشّعر فلا يتحمّلها. الأرض تستطيع احتمال شجرتي زيتون متشابهتين ...و سنبلتي قمح متشابهتين ..و لكنها لا تتساهل أبداً مع شاعرين يقولان نفس الكلام.." ثم إن " السكن في بيوت الآخرين لا تريحُ و لا تدفئ..." الشعر موقف أخلاقي لا تصنّع فيه و لا تكلّف ، يقول نزار :" أن الشعر موقف أخلاقي من كل الأشياء و من كل الأحياء، إنه طهارة من الداخل و طهارة من الخارج، و لا أقدر أن أفهم كيف يستطيع شاعر يختزن السواد في أعماقه أن يكتب على ورق أبيض... بهذا المعنى يصير الشعر منبعا للخير كله و الفضيلة كلها. إن هذا الشعر الذي يلتزم بكل هذه الشروط الصارمة لا يمكن أن ينتج إلا "القصائد العظيمة التي لا تهرب و لا تلتجئ ..و إنما تسافر كالبرق من بلد إلى بلد، لتشعل حرائق الحرية في كل مكان" . وظيفة الشعر عند نزار قباني: إن وظيفة الفنّ عموما هي الملامسة، أي أنه ينبغي على الفن أن يعكس صورة مجتمعه كما تعكس المرآة صورة الوجه كما هي في الواقع دون مساحيق و لا رتوشات. لهذا آمن نزارب"أن الشعر هو حركة توحيدية، لا حركة انفصالية ...و أنه همزة وَصْل، لا همزَةُ قطع. و أنه فنّ الاختلاط بالآخرين، لا فنّ العزلة. و أنه فنّ الملامسة و الحنان، لا فنّ إلقاء القبض على الآخرين" و إكراههم على الاستماع إلى شعر لا يعكس همومهم و لا يساير حياتهم. كما آمن أن "الشعر موجود في عيون الناس ، و في أصواتهم، و في عَرَقهم، و دموعهم، و ضحكاتهم، و أنّ وظيفة الشاعر هي أن ينقل المشهد الشعبي الكبير" . لذلك تجمع الناس حول شعر نزار ليسمعوا حكايتهم، و ليشاهدوا الشريط الذي أخرجه عن حياتهم. من خلال كل ما سبق نخلص مع نزار إلى القول إن "الشعر هو الإنسان" . هذا الإنسان الذي ينشد نسيم الحرية و يرفض القيد بجميع أشكاله و صوره المتعددة و المتنوعة . كل هذا و غيره يعبر عنه الشعر بصور شعرية ترفعه عن "موعظة في كنيسة ...و بيان انتخابي لا يقرؤه أحد" . و رغم كل ما قاله نزار عن الشعر و عن وظيفته و شروطه، لكن عندما سئل مرة عن تحديد ماهيته أجاب دون تردد مستعملا بلاغة الاقتباس من القرآن الكريم قائلا:" و يسألونك عن (الشّعر)..قل (الشّعر) من علم ربي" . * أستاذ التعليم الثانوي التأهيلي