إن المتأمل في آيات القرآن الكريم والمتتبع لما يجري على أرض الواقع من ظلم و فواحش وكفر وتجبر وسكوت عن الحق، ليجد تسلسلات عجيبة و غريبة من الصعب تصديقها. فهاهم قوم نوح (عليه السلام) و قوم فرعون أغرقوا بكفرهم. وهاهي قبيلة عاد صُعقت بتجبرها، وهاهم قوم لوط أمطرت عليهم حجارة من السماء بفاحشتهم، وها هي ثمود أهلكت بظلمها، دون أن ننسى أصحاب السبت الذين مُسخوا إلى قِردة، ليس فقط الذين ظلموا منهم وإنما الذين لم ينهوهم أيضا. "" فالتأمل يدفعنا بطبيعة الحال إلى التساؤل عما جرى والاستفسار عما يجري...لماذا أَهلَكَ الله هذه الأمم بطغيانها على مد العصور ولم يهلك أمما طغت واجتمعت في عصرنا الحاضر؟ هل لأنه ينطبق علينا قول الله عز وجل "ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ" (الأنعام.131)، أم لأنه ينطبق علينا قوله عز وجل "وَمَا كَانَ رَبُكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بظلمٍ وَأَهْلهَا مُصْلِحُون" (هود.117)؟ وهل هذه الآيات تنطبق فقط على أمة محمد صلوات ربي وسلامه عليه، أم تنطبق على العالمين؟ هل هذه الأمم الظالمة كانت قد وُجدت في مكان معين أم كانت منتشرة في بقاع المعمورة كما هو الحال الآن؟ و ما الذي جرى لنا نحن المسلمون بالأخص؟ لماذا ظهر فينا الخبث و الفواحش أكثر مما ظهر في غيرنا من الأمم؟ بحيث كثُرَ الإلحاد وكثُر الغافلون، كثُرت الذئاب و كثُر المُغفلون، كثُر الفساد و كثُر النائمون، كثُر الطمع و كثُر الجائعون، كثُر الترف و كثُر المُتسولون وكثُر الظلم و كثُر المتفرجون؟ لماذا ظهر عندنا القتل باسم الدين، ويسميه بعضنا إرهابا والآخر جهادا، وهو استثناء لأمتنا، و مُضحك ومُخيف عند أمم أخرى؟ هل لأن الشياطين تحب بلادنا أكثر مما تُحب البلاد الأخرى؟ أسئلة أرَّقت ذهني ولم أجد لها جوابا. فما الذي جرى و يجري؟ مُؤخراً وفي زيارة لمدينة وجدة، كنت أجلس مع صديق لي على رصيف لمقهى ليلي و نحن نناقش آثار الأزمة العالمية على اقتصاديات الدول، وإلاّ بنا نرى شابا في العشرينيات يسبُّ شرطيا بأقذر الشتائم وأحطّها والشرطي مُدير ظهره وكأنه لا يسمع. فسألت صديقي عما يجري؟ فأجاب: إنه " المخدر القرقوبي". قلت لا، إني أسأل عما جرى للشرطي، لماذا لم يقم بالقبض عليه أو على الأقل بمطاردته؟ فقال: إنه "الخوف". تساءلت: الخوف من ماذا؟ فالشاب يسب الشرطي على بعد يزيد عن 20 متر، مما يدلُّ على خوفه أيضاً. و نحن الجلوس في المقهى، لم نُحرِّك ساكناً وكان يزيد عددنا عن 30 نفرا. هل كنا نحن أيضاً خائفين أم فقط كنا مُتفرجين نستمتع بطلقات أحطّ الألفاظ، حتى أنه خُيّل إلي و كأن الشياطين تقوم فوق رؤوسنا بحفل تكريم لإبليس. (لا أدري إن كنت سألعنُه أم ألعن أنفسنا). تأملتُ المشهد قليلاً وقلت: "سبحان الله، نسوا الله فأنساهم أنفسهم" أي بمعنى: نسوا خوف الله فأخافهم الله أنفسهم، وسكتوا عن الظلم فأنزله الله بهم. قال لي صديقي: لا تهتم، إن هذه الأمور أصبحت جد عادية بالنسبة لنا، و ما عليك إلا أن تتأقلم و تُأقلم أهلك قبل أن تعود إلى أرض الوطن. سئلت نفسي: هل يمكن بناء مجتمع على أسس كهاته؟ كيف أننا أصبحنا نعتقد و نؤمن على أن كل ما يجري على الأرض هو من المُسَلّمات؟ هل يمكن أن نغير واقعنا دون أن نغير أنفسنا؟ هل مجد أمتنا هو فقط بأيدي المسؤولين و المنتخبين مناً؟ هل سوف نعهد تنظيف عقولنا و قلوبنا إلى شركات كما عهدنا إليهن تنظيف أزقتنا و نحن نتبول في كل ركن حتى و أن حيطان المساجد لم تسلم هي الأخرى، و نرمي بالقاذورات من دون محاسب أو زاجر؟ كيف يمكن تطهير مجتمعنا من هذا السرطان دون أن يضعفَ فيتساقط شعره أو ينتفخ فتنفجر طاقته؟ أسئلة مُتراكمة و مشاكل تتراكم أكثر فأكثر، الخناق يضيق و الآتي يبدو أخطر، الأمواج تتعالى و نحن على وشك الهلاك في قاربنا الصغير، و ليس هناك فضل للذكر على الأنثى و لا للغني على الفقير. كلنا معنيون، فما نحن فاعلون؟ إن داءنا وراثي وطبيعي عند البشر، منبعه الخوف من الغد و من المجهول، و أعراضه عدم الاكثرات لمحاسبة النفس. وهل عيب أن نقف وقفة تأمل نستفسر فيها عن حاضرنا ونسأل فيها عن ماضينا و نتساءل عن مستقبلنا؟ هل سألنا عن أجدادنا كيف كانوا وكيف تغلبوا أو نجوا من هذا الوباء بالرغم من أنهم كانوا أكثر منا فقراَ وأقل تقدما؟ هل تساءلنا عن مستقبلنا وعن من سوف يخلفنا و يعولنا و نحن شيوخ؟ هل فكرنا أنه ليس هناك مستقبل من دون أخلاق؟ لقد منًّ الله عز وجل علينا و على أجدادنا بالإيمان من قبل، لكننا نسيناه من بعد ما جاءنا العلم. أصبحنا نؤمن فقط بما هو ملموس و مشهود و نكفر بما دون ذلك، نؤمن بما هو مادي و ننسى ما هو روحي ، علما بأن المادة سُخرت لخدمة الروح و أن الروح هي السيدة و ليس العكس. فكل مادة إلا و هي فانية و كل روح إلا و هي خالدة ينتظرها أحد المصيرين، إما جنة و إما نار. فالإيمان بالله ليس هو الإقرار بوجوده فحسب، و إنما طاعته في كل ما أمرنا به و نهانا عنه. فكيف بنا نفتخر بكل ما صنعته أيدينا و أيدي الآخرين، ونقرأ طريقة استعماله للحيلولة في وقوع عطل؛ و ننسى صانعنا و خالقنا، و طريقة استعمالنا التي أوحاها الله إلينا لكي لا نتعطل؟ فلو أننا امتثلنا، ما كان يجدر أن يقع فينا ما وقع من وباء و ما كان ليحل فينا ما حل من شقاء. قال لي صديقي: يا محمد، إن الناس كرهت من الدين وسماسرة الدين الذين يعتلون المنابر، إن الناس تريد تغييرا من نوع آخر. والتغييرات التي تَنشُدها لن تؤتي أكلها في مجتمعنا. فسألني عن الإيمان. فقلت إن الإيمان هو أن تؤمن بالله و كأنك تراه، و إن لم تكن تراه فإنه يراك. سألني إن كنا مُصيرين أم مُخيرين. فقلت إننا مصيرون في جوانب من هذه الحياة، لكننا مخيرون في معظم الجوانب الأخرى كالإيمان مثلا و الذي يُعد ركيزة الحياة. فمن حقك أن تؤمن و من حقك أن تكفر. سألني عن الغيب و كيف أن الله يعلمه. فقلت بما أن الله واسع عليم أي أكبر من السماء و الأرض ومن الكون كله، و هو نور يغشى كل مكان، فهو معنا. و بما أن الله جل جلاله يقول في كتابه العزيز: "وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ" (الحج.47). سأحاول بمفهومي الضيق أن أحلل هذه الآية: فلنفرض أن اليوم عند ربنا مُقسّم بالساعات كما هو الحال في دنيانا، أي يومه الذي يساوي 24 ساعة يساوي ألف سنة من سنواتنا. فإذا عشنا 100 سنة، فنحن لم نعش إلا 2,4 من ساعات الله. و إذا عشنا 50 سنة، فنحن لم نعش إلا 1,2 ساعة من ساعات الله أي 72 دقيقة. وعندما نكون قد عشنا 70 سنة، فنحن لم نعش إلا 100 دقيقة من توقيت الله. إذا و من هذا المنطلق، يمكن فهم جانب من جوانب الغيب. و هذا بطبيعة الحال تفكيري الشخصي و أنا مسؤول عنه. رد صديقي قائلا: لنفترض أنني إنسان ملحد، و الملحد دائما لا يحاول مناقشة فكرة، وإنما يريد أن يوقعك في حفرة. فإنك لم تقنعني، فبماذا ترد؟ أجبت قائلا " أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّار". قال: لو افترضنا أننا مُصيرون، فيمكن أن نشبه الغيب بكاسيت فيديو، أي أن الله عز و جل خلقنا من قبل و هو يعرف ما اقترفناه و ما سوف نقترفه من خلال تفرجه على هذه الكاسيت ثانية. فأجبته على أن كل شيء ممكن. رددت الجملة ثلاث أو أربع مرات من دون أن أكون متيقنا مما أقول، و كأني أريد ربح الوقت لأجد جوابا مقنعا، و إلا... تحضرني الآية الكريمة "قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ". توقفت قليلا و نظرت إليه مليا...و قلت: بل إنها حقيقة، إننا مبعوثون. تليتُ عليه الآية الكريمة.سألني إن كنت متيقنا ثم أردف قائلا: إن وُجدت هذه الآية، فهي تثبت هذه النظرية. قلت: لا، و إنما تثبت أن الله ليس بظلاّم للعبيد، و أن الله رحمنا فمنحنا فرصة ثانية. قال: ربما حياتين تعني حياة الدنيا و حياة الآخرة. و موتين يعني الموت الذي سوف نموت و الموت الذي لم نكن موجودين. قلت: لا. إن ربي يملك علم الكلام و علَّمنا ما لم نعلم و قد أنزل القرآن في بيئة اشتهر قومها بالبلاغة، إذ لا يمكن إطلاقا أن يخلط ما بين خلقَ و أحيَا. طلب مني أن لا استعجل قبل مراجعة تفاسير القرآن الشيء الذي وافقت عليه مبدئيا، ولو أنه سبق لي أن قرأت القرآن الكريم مرات عديدة، لكني لم أكن من حفظته، بل كنت من متأمليه. ولم اهتم يوما بقواعده، بل بمعانيه. و لا أخفي كم مرة حوصِرت بين أسئلتي لأجد نفسي كقزم صغير يعيش بين ملايير الأقزام فوق أرض معلقة في الهواء و في دوران مستمر، بل أكثر من ذلك، لأجد مِضَخَّة مُعلقَة في صدري تضخ سائلا أحمرا إلى عقلي المتسائل و هو عاجز عن فهم ما يجري. كل ما يعلمه، هو أن هناك روح ساكنة في هذه المِضخّة، فإذا ما خرجت، توقفت المِضخَّة عن الضخ وسقط الجسم على الأرض؛ إنه الموت. فلا يسع عقلي إلا أن ينحني إجلالا و إكبارا لله و لسان حاله يقول: "آمنا به، كل من عند ربنا". رجعنا إلى البيت و الساعة تشير إلى الرابعة صباحا. أبت نفسي أن تنام بعد أن أحست أنها ليست في امتحان عادي بهذه الحياة، بل هو امتحان الدورة الثانية، و من الهول والعيب و الحماقة أن تنام قريرة العين و هي تدرس في مدرسة معظم طلابها خاسرون. حاولت استدراك كل ما كنت قد قرأته عن الخلق و البعث، و عن الموت والحياة و أنا أتصفح القرآن الكريم على صفحات الإنترنيت. بدأت بالآية "قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ" (غافر.11)، فقرأت تفاسير ابن كثير والقرطبي و الطبري لهاته الآية كما وعدت صديقي، ووجدت أن هناك من يقول: (أُميتوا في الدنيا ثم أُحيوا في قبورهم، فخوطبوا ثم أميتوا، ثم أحيوا يوم القيامة) و منهم من يقول (أحيوا حين أُخذ عليهم الميثاق من صلب آدم عليه السلام، ثم خلقهم في الأرحام ثم أماتهم، ثم أحياهم يوم القيامة) و هناك قول ثالث يقول (أنهم كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم، فأحياهم الله في الدنيا، ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها، ثم أحياهم للبعث يوم القيامة، فهما حياتان و موتتان). حاولت تطبيق هذه التفاسير على الآية الكريمة الأخرى: "كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاَللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" (البقرة.28)، فزدت كلمة "في القبور" لفعل "فأحياكم"، أي "فأحياكم في القبور، لكي يتضح أن الآية تصبح مبهمة؛ و صبغت فعل "فأحياكم" بفعل "فخلقكم"، فأصبحت الآية أكثر إبهاما. لم أجد في هاته التفاسير جوابا لما كنت أبحث عنه، فهي بطبيعة الحال اجتهادات، و كل إنسان حر في أن يجتهد و يبحث. لكن ما شد انتباهي هو أن تفاسير هذا السلف الصالح جاءت في القرن الثالث و القرن الثامن هجري؛ فبيئتهم كانت تختلف عن بيئتنا و كذلك حياتهم، و بالتالي جاءت تفسيراتهم استنادا لإيمانهم و براءتهم مع العلم أن القرآن الكريم كان و ما زال صالحا لكل زمان و كل مكان. لا أخفي أني تساءلت من قبل بعدما أن كانت زوجتي التي أسلمت تسألني عن مصير أمها التي ماتت و هي لم تسمع أو تعرف شيئا عن الإسلام. هل يمكن أن يعذب الله عز و جل أناسا لم يؤمنوا به و لم يشهدوا له بوحدانيته بالرغم أنه لم يأتهم نذير؟ أو يعذب أناسا ضلوا السبيل بالرغم أنه لم يأتهم منير؟ و هل توجد جنة و نار قائمتان الآن؟ فالله عز وجل عندما قال: " أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (البقرة.259)، وقوله:" أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ (أي بالآلاف) حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ " (البقرة.243)، فذلك يُبين لنا أن الله قد أحيا الموتى من قبل و هو على كل شيء قدير. و عندما قال: " قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ "(الزمر.53)، فمعناه أن رحمته تعالى وسعت كل شيء. و قوله أيضا: " مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ "(ق.29)، و كذلك " إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا"(النساء.58). فذلك يدل على أنه عادل و يحب العدل و يعظنا بالعدل. فمن هذا المنطلق، أي منطلق العدل و الرحمة و القدرة على إحياء الموتى، سأسرد بعض الآيات وتفسيرها: ا- "كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاَللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ"(البقرة.28). ب- "يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَة (أي النار)، أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً، قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ " (النازعات.10-12). ت- "قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ"(غافر.11). فالآية (ا) هي توبيخ وأمر بالإقلاع عن الجحود بقدرة الله في إحياء الموتى، و الآية (ب) هي تشخيص ليوم القيامة والبعث، بحيث يتساءل الجاحدون و المكذبون عن مصيرهم الذي هو الرجوع إلى النار بعدما كانوا قد أُخرجوا منها، و بعد أن كانوا عظاما مفتتة، و إقرارهم على أن رجعتهم هذه هي رجعة خاسرة. وأما الآية (ت)، فهي تجسيد للحساب الأكبر، و اعتراف من المكذبين بذنوبهم و طلبهم لفرصة ثالثة بعد أن ضيعوا فرصتين من قبل. ج- "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسلِمونَ، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ"(آل عمران.102-103). ح- " وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور"ِ (المائدة.7). خ- "وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا" (الإسراء.15) فالآية (ج) هي موعظة و حث على التقوى و الموت بقلوب مسلمة، وهي كذلك تنبيه للتمسك بدين الله و التذكير بنعمه، مع التركيز على الأُلفة بين قلوب المؤمنين و إنقاذه إياهم من الوقوع في النار، و الآية (ح) هي تذكير ِبنعم الله على المؤمنين و بالعهد الذي عاهدوا الله عليه من قبل إذ قالوا سمعنا و أطعنا مع عدم الإخلاف بالوعد، و التنبيه إلى علمه بما في صدور الخلق. و أما الآية (خ) فهي تعتبر قمة العدل في الإنذار. فالسؤال الذي يتبادر إلى الأذهان هو: هل هذه الآيات كانت موجهة لصنف واحد من المؤمنين دون غيرهم في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ أم هي موجهة لكل المؤمنين و كل الناس؟ ومن هؤلاء الجاحدون الذين سيعودون إلى نار جهنم بعدما كانوا قد أخرجوا منها؟ و من أبرم الميثاق مع الله جل جلاله و قالوا: "سمعنا و أطعنا"؟ أهم المؤمنون ذي قبل أم نحن المؤمنون الجدد أم الناس أجمعين؟ ر- " وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ" (الانعام.133). فالآية تبين لنا أن ربنا عز و جل يخاطب رسوله الكريم صلى الله عليه و سلم، و يتفضل علينا برحمته، فهو قادر على أن يهلكنا و يستخلف من بعدنا ما يشاء كما أنشأنا من ذرية قوم آخرين. فلو حاولنا تدبر هذه الآية...فالله عز جل قادر على أن يذهبنا و يستخلف من بعدنا ما يشاء و هو مما لا شك و لا إشكالية فيه. لكن الإشكالية أو السؤال يبقى هو كيف أنه سبحانه و تعالى أنشأنا من ذرية قوم آخرين؟ فكلنا يعلم أن لكل ذرية أب و نحن ذريات أبائنا. فكيف و لماذا أنشأنا الله عز و جل من أبناء قوم آخرين؟ و للإجابة على هذا السؤال، لا بد أن نربط بينه و بين الآية "كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاَللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ"، ليتبيَّن لنا و بوضوح أننا كنا قد خُلِقنا ثم أُمِتْنا، و عُرِضْنا على الواحد القهار، فلم نكن على الإطلاق من أصحاب الجنة، و إنما كنا من أصحاب النار. فرحمنا الله برحمته الواسعة، فأنقذنا منها وأنشأنا من ذرية قوم آخرين بعد أن قلنا سمعنا و أطعنا، حيث أرسلنا مجددا إلى الدنيا وأرسل فينا رسولا لقوله عز و جل: "وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا" و ذلك لكي لا يكون للناس على الله حجة يوم القيامة. س- " وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ " (آل عمران.169-170). ش-"النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَاب " (غافر.46). فالآيتان تبين و بوضوح أن الجنة و النار قائمتان، فهناك من هو في رضوان الله و هناك من هو في النار ومن بينهم فرعون الذي يمثل عصب الشرك، بحيث أن الله عز و جل لا يغفر الشرك و الإلحاد و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء. ص- " كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ" (القصص.188). م- "كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ" (الرحمن. 26-27). فالآيتان توضحان أن كل شيء هالك و له نهاية و يبقى وجه ربنا ذي الجلال و الإكرام. لكن... سبق و أن وعدنا ربنا أن أصحاب الجنة و أصحاب النار هم فيهما خالدون، و نحن نعلم أن هناك من هم في الجنة و من هم في النار كما سبق ذكره. فهل هذه الآيات تتعارض مع ما سبق من آيات أخرى؟ و الجواب جزماُ لا. لأن الله سبحانه و تعالى يقول في أصحاب الجنة: "لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ" (الدخان.56). وكذلك في أصحاب النار: "فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ" (الجاثية. 35) ي- "الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ"(الملك.2). فالابتلاء معناه الاختبار. و لا يجوز لأي كان أن يمتحن شخصا أو طالبا مهما كان في مادة لم يسبق لهذا الأخير أن درسها أو سمع بها فيحكم عليه بالخسران، و إنما يرجئُه لدورة ثانية لكي يتسنى للممتحَن أن يطَّلع على مقرر الامتحان ويُجهز نفسه. هذا بالنسبة لنا و ما هو متعارف عليه لدينا. فكيف بالعدل، الغفور، الرحيم، التواب، اللطيف، الكريم، الودود، العفو، الرؤوف، المُقسط، المُعين، النافع، الهادي، الرشيد، الصبور أن لا يُرجئ عباده؟ بلى، إنه على كل شيء قدير. نِعمَ الرب و نِعمَ ما يأمرنا به. فالقرآن الكريم هو عبارة عن مجمع للآيات، و الآيات هذه هي كلام الله للناس، و كلام الله هو الامتحان نفسه. فمن رحمته أنه لم يُضيق علينا، و إنما أجاز لنا الاستعانة بأي مصدر نختاره و أن نفتح الكتاب كلما اختلطت علينا الأشياء بل و يسَّره للذكر، و منحنا الوقت الكافي للإجابة فلا يُعذر أحد على غفلته. لا أخفي أني كنت يوما من الغافلين، لكن كثرة المبشرين ’’شهود يهوه‘‘ الذين دقوا بابي جعلتني استيقظ من سباتي. لم ارضَ يوما أن أساق كما يساق القطيع من الغنم. ففتحت كتاب الامتحان و فتحت كتب من درسوا قبلنا، قرأت القرآن و الإنجيل و التوراة، فتبين لي أنه الحق. حاولت المقارنة بين الكتب الثلاثة، فوجدت مصدرها واحد، إذ كلها تدعو إلى الإخاء و العدل و التسامح ، إذ هي ببساطة كتب أخلاق وقيم عظمى. لكن ما شد انتباهي، هو ليس أن حقبة من درسوا قبلنا لم تخل أيضا من المُشوِشين، و إنما طالت أيديهم لتُحرّف بعض فقرات الكتاب و تعمى عن فقرات أخرى، مما جعل الذين يؤمنون بهذا الكتاب من الضَّالين. إذن، ونحن بهذه الحياة، نحن في امتحان. و هل هو امتحان الدورة الأولى للبعض أو امتحان الدورة الثانية للبعض الآخر؟ أم امتحان الدورة الثانية للكل؟ هذا ما لا يعلمه إلا الله سبحانه و تعالى الذي استأثر بالغيب عنده. ما يهمنا هو هل نحن مستيقظين من غفلتنا. و ما توفيقي إلا بالله. [email protected]