مناسبة هذا المقال، ما قاله وفاه به بلفظ ناصع البياض، وبيان إنساني مبين، أمام حشد حاشد، قداسة البابا فرنسوا في أثناء زيارته التاريخية غير المسبوقة إلى مدينة مرسيليا، يوميْ الجمعة والسبت 22 و23 شتنبر 2023. هذه المدينة التي اعتبرها مرآة الإنسانية، ومرآة البحر الأبيض المتوسط لغناها اللغوي والإثني، وتلاقحها الثقافي والهوياتي والحضاري. وتجدر الإشارة إلى أن الزيارة إلى فرنسا لم يقم بها أي بابا منذ ما يزيد على خمسمائة عام. من هنا، قيمتها التاريخية، واعتبارها الديني، وبعدها الإنساني. خطاب البابا كان خطابا سياسيا وإِنْ مَتَحَ من حياض الأناجيل، وربط روحها ورؤاها الدينية بواقع الناس راهنا، واقع "المعذبين في الأرض" بتعبير فرانز فانون وطه حسين. خطاب منحاز إلى الضعفاء والفقراء، وذوي الحاجة. منحاز، كلية، إلى المهاجرين والمُهَجَّرين الذين يموتون يوميا غرقا في عرض البحر الأبيض المتوسط بالمئات، بل بالآلاف، علما أنهم مخلوقات آدمية، وكائنات إنسانية لا أرقاما وجثامين مُزْرَقَّة مُحْصاة كما جاء في كلامه، ناشدا، من ثمة، أوروبا والدول الغربية قاطبة أن تفتح أذرعها وأبوابها لهؤلاء الأفارقة وغير الأفارقة الهاربين من الجوع والفقر، كي تأويهم الإيواء الكريم، وتحسن استقبالهم لأنهم إخوة لنا فيما قال، وفي ما دعا إليه المسيح عليه السلام. وهذا يعني فيما يعنيه، أنه يسائل منسوب الإنسانية المتبقي لديهم، وحقيقة تمدنهم وأخلاقهم من عدمها. ونحن أحوج ما نكون سَبْقاً إلى مثل هذا الكلام. أليس لنا أئمةٌ وفقهاءُ، ورجالُ دينٍ متنورون؟ لِمَ لا ينبسون ببنت شَفَةٍ في هذا الأمر الجَلَل، وهذه المحنة الإنسانية المأساوية التي تطالعنا كل يوم؟ أم إن الخوض فيه مقصور على أصحاب القرار السياسي، الحاكمين الزمنيين، ذوي السلطة والنفوذ والنفاذ، والكلام الأخير؟ صارت الحيتان وقد نفد صبرها تنتظر الآتين المقبلين بالدزينة والزرافات، ليحلوا أكلا سائغا، وطعما شهيا ببطونها. صارت تفعل ذلك مثلما ينتظر خفر السواحل، وحراس الحدود والأسوار والغابات والسياجات، نزول العشرات من الأفارقة الذين كتبت لهم النجاة، وكتب لهم العمر الطويل، ليشبعوهم شتماً وسبا، وتحقيراً، وركلا، وضربا مبرحا، وألواناً شتَّى من الإهانات والإذلال. وللمرء أن يسأل، في أسى وحسرة، وألم أليم: ما الذي دعا ويدعو آلاف الأفارقة للنزوح الذي لا يكل، والرحيل الذي لا يهدأ، والهرب المتواصل من أوطانهم، وهم يعلمون حق العلم بالخطر الذي يتربص بهم، ويعرفون الشظف والوَعْثاء التي تُحيق بهم؟ يعلمون أن منجل الموت سيحصدهم كما حصد سابقيهم، الموت الذي يتلبس هيئة جبالِ مياه شُمٍّ: ظلماتٌ فوق ظلماتٍ، وأمواجٌ هادرة عاتية تطوي المراكب والقوارب، ومن فيها وعليها طيَّ كتاب. لماذا إفريقيا التاريخية، إفريقيا المناضلة، أُمُّ القارات، ومهد الإنسانية، قارة بائسة، وساكنتها تعلك لبان الحاجة والعَوَز والحرمان، مع أنها قارة غنية بمواردها البشرية، ومواردها الطبيعية ما ظهر منها وما بطن. وغنية بما لا يقاس بتراثها وتاريخها السحيق، وشعرها، وأساطيرها، وثقافتها وحضارتها المميزة، وهويتها المفارقة والمركبة؟ لماذا تظل هدفا ودريئةً لسهام النقد المجاني المتحامل، والنقد الموضوعي النزيه معاً، ومرْمىً للقدح والعيب والعار؟ وكيف صار حتى استسلم مواطنوها وقاطنوها لقدر "أحمق الخطى"، قاسٍ، وواقع بائس، وآتٍ قَطْراني؟ صحيح أن مفكريها ومبدعيها وموسيقييها، ومغنيها، ما فتئوا يعرون واقعها، ويشيرون باللسان الفصيح، والرمز، والإشارة، والأصابع، إلى مكمن الداء والشر. وبالفم المليان، والطمطم الغضبان، والجاز الولهان، والشعر المرنان، إلى مصدر من كان سببا في ما آل إليه واقعها وحاضرها بعد الاستقلالات الناقصة، أو الاستقلالات المطبوخة. هل أصبحت إفريقيا قارة جائعةً سَغْبَى إلى هذا الحد: فقْرٌ وقَفْرٌ وإمْحال؟ وأين مناضلوها وثوارها الذين قادوا شعوبهم إلى الاستقلال، وحرروهم من نير فرنسا، وانجلترا، والبرتغال، وبلجيكا وإيطاليا؟ ألم يقسموا بدماء من سقطوا شهداءَ يسقون شجر الحرية بدمائهم الزكية، أَنْ يُفْدُوهم بكل ما في طوقهم، وما في وَسْعِهم من نضال مستميت، وثقافة مستنيرة، وفكر حر، وانتماء متين، وتعويضهم عن الخسائر الفادحة المادية والمعنوية والعمرانية والبشرية، متى ما أصبحت بلدانهم طوع أياديهم، وشعبها وثروتها، وما تدخره من كنوز وخيرات ونِعَم، رَهْنَ طلباتهم ورغباتهم؟ فهل نَسِمُهم بالمتراجعين المتخاذلين الذين ولَّوْا ظهورهم لِمَا أقسموا به وعليه، وتراجعوا عما عقدوا العزم عليه، ونتهمهم بالجحود والنكران، والكلامولوجيا والبهتان لأنهم نقضوا العهد، ونرميهم بالخيانة بسبب تواطؤهم المفضوح والخفي مع المستعمر، والأقدام السوداء؟ لكن، أيكون ذلك غاب عن قداسة البابا فْرَنْسْوا وهو يدعو الغرب إلى إكرام وِفادة الأجنبي، ويحط "رحاله" بسواحلهم ومدنهم بعد أن يتخطوا الموت، هذا إِنْ تخطوه ونجوا من شراهة الحيتان، وظلم الإنسان، وشراسة الأمواج؟ فإذا كانت كلمات البابا ذهبية قمينة برجل ذي مرتبة أسمى، ومكانة أعظم في سلم التراتبية المسيحية الكاثوليكية، بما هو ملكها الديني، وزعيمها المقدس، لأنه ذَكَّرَ فرنسا وصواحب فرنسا بدورهم في ضم اللاجئين أيا كان جنسهم ولونهم، ولغتهم، ودينهم، ومنحهم فرصة الحياة، وهو شيء مطلوب ومرغوب ومُبَجَّل، فإنه كان عليه أن يولي كلماته أيضا شطر القادة الأفارقة المسيحيين والمسلمين واللاَّدينيين، كي يُحِقُّوا الحق، ويؤدوا الأمانة على أكمل وجه، ويمتعوا مواطنيهم بأرزاقهم، وثروات أراضيهم، ويكفوهم غائلة الجوع والتسول والاسترزاق، ويكُفوا، بالتالي، عن كنز الذهب والفضة، وما يغدق عليهم البترول والغاز والأورانيوم، وغيره، من هائل الثروة، وفادح المال. أن يكفوا عن حلب ضَرْع البقرة، فإنها صفراء فاقعٌ لونها، ومنهارة صحتها، ويابسٌ هيكلها. يا للحسرة... أين هي تلك الأحلام التي رسمها شعراء إفريقيا، وصدحوا بها في دواوينهم، وعبر أغاني مغنيهم، وطماطمهم التي تتصادى لها الأرواح؟ أين هي؟ لم يبقَ منها إلا الصدى الأجوف، والحروف التي بهتت بعد أن لمعت، وجلجلت، وبشرت بإفريقيا جديدة، إفريقيا مستقلة وحرة، وإفريقي حر سيّد يرفل في حلل الضياء، وبحبوحة العيش، ولباس العز والكرامة والكبرياء. أين ذهبت أشعار ليبولد سيدار سنغور وغير سنغور، وإيمي سيزير المارتينيكي، وغيرهم من شعراء أفارقة آخرين عبروا بالفرنسية والإنجليزية، والبرتغالية؟ وأين هي تلك الخطب النارية المفوهة للقادة الثوار التي كانت تزلزل فؤاد الاستعمار، وتملؤنا حماساً وغبطة ونشوة وانتصاراً؟ هل أمست أثراً جميلا مدغدغاً يُقْرَأُ فقط، ونستنيمُ لقراءته، وبديع وصفه، ورائع صوره ولغته، وأليم أنفاسه وأساه، وحلمه بإفريقيا قادمة، إفريقيا أخرى لا إفريقيا اليوم، إفريقيا الراهنة التي تُدْمي القلب، ونحن نراها وقد صارت بؤرة أمراض، وقٍبْلة انقلابات عسكرية، وموطنَ جوع ومواجع وتشريد، وإرهاب. تَلِدُ وتتوالد لترميَ بما تلد إلى البحر، إلى الأبيض والمحيط، وإلى غابات السافانا السامة التي تئِزُّ بأجراس الحيات والثعابين المميتة القاتلة؟ وأين هي القيم والمثل العليا، والمبادئ الإنسانية، والشعارات البراقة التي جاءت بها الثورة الفرنسية، وجاء بها مفكرو ومبدعو الأنوار الذين أعلوا من قيمة الإنسان، وجعلوه مقياس كل شيء كما قال بذلك، في الزمن البعيد، الفيلسوف الإغريقي بروتاغوراس؟ إن الواقع الغربي اليوم يقول بعكس ذلك. يقول بالإنكار والنكران التام لتلك الأنوار من خلال سلوكياته، وممارساته، ومعاملاته مع الغير، مع الآخر العربي المسلم في المقام الأول، والإفريقي ثانيا، ناكرا وجاحدا جميلَ الأيادي المغاربية والإفريقية التي أعلت بنيان الغرب، وساهمت بسواعدها وعقولها وتضحياتها الحربية أيضاً ليكونَ ما هو عليه الآن. فمن يعيد الفكر الأنواري إلى الخطب، والعقول والأفئدة، والأغورا، والسياسة، والثقافة، والاقتصاد، والإنسان؟ ومتى يهتدي الرؤساء والزعماء الأوروبيون إلى تراثهم المنير، تراث القرون السابقة: السابع عشر والثامن عشر، لِيُبَنِّكوا القيمَ والمُثُلَ والأفكار العظيمةَ مكانَها، فيستضيئوا بها، ويعلنوا، من ثمة، الحرب على أنفسهم الأمَّارة بالسوء، وينزعوا المضغة السوداء من قلوبهم، ويصححوا مواقفهم، وينبذوا آراءهم العنصرية، ويدونوا صفحة إنسانية كونية جديدة؟ تنويه: "المقبرة البحرية" هي في الأصل عنوانُ نص شعري بديع وشاهق للشاعر الكبير الفرنسي بولْ فاليري (1871 1945)، لا علاقة لها بمحتوى وفكرة المقال. فوجب التنويه.