كيفية تثبيت تطبيق الهاتف المحمول MelBet: سهولة التثبيت والعديد من الخيارات    والي بنك المغرب يعلن الانتهاء من إعداد مشروع قانون "العملات الرقمية"    "هيئة تحرير الشام" تخطط للمستقبل    8 قتلى في حادثتين بالحوز ومراكش    27 قتيلا و2502 جريحا حصيلة حوادث السير بالمناطق الحضرية خلال الأسبوع المنصرم    فينيسيوس أفضل لاعب في العالم وأنشيلوتي أحسن مدرب    قطاع الطيران... انطلاق أشغال بناء المصنع الجديد لتريلبورغ    بنك المغرب يخفض سعر فائدته الرئيسي إلى 2,5 في المائة    جوائز "الأفضل" للفيفا.. البرازيلي فينيسيوس يتوج بلقب عام 2024    تشييع رسمي لجثمان شهيد الواجب بمسقط رأسه في أبي الجعد    المغرب والسعودية يوقعان بالرياض مذكرة تفاهم لتعزيز التعاون في مجالات التحول الرقمي الحكومي    القنيطرة.. افتتاح معرض لإشاعة ثقافة التهادي بمنتوجات الصناعة التقليدية    الرباط.. انعقاد اجتماع لجنة تتبع مصيدة الأخطبوط    إحصاء 2024: الدارجة تستعمل أكثر من الريفية في الناظور    صحيفة 'لوفيغارو': المغرب يتموقع كوجهة رئيسية للسياحة العالمية    العام الثقافي 'قطر-المغرب 2024': الأميرة للا حسناء وسعادة الشيخة سارة تترأسان بالدوحة عرضا لفن التبوريدة        رسمياً.. المغرب يصوت لأول مرة بالأمم المتحدة على وقف تنفيذ عقوبة الإعدام    المغرب "شريك أساسي وموثوق" للاتحاد الأوروبي (مفوضة أوروبية)    مجلس الشيوخ الشيلي يدعم مبادرة الحكم الذاتي في الصحراء المغربية (سيناتور شيلي)    كلمة الأستاذ إدريس لشكر، الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، خلال اجتماع اللجنة الإفريقية للأممية الاشتراكية    فيفا ينظم بيع تذاكر كأس العالم للأندية‬    بنعلي: رفع القدرة التخزينية للمواد البترولية ب 1,8 مليون متر مكعب في أفق 2030    ردود فعل غاضبة من نشطاء الحركة الأمازيغية تُشكك في نتائج بنموسى حول نسبة الناطقين بالأمازيغية    84% من المغاربة يتوفرون على هاتف شخصي و70 % يستعملون الأنترنيت في الحواضر حسب الإحصاء العام    لماذا لا تريد موريتانيا تصفية نزاع الصحراء المفتعل؟    الأميرة للا حسناء تترأس عرض التبوريدة    دفاع الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال يؤكد أن وضعه الصحي في خطر    النظام الأساسي لموظفي إدارة السجون على طاولة مجلس الحكومة    تحقيق قضائي لتحديد دوافع انتحار ضابط شرطة في الدار البيضاء    ارتفاع معدل البطالة بالمغرب إلى 21% مع تسجيل ضعف في نسبة مشاركة النساء بسوق الشغل    مراكش.. توقيع اتفاقية لإحداث مكتب للاتحاد الدولي لكرة القدم في إفريقيا بالمغرب    كنزي كسّاب من عالم الجمال إلى عالم التمثيل    حاتم عمور يطلب من جمهوره عدم التصويت له في "عراق أواردز"        ضابط شرطة يضع حدّاً لحياته داخل منزله بالبيضاء..والأمن يفتح تحقيقاً    ألمانيا تتجه لانتخابات مبكرة بعد سحب الثقة من شولتس    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأربعاء    السينما الإسبانية تُودّع أيقونتها ماريسا باريديس عن 78 عامًا    سرطان المرارة .. مرض نادر يُشخّص في المراحل المتقدمة    كيوسك الثلاثاء | حملة توظيف جديدة للعاملات المغربيات بقطاع الفواكه الحمراء بإسبانيا    زلزال عنيف يضرب أرخبيل فانواتو بالمحيط الهادي    شوارع المغرب في 2024.. لا صوت يعلو الدعم لغزة    الصين تعارض زيادة الرسوم الجمركية الأمريكية على المنتجات الصينية    ماكرون سيعلن الحداد الوطني بعد إعصار شيدو المدمر في أرخبيل مايوت    السفير الدهر: الجزائر تعيش أزمة هوية .. وغياب سردية وطنية يحفز اللصوصية    أفضل لاعب بإفريقيا يحزن المغاربة    لماذا لا يستطيع التابع أن يتحرر؟    عن العُرس الرّيفي والتطريّة والفارس المغوار    علماء يكتشفون فصيلة "خارقة" من البشر لا يحتاجون للنوم لساعات طويلة    بريطاني أدمن "المراهنات الرياضية" بسبب تناول دواء    دراسة: الاكتئاب مرتبط بأمراض القلب عند النساء    باحثون يابانيون يختبرون عقارا رائدا يجعل الأسنان تنمو من جديد    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إيحاءات الزلزال
نشر في هسبريس يوم 17 - 09 - 2023


(1)
أذكر وأنا طفل تردَّدَت دائما على مسامعي، أينما حللتُ وارتحلتُ عند تداول الحديث عن سيرة الزلزال وفظاعة غدر الكارثة، أنَّ أصل الرجَّة الأرضية الهائلة عقاب سماوي نحو جماعة بشرية معينة، لأنهم أمعنوا إمعانا في العصيان وارتكاب الخطايا.
المرحومة جدَّتي نفسها استعادت هذا التصور بكل تلقائية خلال كل سياق للموضع، غاية أن فاجأتني ذات مرة برأي مغاير تماما، شَكَّل حقيقة قطيعة مع التصور السالف، بحيث ونحن نتابع تفاصيل وقائع أحد الزلازل عبر بوِّابة النشرة الإخبارية المسائية، التي مثَّلت طيلة أماسي ذاك الزمان بداية موعد التئام الأسرة وقد تحلَّقت بأكملها حول شاشة التلفاز الصغيرة حتى الساعة الحادية عشرة، فبادرتها متسائلا: "لا أعرِفُ لماذا تظهر الزلازل، كل هذه الشراسة نحو البشر دون أيِّ مبرر يذكر؟"؛ لكن، بدل استفاضة جوابها ضمن إطار مرجعيتها المعتادة، وتفتِّق مكامن خيالي بمرويات أخرى، ورد جوابها تلك الليلة مختلفا، بإحالتها أصل الزلزال على حكاية ثور عملاق يحمل الكرة الأرضية فوق قرنيه، تناوبيا من الأيمن إلى الأيسر، بحيث عند إنهاك أحدهما من ثقل الحمل الثقيل يمرِّر الأرض إلى قرنه الثاني، لحظتها يحدث الزلزال.
هكذا بعد قطعها مع التصور الميتافيزيقي، تحوَّلت جَدَّتي صوب التمسُّكِ بالتفسير الأسطوري الجديد، كلما طرح النقاش ثانية؛ بالتالي حاولت دائما في خضم مختلف تصور حجم الثور، وكذا هالة قرنين بوسعهما تداول مسؤولية الإبقاء على الأرض ثابتة في مكانها.
(2)
استحضرت دائما في تأملاتي الشاردة طريقتين للموت تفزعانني كثيرا .ليس الموت في حد ذاته، بل طريقتيه قياسا لأساليب أخرى مختلفة، أقربها حقيقة إلى قلبي الموت دفعة واحدة، دون انتظار ولا إخبار ولا وداع، في كامل فتوَّتي الجسدية والنفسية، لحظتها يبدأ الفصل الآخر من الرحلة وأنا ممتلئ بذاتي، مدرك لذاكرتها وممكناتها.
أقصد بالطريقتين المشؤومتين: الموت غرقا أو تحت الأنقاض .ألم أكبر من الألم، أو يزيد قليلا .صحيح أن هناك من يسعفهم الصمود وينبعثون ثانية إلى سطح الأرض، لكن ربما وفق نمط شخصية جنائزية، مشروخة تماما، أقرب في كينونتها إلى مومياء محنَّطة، تمشي فوق الأرض لمجرد المشي بروح غيبوبة الأموات.
إحساس تضاعف لأنِّي عاينتُ عن قرب خلال مناسبات متباعدة في ما أذكر حضور امرأة تبنَّتها ورعتها إحدى قريبات العائلة، من جهة أمي .قصة تراجيدية بكل المقاييس، تعود حيثياتها إلى فاجعة زلزال أكادير سنة 1960، بحيث مكثت المسكينة وهي مازالت آنذاك طفلة صغيرة تحت الأنقاض لفترة قياسية، إلى أن انتشلتها بالكاد قوات الإنقاذ، وحينما استعادت قليلا حواسها اكتشفت أنَّ جلّ أفراد أسرتها قضوا خلال تلك الليلة الرمضانية المفارقة. حينما تلقَّت الصدمة لم تتردَّد في مغادرة المنطقة واتخذت وجهتها مشيا مثلما يحكى إلى أن صادفت نفسها في مراكش.
(3)
طيلة حياتي لم أختبر بكيفية مباشرة، شحما ولحما مثلما يقال، وَقْع زلزال معين. أجواء تلمَّست طبيعتها نسبيا فقط داخل قاعات السينما، أو في مشاهدة بعض البرامج العلمية.
سنة 1992، باغت زلزال قوي مدينة القاهرة، تحت وقع هول الجميع مثلما الإحساس حاليا مع كارثة الحوز شعرتُ إبّانها، ربما جراء ارتداد فعلي غاية مراكش أو فقط تمثُّل وهمي، وأنا منزو ذات صباح، بتأرجحٍ طفيف لبيتنا القابع وسط عمق مراكش العتيقة. استغرقت الحادثة فترة لا يتجاوز زمنها شرارة، لكن بجرعة هلع غير مسبوقة. كيف أمكن لهذه الأرض، وقد عهدتها غاية اللحظة ماثلة عند مكانها، أن تتعثر وتخذل سكينتي؟.
أما المناسبة الثانية فتعود إلى زلزال الحسيمة سنة 2004، بحيث قضيت ليالي وأنا أترقَّب افتراضا احتمال تهاوي، جراء ارتداد ما، كل هيكل العمارة، التي كنت وأسرتي نقطن طابقها السفلي.
ذكريات سيِّئة أضحت في عداد النسيان، إلى حين ليلة الجمعة 8 شتنبر على الساعة الحادية عشرة وخمس دقائق تقريبا، عندما اختبرتُ فعليا دلالة القيامة الآن.
أياما قبل ذلك، افتقدتُ جدوى حواسِّي كما لو أنها غير ملتئمة، غمرني تيه غريب لم أتبيَّن موضوعيا سببا كافيا له، وتعكُّر مزاجي غير مبرَّر.
كنت جالسا إلى طاولتي أكتب، وبسرعة تفوق إبلاغ التعبير اللغوي اخترق صوت مرعب زوايا الغرفة، صاروخ أرض- أرض، فارتجَّت ارتجاجا أعقبه تساقط للأشياء. مرَّ النيزك سريعا أو سقط فوق رؤوسنا. استغرقت الواقعة ثواني معدودة، لكنها أرست جذريا قطيعة مع بداهات زمن سحيق.
بدأت أصوات الناس تتعالى تحت شرفتي، انقطع الكهرباء، عمَّ الظلام، ساد الرعب، توطد الفزع، انهار كل ما تبقى من قدرة على التحمل نتيجة الهشاشة النفسية التي تراكمت جراء توالي ارتدادات مفعول شرور زلازل ذئاب البشر التي تتجاوز كل مقاييس ريختر.
أقصى ما تطلعتُ إليه تلك اللحظة من الحياة صفعة يدٍ خفيَّة، ربما توقظني من كابوس مرعب، فأشعل ضوء الغرفة، أتحسَّس ألفة المكان من جديد، أرتشف قطرات ماء، أستعيد سكينتي، ثم أغط ثانية في نومي.
هيهات ! لم يكن التشوُّف وفق المبتغى، بل تعلَّق الأمر جملة وتفصيلا باهتزاز أرضي قوي، جعلني أكتشف لأول مرة في مراكش أنَّ الأرض لم تعد مثلما عهدتها منذ وعيت وجودي، وكذا الإعلان عن انتهاء رسمي للطمأنينة التي غمرت هذه المدينة قلبا وقالبا، أساسا قبل بداية سنوات توغُّل واستفحال قذارة التوحُّش المالي بشتى ارتداداته الوبائية، المزلزِلة زلزالا لكل ما هو جميل وعميق ونبيل.
(4)
كان أفراد جيلي شاهدين على صدمة هزَّات تاريخية مدوِّية، أبرزها تلاشي المعسكر الشرقي سريعا وذوبان الاتحاد السوفياتي بكيفية قياسية، لم تكن حقيقة متوقَّعة، ثم حربا الخليج الأولى والثانية .الأولى اعتُبرت تخمينيا بداية نهاية الكون، والثانية دشَّنت واقعيا نهاية فعلية للمجموعة العربية .منذئذ، تغيَّر العالم كثيرا، وأضحى فوريا، ومباشرا بامتياز، يستعجل عبثا مجهولا ما.
بينما ستذكر مكوِّنات الجيل الحالي، حتما طويلا، تجربتي وباء كورونا ثم زلزال الحوز، وكذا مستويات توالي انعكاسات نتائجهما المهولة على جميع الأصعدة.
عموما، سواء الانقلابات التاريخية النوعية، أو فواجع الطبيعة اللامتوقعة إلى حد ما، تلتقي معا عند مصبِّ رافد يستوجب بإلحاح إعادة بناء الإنسان لتصوراته الرتيبة قصد توضيبها ثانية على ضوء سياقات ما حدث ويحدث وسيحدث: السعي صوب التحلِّي بوعي وجودي قادر على مجادلة منطق الحياة ضمن وازع ممكنات الطارئ، ولا شيء غير الارتياب، الاحتمال، الطارئ. هكذا، تُبْنى الأنساق الصامدة والخلاَّقة، حيال كل الأعاصير، إن شخصيا أو مجتمعيا.
(5)
ماذا تعلمنا من تجربة كورونا؟ ماذا بوسعنا استلهامه بتجرُّد إنساني محض، من درس ونتائج الزلزال، فوق كل الرهانات اللا-إنسانية الحقيرة للغاية؟ طبعا ضرورة القطع بالمطلق مع مرجعات التخاذل والتهاون التي تنعشها مفاهيم عتيقة متآكلة تضع الإنسان سلفا لقمة سائغة أمام كل مفاجآت غير الرتيب، واستلهام أخرى رؤيوية تستشرف احتمالات المدى المستقبلي بذكاء وصدق وإقدام وسمو إنساني رفيع.
لا تسير الحياة حسب رغباتنا ولا رهن إشارة أهوائنا، أو تبعا لجغرافية غرائزنا. كل شيء يكتنفه المجهول والغموض. حسٌّ متوقِّد، يقتضي إنسانا "نيتشويا" من نمط مغاير، مؤهَّل ذهنيا ونفسيا.
(6)
أمُّنا الأرض، الحبيبة الغالية، المِعطاء، التي تلهمنا كل إشراقة صباح مختلف معاني الحياة: الحيوية، الصلابة، التفاني، نكران الذات، المثابرة، الحبّ، الخلق، العطاء. نحيا من الأرض، بين أحضان الأرض، نتنفَّس تراب الأرض. عندما نموت نشرئبُّ إلى حضنها كي تضمُّنا في صمت إلى الأبد.
الأرض كتومة حدَّ بلاغة الصمت، تلهِمُ الإنسان بالغمز إشارات الحياة؛ غير أنها ليست دائما كذلك، حينما تنقلب شعرية تكتمها البنّاء إلى إعصار غضب عارم تنفثه في وجه الإنسان بكيفية مغايرة عن هويتها المبدئية.
مع ذلك، سرعان ما تستلهم الأرض منبع أرضها، وتمنحنا بسخاء لا متناهٍ ملاذنا الرحيم. أصل الإنسان من الأرض، ثم إلى الأرض، بعد كل شيء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.