بعد قطيعة ومقاطعة دامتا ردحا من الزمن قررت أخيرا التصالح من جانب واحد مع قنواتنا التلفزيونية الوطنية من باب "عفا الله عما سلف" وكذلك عملا بمبدأ "يدك منك ولو كانت أشلاء". وهكذا، فقد قضيت سنوات في التجوال بين مجموعة من القنوات المحترمة ونصف المحترمة على النايل سات كما على أقمار أخرى، إذ لا يهم اتجاه "الطبسيل" بقدر ما يهم "آش فيه"... مع الاكتفاء بزيارات متقطعة للقناتين "الأولى" و"الرياضية" المغربيتين لمتابعة مباريات بعينها في كرة القدم الوطنية، الأمر الذي ذكرني دائما بذلك الزبون الانتهازي الذي لا تجمعه ببقال الحي سوى "البوطا" في حين يتزود بحاجياته الأخرى من "الهايبر ماركت" المتواجد بأطراف المدينة... وكان لا بد من الرجوع إلى الأصل لإعادة اكتشافه وكلي أمل في التأقلم معه من جديد وبالتالي الاستغناء عن تقديم طلب لجوء تلفزيوني جديد بقنوات الدول الشقيقة والصديقة. ولبلوغ هذه الغاية الوطنية النبيلة رسا اختياري على شهر رمضان باعتباره شهر التلفزيون بامتياز. فاصل ونواصل أول ما لاحظته هو التزامن المقصود وغير البريء لفترة المضغ مع بث مواد فنية وترفيهية تستوجب الانتباه ويتخللها شلال مهول من الوصلات الإشهارية (بما فيها إشهارات حفاظات الأطفال وربما حتى الإشهارات الخاصة بالمبيدات الحشرية) الأمر الذي يسرق منك متعة المتابعة ويجعلك تكره كل السلع والخدمات المروج لها ويخلق لك ارتباكا في الأكل قد يتبعه عسر في الهضم أيضا. يبدو أن زمن الإفطار على أنغام الموسيقى الأندلسية والدردشات العائلية قد ولى بلا رجعة. وفي هذه الفترة بالذات لاحظت أيضا بأن الكاميرا الخفية مازالت تعيش أزهى أيامها بعدما اعتقدت بأنها أضحت صفحة من الماضي بحكم ازدياد وعي الناس بها وبالتالي استبعاد احتمال السقوط في فخها. لقد اتضح لي جليا بأن السذج مازالوا يعيشون بيننا... حتى في صفوف الممثلين المحترفين الذين منهم من يقبل بالبهدلة بالمقابل أو حتى "فابور"... مع رفع القبعة للفنان مراد العشابي الذي أثبت من خلال منتوجه الترفيهي الأخير أنه بطل شمال الصحراء الكبرى والشرقين الأدنى والأوسط في الاستفزاز المفضي إلى التشنج والاصطدام بل وحتى إلى الضرب والجرح أحيانا. فاصل ونواصل أما في ما يخص الأعمال الدرامية فوجب الاعتراف بأن التلفزيون المغربي حقق قفزة نوعية في هذا المجال لا من حيث السيناريو والحوار ولا من حيث أداء المخرجين والممثلين والتقنيين، حتى أضحى بمقدور الكثيرين من محترفي القطاع اليوم كسب قوتهم بشكل انسيابي وطبيعي دونما حاجة للتباكي أو "التسول" للبقاء على قيد الحياة، ولولا إشكالية اللغة لتسنى للعديد من المشاهدين بالعالم العربي متابعة ما تم إنتاجه من مسلسلات وإن كانت مستلهمة من واقع مغربي صرف فإنها تلامس القضايا الإنسانية في شموليتها من خلال التطرق لمفاهيم لا يخلو منها أي مجتمع من قبيل الخيانة والغدر والوفاء والحب والكراهية والمجاملة. ولعل من تجليات هذا التميز إقدام قناة خليجية في الآونة الأخيرة على شراء حقوق بث مسلسل مغربي لاقى نجاحا منقطع النظير وذلك في أفق إخضاعه للدبلجة إلى اللهجة السورية التي أضحت أكثر اللهجات استيعابا في صفوف المشاهدين العرب لأسباب معروفة. ولعل ما يعاب على مسلسلات رمضان ظهور بعض الوجوه في أكثر من عمل، وهذا أمر يسيء حتما إلى صورة الفنان الممثل ويتسبب في أضرار جانبية من السهل تمثلها. والاستنتاج نفسه ينطبق على الكوميديا المغربية، وهذا معطى لا ينكره إلا جاحد. لقد ولى زمن التهريج والإضحاك السطحي وزمن المقارنات المبتذلة بين سكان الحواضر وسكان البوادي وبين الفاسي والمراكشي وغيرهما. حتى الكوميديا الملتزمة التي اجتذبت الجماهير المثقفة بالآلاف خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي والتي ظل محورها هو ذلك الصراع الأبدي بين السلطة والشعب مع تحميل الطرف الأول دائما وأبدا مسؤولية كل الانتكاسات والإخفاقات والانزلاقات والانفلاتات المرصودة... وحتى مسؤولية انحباس المطر وجفاف الوديان والآبار وارتفاع درجات الحرارة لا قدرة لها اليوم على مجاراة ما تشهده الساحة من مستجدات تحمل توقيع فنانين ساخرين أهلتهم قدراتهم الذاتية للجمع بين الموهبة والاجتهاد، فكانت النتائج مبهرة لكن إشعاعها غالبا ما يتوقف عند وجدة شرقا وعند لكويرة جنوبا لأسباب ثقافية أحيانا ولغوية في الغالب وخاصة عندما يكون منسوب التلوث في العامية المعتمدة مرتفعا. ومن نافلة القول بطبيعة الحال إن هناك فئة من المشاهدين ستظل تنتقد بعض الأعمال الكوميدية بحجة ضعف مستواها مع توجيه الاتهام للواقفين وراء إنتاجها وبثها. من حق المستهلكين إبداء رأيهم في ما يعرض لكن عليهم أيضا استحضار حقيقتين اثنتين: أولا، عليهم أن يعلموا أن الغث والسمين يتعايشان حتى في أعرق القنوات وأغناها وأرقاها وأكثرها احترافية، وبأنه لولا الإنتاجات الرديئة والمتوسطة لما كان بوسعنا تثمين الأعمال الجيدة والمتميزة. ثانيا، عليهم أن يعلموا كذلك بأن ما هو متوفر في كل موسم رمضاني هو أفضل الموجود، إذ لا أعتقد إطلاقا بأن قسم الإنتاج يتعمد انتقاء "السيتكومات" والسلسلات الفكاهية الضحلة ويتعمد في المقابل تجاهل المشاريع المتوفرة على شروط التميز. فاصل ونواصل وبخصوص نشرة الأخبار وخاصة على القناة الرسمية فمازال القائمون عليها أوفياء لنهجهم القديم: أخبار وطنية نمطية مع تسجيل تحسن ملموس على مستوى بعض أوجه معالجتها، وأنباء دولية متأخرة ومنتهية الصلاحية، وأولويات غير مفهومة أحيانا (تقديم نتيجة مباراة في كرة القدم على نعي شخصية عمومية مرموقة أو على خبر يهم حريقا غابويا مهولا، أو تقديم خبر عادي وارد من بانغلاديش على خبر يهم اصطدامات متجددة بين رحل وفلاحين محليين بمنطقة سوس مثلا). ولعل أهم ما يحسب لهؤلاء بكل القنوات هو نجاحهم في الاستمرار في تقديم النشرات الإخبارية بالعربية الفصحى (مع تسجيل بداية تسلل الصنف العامي في اللغة المعتمدة في محاورة الضيوف) في وقت استفردت فيه الدارجة بمعظم البرامج بشكل يدعو إلى الاستغراب. الفصحى دخلت اليوم وبكل تأكيد مرحلة الاحتضار بانقضاء زمن المسلسلات الدينية المشرقية والمسابقات الثقافية الرصينة والأفلام الوثائقية الجادة والرسوم المتحركة المدبلجة بالاستوديوهات اللبنانية، وكلها إنتاجات كانت تذكر الجميع بأن الفاعل يرفع والمفعول به ينصب والمضاف إليه يكسر وبأن العدد يكون عكس المعدود من ثلاثة إلى عشرة. نحن اليوم في زمن لا يخجل فيه الكثير من الإعلاميين من مزج العربية بالفرنسية بشكل صارخ أو الوقوف أمام الكاميرا أو الميكرفون لقراءة ورقة صحفية محررة بالعامية بالرغم من تخرجهم من أعلى المعاهد، بل معظم برامج قنواتنا تحمل اليوم أسماء عامية... وحتى أسماء إنجليزية!!!!!!!!!! وطبعا لا يمكن توقع نتيجة مغايرة عندما ينزل التلفزيون إلى مستوى الناس عوض حمل هؤلاء على الارتقاء بذوقهم ومستواهم العام. فاصل ونواصل أما على الصعيد الموسيقي فيبدو أن قطار "تمغربيت" ماض على سكته وفق رؤية مهندسيه الذين ربما خلصوا إلى أن كنوز الشرق، والتي يعود تاريخ بعضها إلى بداية القرن الماضي والتي لطالما استمتعنا بها ورددناها حتى في حمام الحي العمومي، لا تستجيب لمعايير الجودة المعتمدة الآن وأنه آن الأوان لإحالتها على سلة المهملات، حتى لا نقول صندوق القمامة. وإذا كنت عزيزي القارئ تنتمي إلى جيلي وتحن إلى روائع الزمن الجميل الحاملة لتوقيعات أساطين الطرب العربي الراحلين أو المحتضرين فما عليك إلا أن تبحث عنها في أمكنة أخرى لأن الحيز المخصص للمنوعات الغنائية على قنواتنا الوطنية محتل بالكامل من قبل حجيب وولد حجيب وفايف سطار وعبد الستار والداودي والداودية والستاتي والستاتية والمرضي والمرضية وغيرهم من صناع "لامبيانس" المحليين. لقد انتهى زمن بث الإنتاجات الشرقية التي لولاها لما كان بمقدورنا وضع الأسس الأولى للإذاعة والتلفزة ولما كان باستطاعتنا أيضا خلق الظروف المواتية لانبثاق ما يسمى بالأغنية العصرية المغربية بمبدعيها المعروفين وخالداتها الكثيرة والجميلة. فاصل ونواصل وتظل أبرز ملاحظة على الإطلاق هي تلك التي تهم مجموعة من البرامج التي تحمل أسماء منشطيها. أنا لست ضد التقليد إذا كان إيجابيا ومنسجما مع ما تبقى من تقاليدنا وفيه جرعة من الابتكار وطيف بصمة شخصية على الأقل وكانت غايته الإمتاع الممتع أو الإفادة المضمونة أو هما معا. وطبعا، تسمية البرامج بأسماء مقدميها ليست ابتكارا مغربيا صرفا. فقد انطلقت هذه البدعة مع مجموعة من الإعلاميين الغربيين أولا، وخاصة بالولايات المتحدةالأمريكية، قبل أن يتبناها آخرون في بقاع أخرى من هذا العالم الفسيح. وإذا كان لأوبرا وينفري أو جيري سبرينغر مثلا ما يبرر إقدامهما على هذا الفعل باعتبارهما نجمين إعلاميين حقيقيين وبجعبة كل واحد منهما رصيد هائل من الثقافة والتجارب المتنوعة، مع توفرهما على قدرة رهيبة على الفهم والتحليل والنقد والتفاعل ومع حضور استثنائي للبديهة والجرأة وحس الدعابة والسخرية، فكيف لمنشطينا المتواضعين تفسير ربط أسمائهم بالبرامج التي يؤمنون إدارتها علما بأن دورهم يكاد ينحصر في طرح الأسئلة؟ الأمر في اعتقادي -في سياق مغربي- لا يعدو أن يكون محاولة يائسة وبائسة للتعبير عن نرجسية دفينة لا تستند على أي نوع من التألق. حتى البرامج الناجحة من هذا الصنف إنما ينسب نجاحها إلى سلطة التفاهة المستشرية والجهل السائد وانحطاط الذوق، وليس إلى معايير احترافية مضبوطة لا تعطي أية فرصة لسيادة التطفل والابتذال والرداءة. حتى المنشطون الفرنسيون من وزن ميشيل دروكير وبرنار بيفو وناجي وباتريك سيباستيان لم ولن يرضوا لأنفسهم بذلك أبدا بالرغم من علو كعبهم الذي أهلهم لتقاضي أجور خيالية ما كانوا ليشموا رائحتها أو يروا لونها لو لم تكتشف في مساراتهم وأفعالهم وأقوالهم بذرة التميز. إن المنشط عندما يقدم على إدماج اسمه ضمن التسمية التي اختارها لبرنامجه إنما يعطي للجميع الانطباع بأنه الكل في الكل وبأنه مالك الأصل التجاري للبرنامج وبأن رزق ضيوفه بين يديه، وبأن اسم القناة مرتبط باسمه وبأن تأثيره الإعلامي لا يقل أهمية عن دور بريغوجين في الحرب الروسية الأوكرانية وبالتالي لا مجال للاستغناء عنه. فاصل... ولن نواصل تمنيت لو كان بوسعي الاسترسال في سرد إيجابيات وسلبيات أخرى... لكن "ما كرهنا" (بنطق فصيح!!!). فأنا ملتزم بموعد وشيك وهام مع مدير افتراضي لإحدى شركات الإنتاج التلفزيوني. سأحاول خلال لقائي بهذا المسؤول إقناعه بمزايا مشروع برنامج سيحمل اسمي (KARAM TONIGHT SHOW) وسيخصص إن شاء الله لإسماع أصوات ثلة من المعتقلين السابقين وزمرة من نزلاء مستشفيات الأمراض النفسية المتعافين ونخبة من المشردين المثقفين وفريق من المهاجرين السريين المرحلين وطائفة من "سفيراتنا" التائبات بدول الخليج وتركيا أساسا. قاسم هؤلاء المشترك هو أن بجعبة كل واحد منهم حكاية أو حكايات إنسانية في ثناياها تفاصيل تنطوي حتما على فائدة أكبر بكثير من الفائدة التي يمكن أن يجنيها المشاهد من جراء استماعه إلى كلام ممثل شاب ربما في رصيده دور يتيم في مسلسل، أو من خلال إصغائه إلى مؤثرة لم تتجاوز بعد مرحلة المراهقة وجاءت لإسداء النصح للناس وللتعبير عن رأيها في الحب والتعدد والخيانة الزوجية وزواج القاصرات وفي مواضيع أخرى أكبر من سنها... أو بمتابعته لدردشة مع مطرب مبتدئ التحق باستوديو التصوير وعلى جلده بنطلون جينز مقطع وربما في ريبرتواره الشخصي أغنية وحيدة ما تكاد تبدأ حتى تنتهي.