على غير عادتي، لن أسخر قلمي اليوم للتعريف بقضية أو إشكالية، بل سأترك مداده يسيل في وصف رجل كانت له أياد بيضاء على البلاد والعباد. الأمر يتعلق هنا بعلم من أعلام المغرب المعاصر الذين مازالوا على قيد الحياة، وأبت موجة التفاهة العاتية والمستشرية إلا أن تحجب الرؤية عنهم وتسلط في المقابل الضوء على كائنات تعلمت الضغط على الأزرار فقط فأصبحت بقدرة قادر أكثر شهرة من ابن القيم الجوزية وبليغ حمدي والطيب الصديقي ومارتن لوثر كينغ وتوماس هاردي ويوهان غوتنبرغ وميشيل فوكو، وغيرهم كثير ممن غيروا مجرى التاريخ أو تركوا فكرا عميقا أو أدبا راقيا أو فنا جميلا أو اختراعا نافعا قبل العودة إلى التراب. الطبيب الأستاذ عبد القادر التونسي علامة بارزة في الوسط الصحي بالمغرب وموضوع احترام وتقدير لا تخطئهما لا العين ولا الأذن في صفوف كل من تقاطعت دروبهم مع دربه بأكثر من فضاء وفي أكثر من مناسبة، ولكنه يكاد يكون مغمورا لدى السواد الأعظم من المغاربة. حتى الجيل الجديد من الأطباء والممرضين ربما اخترق اسمه أذهانهم ذات يوم دون أن تتاح لهم فرصة التعرف على شخصه عن كثب والنهل من علمه والوقوف على مقاربته للطب وطريقة تحاوره مع المرضى وتعامله معهم؛ فقد عاش في الظل ومازال يتفادى الأضواء، كما عمل في صمت وتقاعد في صمت تاركا مهمة خلق الضجيج لإنجازاته الكثيرة وآثاره الطيبة؛ حتى مواقع التواصل الاجتماعي التي من حقه استغلالها لإمطار متابعيه ومعارفه بصوره وعناوين أعماله لا يعرف لها طريقا، أما "يوتوب" فيكاد لا يتعرف على اسمه، وما هو متوفر عنه من معلومات وصور بأرشيف الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة وبالشبكة العنكبوتية لا يشفي الغليل ولا يفي باحتياجات الباحث في سير المشاهير والشخصيات العمومية ولو في الحدود الدنيا. عرفته أجيال من طلبة الطب كأستاذ ومؤطر متمكن من اختصاصه (من هؤلاء من هم الآن في عداد الأطباء المتقاعدين !!!)، وعرفه المغفور له الحسن الثاني كأحد أفراد الطاقم الطبي الملكي المتميزين، واستفاد من فحوصاته وخضع لمشرطه آلاف المغاربة من الأغنياء والفقراء ومن مهابي الجانب والبسطاء ومن كل المشارب والمستويات (بمن فيهم مجموعة من جرحى زلزال أكادير المدمر) ومئات الأجانب (بمن فيهم مجموعة من المصابين في حرب التحرير الجزائرية الذين كتب لجراحهم أن تضمد على أرض المملكة)، وعرفته شخصيا كإنسان على امتداد أكثر من ربع قرن من الزمن، وفي كل لقاء يجمعني به يتجدد انبهاري بشخصيته المهيبة والجميلة وطبعه الاجتماعي وروحه المرحة وأدبه الجم وثقافته المزدوجة والواسعة وذاكرته المكتظة بالأحداث والمواقف والإنجازات والطرائف، وبساطته المثيرة للانتباه وتواضعه الذي يذكرني بملأى السنابل المنحنيات، ومقاربته للعمل الذي يعتبره ويعتبر الإخلاص فيه أعظم أشكال العبادة على الإطلاق، بل وحجة وجودنا على هذه الأرض. حتى صفته الرسمية لا يتبجح بها أبدا ولا ينتظر من الناس سوى مخاطبته ب"سي عبد القادر" أو "الحاج". وفي كل لقاءاته مع أقاربه ومعارفه لا يكاد ينبس ببنت شفة في موضوع تفاصيل عمله، مفضلا دائما الخوض في المواضيع العادية أو تلك التي تحظى بالنقاش العمومي، شأنه في ذلك شأن مثقفي عصره؛ وذلك إما من باب التحفظ ووجوب كتمان السر المهني أو من باب تفادي إعطاء الانطباع لمستمعيه بأنه يتلذذ بسرد تعاملاته اليومية مع المشاهير والمتنفذين من المرضى أو أقاربهم (وما أكثرهم !) أو للسببين معا. التحق طبيبنا بمستشفى ابن سينا في حدود منتصف سنة 1957 مباشرة بعد استكمال دراساته الطبية بباريس، في وقت كان الأطباء المغاربة بهذه المؤسسة الاستشفائية يعدون على رؤوس جزء فقط من أصابع اليد الواحدة، وفي ظرفية كان ما يزال المغاربة ينتشون فيها بطعم الاستقلال الحديث عن فرنسا... وكان الزواج بالمهنة كاثوليكيا. ومنذ البداية، اتخذ دكتورنا من المستشفى ذاته مقرا لإقامته، ما مكنه من أن يظل رهن إشارة المرضى على مدار الساعة، واستمر مقامه به لحوالي نصف قرن، كما أنه لم يغادر مصلحة الجراحة العامة طيلة فترة عطائه، ولم يتنازل عن تسيير شؤونها لعقود حتى أضحى علمه بأجنحتها بدرجة علمه بزوايا ومضمون جيوبه؛ فقد كان يعرف جيدا حالة جدرانها وأبوابها ونوافذها وأجهزتها وأدواتها وأثاثها وأنابيبها ومصابيحها وصنابيرها، وكان أيضا على دراية تامة بخصوصيات وكفاءات وحدود المتعاونين معه من أطباء وممرضين وتقنيين وأعوان، وكان حريصا على بسط سلطته عليهم بالقدوة ولا شيء غير القدوة. وأسلوبه هذا هو ذاته الذي جعله أيضا لا يخجل من الانحناء من وقت لآخر ولو على مرأى من الزملاء والمرضى والزوار لالتقاط النفايات التي يلقي بها عديمو التربية المدنية على أرضية الممرات والغرف؛ فقد كانت نظافة مصلحته بكل أجنحتها من الأولويات في خطة تدبيره، وكان يأمل، كلما صدرت منه بادرة من هذا النوع، أن يحذو باقي المنتسبين للمصلحة حذوه بشكل تلقائي دونما الحاجة إلى إصدار مذكرة داخلية في الموضوع. وحتى عندما اعتقد الجميع أن موجة التقاعد ستجرف "سي عبد القادر" كما جرفت غيره ممن بلغوا سن الإحالة على المعاش، صدرت أوامر عليا بالسماح له بالاستمرار في العمل مدى الحياة، بالنظر إلى ما لوحظ فيه من نكران للذات وتجسيد حي لنبل المهنة، إذ كان الطب بالنسبة له أسلوب حياة، ولم يتعامل معه بمقاربة استرزاقية صرفة، ولم يضطر لوضع وزرته البيضاء ومغادرة مكتبه البسيط بشكل نهائي إلا عندما اشتد به الوهن وهو في منتصف عقده الثامن، بعدما بصم على مسار مهني استثنائي استمر لحوالي 60 سنة، وعاصر خلاله كل الوزراء الذين تعاقبوا على رأس وزارة الصحة في تاريخ المغرب المستقل، ومعظمهم من زملائه وأصدقائه وتلامذته السابقين. كان لا يؤمن ب" قانون بيتر" الذي يقضي بإخراج المتألق من تخصصه الأصلي ثم وضعه على سبيل المكافأة أو الترقية الاجتماعية أو الإدارية في تخصص آخر قد يصلح له وقد لا يصلح. ولهذا السبب بالذات، وكما حرم على نفسه التهافت على الجرائد والمجلات وميكروفونات المحطات الإذاعية وكاميرات القنوات التلفزيونية للتعريف بنفسه، فقد حرم على نفسه أيضا التهافت على المناصب العليا رغم استيفائه كل الشروط المطلوبة لتسيير شؤون وزارة كوزارة الصحة ومن أعلى المواقع. وإضافة إلى الجانب التقني والتدبيري المتمثل في التعامل مع المرضى، وترؤسه مصلحته بالمستشفى وشعبة الجراحة بكلية الطب والصيدلة بالرباط، فإن السيرة العلمية الذاتية للبروفسور التونسي تزن الأطنان هي الأخرى؛ فقد وقع على مقالات علمية عديدة بمجلات وطنية وأجنبية، وأشرف على مناقشة المئات من رسائل الدكتوراه في مجال الطب، وحضر عشرات المؤتمرات العلمية داخل الوطن وخارجه، وكان لسنوات المسؤول الأول عن مجلة "المغرب الطبي"، وهو عضو في الأكاديمية الفرنسية للجراحة ومؤسس ورئيس سابق للاتحاد المغاربي للجراحة. وكان من الطبيعي أن تستأثر حياة علمية ومهنية حافلة كهاته باهتمام وتقدير العاقلين بالدوائر العليا وبمحيطه الطبي؛ وهكذا فقد أنعم عليه الملك الراحل الحسن الثاني بوسام العرش من درجة قائد، ومنحته الدولة الفرنسية وسام الاستحقاق الوطني من درجة قائد أيضا، وبمبادرة من مجموعة من زملائه وأصدقائه تم إطلاق اسمه على أحد المركبات الجراحية بمستشفى ابن سينا المرجعي أو مستشفى السويسي كما يحلو للبعض أن يسموه. ورغبة من هؤلاء في زيادة جرعة الاعتراف بالجميل فقد أطلقوا اسمه أيضا على خزانة الكتب التابعة لكلية الطب بالعاصمة، كما حصل على وسام الاستحقاق والاعتراف من الكلية ذاتها سنة 2002، إضافة إلى جائزة المعهد الفرنسي لعلوم الصحة سنة 1989. وطبعا فإنه من غير المستبعد أن يكون البروفسور التونسي احتفي به أيضا وبطرق أخرى في فضاءات مغلقة في سياق مهني أو أكاديمي، لكن الإعلام الوطني للأسف لم يوفه حقه، بما أنه لم يكن حاضرا بالشكل المطلوب لتسليط الضوء على سيرته. فهذا الرجل، الذي يعتبر عميد الصحة العمومية بالمغرب بدون منازع، يستحق فعلا أن يقدم وفي أجمل صورة لعموم المغاربة، عسى أن تلهم تجربته شباب اليوم في زمن يتسم بالغياب التام للقدوة الحسنة، وفي ظل ثورة رقمية رهيبة بعثرت الأوراق وغيرت المفاهيم والقيم وجعلت من عدد المشاهدات أو عدد المتابعين معيار التميز والنجاح الجديد والرئيس. أتمنى من كل قلبي ألا يحصل له ما حصل للعديد من مجايليه ممن أبلوا البلاء الحسن في خدمة المجتمع من شتى المواقع وفي شتى الميادين، الذين كان على الناس انتظار نشر خبر نعيهم للتعرف على تفاصيل مساراتهم وملامح وجوههم وتقاسم صور وفيديوهات جنائزهم. الدكتور عبد القادر التونسي، وهو في بداية عقده التاسع، يحيا اليوم حياة هادئة وبنفسية من أدى الواجب وزيادة ولا يطمع إلا في حسن الخاتمة بعد عمر مديد إن شاء الله؛ معظم أوقاته يستغلها في مطالعة الكتب ومنشورات أخرى، وهي هواية ظل وفيا لها منذ نعومة أظافره ويمارسها بنهم وشغف لا يضاهيه إلا شغفه لمهنته. يجد أيضا متعة خاصة في مجالسة أبنائه وأحفاده وباقي أقاربه وأقرب أصدقائه ويكاد لا يقوى على تفادي الاستغراق في إقامة المقارنات المذهلة أحيانا والمضحكة والمثيرة للسخرية في أحيان أخرى بين ظروف الأمس وظروف اليوم، وهذا تمرين يومي يفرض نفسه بحكم ما طرأ على الحياة فوق الأرض من تحولات ملموسة ومتسارعة على امتداد سنوات عمره المبارك، وخاصة على مستوى المستجدات التكنولوجية؛ فقد ارتاد المدرسة والجامعة في زمن لم يكن فيه وجود بعد لا للترانزيستور ولا للتلفزيون ولا للآلة الناسخة ولا لجهاز التسجيل، ولم يكن فيه منافس لجهاز الأشعة السينية البدائي... حتى أقلام الحبر الجاف لم تكن قد أزاحت تماما الريشة التقليدية عن عرشها، وها هو اليوم يقف شاهدا على زمن الإنترنت والفحص بالرنين المغناطيسي والحواسيب المتطورة والهواتف الذكية والمكتبات الإلكترونية والدراسة عن بعد والعمل عن بعد، وأداء الفواتير والبيع والشراء على الخط، وقريبا إن شاء الله سيرى كذلك الناس وهم يتنقلون باستعمال سيارة بدون سائق ويسافرون عبر طائرة بدون ربان، بل ويحررون الرسائل الجامعية أيضا بدون أدنى مجهود، مادام مطورو الذكاء الاصطناعي الميمون قد قرروا إحالة العقول على التقاعد الأبدي !!! الأكثر من هذا وذاك فقد قدر له أن يكون شاهدا كذلك على زمن تقطع فيه العلاقات الإنسانية بسهولة وتلقائيا، لا لشيء إلا لغياب "اللايكات" !!!. يعيش "الحاج عبد القادر" في هذه المرحلة من حياته متنقلا بين عاصمة المملكة التي كانت شاهدة على تألقه العلمي والمهني، وحاضرة سوس تارودانتمسقط رأسه وقلبه وفضاء طفولته، التي نجح في نقش اسمه على قلوب أهلها (بالضبط كما فعل قبله شقيقه الأكبر محمد بلحسن التونسي، قيدوم مدربي كرة القدم المغاربة ومؤسس نادي الرجاء البيضاوي، والملقب ب "الأب جيكو"). لم يندم على أي شيء في حياته بما في ذلك امتناعه في أكثر من محطة من محطات عمره عن استغلال صورته وسمعته وشهرته وكفاءته للانخراط في الطب التجاري وخاصة طب المصحات الخاصة على الرغم من توفره على باقي شروط الاستثمار في هذا القطاع؛ فقد رفض كسب قوته على حساب آلام الناس ومآسيهم، مفضلا الاستمرار في تكوين أطباء الغد وفي خدمة بني البشر من بوابة الصحة العمومية لا غير، ومكتفيا براتبه العمومي وتعويضاته دون أن يعني ذلك إطلاقا أنه ينتقص من قيمة دور الطب الخاص في التخفيف من الضغط الكبير الذي تعاني منه مستشفيات القطاع العام. المرضى بالنسبة له مجرد كائنات لا حول لهم ولا قوة، ويستحقون العلاج مهما كان وضعهم المادي أو الاعتباري. كانت هذه هي قناعاته وظل متشبثا بها، وتأسيسا على هذا النبل وعلى هذا الحس الإنساني المرهف وجدتني منطلقا ولأول مرة في حياتي وربما لآخر مرة في وصف رجل وكيل المديح له ليس من خلال دردشة عابرة بمقهى، بل بحبر أسود على أرضية ناصعة البياض.