الناخب الوطني وليد الركراكي ابن خادمة بيوت، وبدون مركب نقص، استطاع بمعية لاعبين من طينته الاجتماعية أن يحققوا جميعا خلال أقل من شهر في مونديال قطر ما لم يحققه ساسة المجتمع المخملي طوال ما يزيد عن نصف قرن من الزمن. أبناء الخادمات وزملاؤهم من أصناف المجتمع المنسي أدخلوا الفرحة إلى كل بيت مغربي ليتقاسم الكهل والشيخ والمرأة والرجل والبنت والطفل هذه الأفراح ومن دون أن ننسى أولئك المنسيين في عالم المغرب غير النافع الذين تابعوا كل مباريات المنتخب المغربي في الدواوير والمداشر رغم شظف العيش. عمت الفرحة والبهجة كذلك مغاربة العالم أينما وجدوا. عبرت وطنيتهم كل الحدود وكلفوا أنفسهم السفر وجاؤوا لمؤازرة المنتخب المغربي من كل فج عميق. وتميز إكليل كل هذه الأطياف بخروج جلالة الملك إلى شوارع الرباط وأصر إلا أن يشارك شعبه هذه الأفراح مرتديا قميص المنتخب وحاملا راية هذه الأمة التي أبانت عن قدرتها في صنع التاريخ متى تيسرت السبل إلى ذلك. هذا الإنجاز لا ينبغي قراءته فقط عند حدود ما خلفه من فرحة ومن اعتزاز كل مغربي بمغربيته، بل خلف إشعاعا عالميا شد الانتباه إلى بلادنا في مختلف ربوع هذه الأرض. ومن لم يكن يعرف أين يوجد هذا المغرب أو سمع به لأول مرة سارع ليبحث عنه في قواميس "غوغول". ونالت المملكة شهرتها في الفضاء الأزرق وفي زمن قياسي. وظهر أول الغيث في المجال السياحي ونريده أن يمتد إلى قطاعات أخرى على شرط أن تتم "ركركتها". لكن كيف تيسر لنا تحقيق هذا الإنجاز وهذا الإشعاع غير المسبوق؟ بكل تأكيد أن ما تحقق ليس بمحض الصدفة وإنما النتائج تؤخذ بأسبابها، لكن بالارتكاز أساسا على جملة من المبادئ والقيم التي جعلت من المنتخب المغربي في هذا العرس الرياضي عريسا لهذا الحفل العالمي. نحن لم نقدم فقط كرة مميزة هزمنا فيها أعتى المنتخبات، بل قدمنا للعالم مبادئ وقيما من صنع مغربي انبهر لها الجميع وفاهت فيها تلك الدول بعد أن خسرتها وعض عليها مغاربة الخارج بالنواجد، من بينها: مبدأ "النية"، وهي مفهوم مغربي يمزج بين الإرادة والثقة في النفس، وهي بذلك أبعد ما تكون عن السذاجة. رضى الوالدين، وهو نوع من المغناطيس الرباني أراده الله أن يكون صلة وصل روحاني بين الأم والابن يشحن به الأول الثاني ليزيده قوة واستماتة من أجل صنع الحدث. وكان المشهد الذي خطف كل الأضواء هو تبرك اللاعبين بأمهاتهم بعد نهاية كل مباراة. الصورة غزت العالم كله وتصدرت أمهات الصحف العالمية بدون استثناء. إعادة الاعتبار للإطار الوطني يعد ركيزة أساسية لأية نقلة نوعية. يجب أن نثق في أنفسنا وفي قدراتنا وألا نستكين للمنتوج الأجنبي. الإطار الوطني تحركه في المقام الأول وطنيته ويتفاعل وجدانيا وقلبا وقالبا في كل لحظة وحين مع راية بلاده ونشيده الوطني وما يحمله هذا وذاك من دلالات ورمزيات. على عكس ذلك الإطار الأجنبي الذي يحمل معه فكرا ماديا ويتأبط حاسبته ليدقق في الثروة التي يريد جنيها. وقيل إن وليد الركراكي رفض في أوج الانتصارات الحديث عن أية مكافأة مادام اللاعب يعطي كل ما في وسعه إرضاء لوطنه ولأمه. في غمرة النشوة بالانتصارات والاستقبال الذي خصصه الشعب المغربي لأبطال العالم، وخاصة الاستقبال الذي حظي به المنتخب من جلالة الملك، كان هناك من يريد إفساد هذ الفرحة على المغاربة سواء أثناء العرس أو ما بعده. أثناء العرس، استغل أولئك الذين يفترض فيهم أن يكونوا حماة للبيت الكروي بحكم عضويتهم في الجامعة الملكية، وطنية المغاربة وحماسهم لتشجيع المنتخب فإذا بهم يتحولون إلى سماسرة الحدث بنية مدسوسة للمتاجرة في التذاكر بعد أن طرحوها في السوق السوداء بأسعار خيالية حققوا من خلالها أرباحا طائلة وحرموا في الوقت نفسه مغاربة من حقهم في المساهمة في مؤازرة منتخبهم رغم ما تحملوه من عناء السهر والسفر. نصر رياضي على يد أبطال من العيار الثقيل، وفضيحة مدوية على يد مفسدين تطرح إشكالات كبرى في ظرفية يجب الحسم فيها والضرب بيد من حديد على من ثبت في حقه أنه يتلاعب بمصالح المغرب والمغاربة. فالإقلاع لا يتم بنية واحدة حتى ولو كانت على مستوى رئاسة الجامعة، ولكن بتوحد النوايا الصادقة. ما حدث في هذا المجال الذي أبان عن خصوصية مغربية في صناعة الحدث لا ينبغي أن ينسينا تلك الخفافيش التي تبحث عن الإثراء بلا سبب. هذه التلاعبات يجب الحسم فيها بقرارات صارمة وحازمة لكي تشكل رادعا لمفسدين آخرين في قطاعات أخرى، وما أكثرهم، يتلاعبون في مجال الصفقات العمومية ذات الوجهين ما فوق الطاولة وهو المعلن، وما تحتها أو خفي منها كان أعظم. الفضيحة الثانية هي فضيحة مباراة اجتياز أهلية المحاماة التي تحولت إلى قضية رأي عام يتابعها الإعلام الوطني والدولي. بطل هذه الفضيحة بعد أن اختار لنفسه أن يتسيد فيها المشهد الإعلامي والسياسي، هو وزير العدل عبد اللطيف وهبي. في هذه العجالة لا نريد أن نسائل عبد اللطيف السيد وهبي عن حيثيات الظروف التي أعدت خصيصا لإجراء هذه المباراة، ولا عن النظام الذي اعتمد فيها، وهو النظام الكندي الذي لا صلة له بأنظمة الامتحانات المتعارف عليها في المغرب. كما ليس من همنا أن نخوض في الجهة التي يتوجب عليها أن تشرف على المباراة: وزارة العدل أم لجنة قضائية. فليس من اختصاصنا أن نناقشه في هذه القضايا، إنما يجب تركها لمن ستسند إليهم مهمة التحقيق في ملابسات هذه الفضيحة إذا كان التوجه ذاهبا في اتجاه التحقيق، بل يجب أن يأخذ هذا المنحى لأن الفضيحة عبرت الحدود وتناقلتها فضائيات في الخارج. لكن ما نؤاخذ السيد عبد الليف وهبي عليه هو خرجاته الإعلامية المستفزة للرأي العام المغربي. خرجاته توحي لنا بأن المريب كاد أن يقول "خدوني". الرجل لم يتوقف عند حدود الدفاع بالطرق القانونية والمشروعة ولا حتى في حدود اللباقة التي يجب أن يعتمدها رجل السياسة في حديث إعلامي، بل جعل منها قضية شخصية وبنبرة من التحدي قاربت الأسلوب "الزنقوي". فما معنى أن يسمح زعيم حزب سياسي لنفسه بأن يطعن في المؤسسات التعليمية لبلاده والتقليل من قيمة أنظمتها وبرامجها، وأن يبخس المحصول العلمي للجامعات المغربية حينما يشيد بشواهد الجامعات الكندية على حساب الجامعات الوطنية التي أعطت لنا منتوجا مغربيا أثبت أهليته وكفاءته في تسيير الحياة العامة. كل ذلك فعله السيد وهبي من أجل تبرير نجاح ابنه الذي جاءنا بدبلوم من كندا. بل أكثر من ذلك وبأسلوب غير أخلاقي يقول بأن الفضل في دراسة ابنه يعود إلى ثراء أبيه الفاحش. وردنا على ذلك، نقول له نحن لسنا في حاجة إلى خريجي الجامعات الأجنبية، بل نحن في أمس الحاجة إلى أكثر من ذلك؛ إلى وطنيين بقلوب مغربية وعقول مغربية وأحاسيس مغربية. وإن نسي السيد وهبي لا بأس أن نذكره بأن المغفور له جلالة الملك الحسن الثاني أكد غير ما مرة ضرورة تدريس أبنائنا في المراحل الأولية في المساجد. فالملك لم ينطق عن الهوى، بل يعلم جيدا أن ذلك التعليم التقليدي هو أساس الهوية المغربية ومدرسة في الوطنية. أبرز الوزراء في الحكومة الحالية وأنجحهم هم من خريجي الجامعة المغربية، ونستحضر في هذا الباب السيد ناصر بوريطة، خريج جامعة محمد الخامس وابن حي يعقوب المنصور. كما نستشهد بالسيد فوزي لقجع كمنتوج مغربي ناجح في مهامه كوزير وكرئيس للجامعة الملكية لكرة القدم، ولا ننسى الرجل المناضل والمكافح وابن الشعب وخريج الجامعة المغربية المندوب الدائم والسفير السيد عمر هلال، الذي استطاع بوطنيته أن يلهم المغاربة بنكران الذات. نجاح هؤلاء المسؤولين لا علاقة بما تقول يا وزير العدل بشواهد ابنك من كندا أو غيرها، بل مرد ذلك إلى التشبع بمبادئ مدرسة جميع المغاربة، وهي المدرسة التي تعلمنا ونتعلم فيها كيف نحب هذا الوطن. السيد عبد اللطيف وهبيي نعتقد أنه بات يمثل مدرسة تقف على النقيض من المدرسة الركراكية، نسبة إلى وليد الركراكي. الأول تنكر لأصله بثروته وماله وانتحر انتحارا طبقيا إلى درجة بات ينظر إلى نفسه من فئة الأثرياء والانتساب بالمصاهرة إلى أهل فاس، قالها في يوم من الأيام في جدال أدخله مع السيد أوزين. والثاني اعترف بعظمة لسانه بأصله وفصله من دون مركب نقص، وفي ذلك سر من أسرار قوته وسر من أسرار إعجاب المغاربة به. فالمغربي أسد بطبعه إن تعاملت معه برفق انقاد إليك بخيط رفيع وإن تعاملت معه بغلظة كان أشد فتكا. المقاربات متناقضة بين "الركراكية" و"الوهبية". فالمشهد اليوم تتنازعه هاتان المقاربتان؛ واحدة ساهمت في إشعاع الوطن والثانية تعمل على إطفاء هذا الإشعاع. ولكي لا نخسر ما حققته المدرسة الركراكية يجب أن نحسم في خياراتنا ونسأل: ماذا نريد لهذا الوطن؟