اطلعت كغيري من المهتمين بقضايا الحقوق والحريات على التقرير الأخير لمنظمة "هيومان رايتس ووتش"، والحقيقة أني اطلعت عليه دون نية الكتابة عنه، ففي الأخير تلك منظمة تزعم أنها غير حكومية، وصياغتها لتقرير حول وضع حقوق الإنسان في أي بقعة من العالم، مما يدخل في صميم عملها، وللحكومة أن تتفاعل مع ما فيه مما هو موضوعي، وأن تعرض على ما فيه من انحيازات أو أخطاء، و"مريضنا، ماعندو باس". والحقيقة أني اطلعت بداية على ملخصه، دون وقوف متأن على باقي الفقرات، ولم أجد فيه جديدا يقتضي التفاعل نقدا أو تبنيا أو وقوفا في الوسط، لأن ما جاء به الملخص أقرب لمرافعات لجنة من لجن دعم المعتقلين الذين تحدث عنهم التقرير، وهذه اللجن تشتغل بكل حرية وعلانية دون أي تضييق عليها، وأبعد عن تقرير منظمة حقوقية يفترض التزامها بتحري الوقائع وتمحيصها، والتزام التقيد بالضوابط المنصوص عليها في الأدبيات الحقوقية المكرسة كونيا. غير أن الأصداء السلبية للتقرير، وردود أفعال بعض الفاعلين المدنيين الذين لم نألف منهم أن يردوا على تقارير المنظمات الدولية، جعلتني أعود لقراءة التقرير كاملا، وهي القراءة التي جعلتني أطرح علامات استفهام حول السياق والغايات. يقتبس التقرير قولة نسبها للسيد عمر الراضي، وهي "فيك فيك"، وجعلها من صاغ التقرير عنوانا له، والتي تعني أنك مهما أظهرت حسن نيتك، فإن الإدانة مصيرك، وفي الحقيقة فإن هذه القولة تصدق على حالة المغرب مع بعض المنظمات الدولية، أي أنه مهما قدم المغرب من دلائل على تطور المنظومة الحقوقية من حيث الواقع ومن حيث التشريعات، ومهما برهن على زيف الاتهامات الموجهة إليه، ومهما تعاون مع الآليات الأممية بمن فيها المقررين الخاصين وفرق العمل بما كان دوما موضع إشادة من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بجنيف، فإن الاتهامات والكليشيهات ستظل هي عمود تقارير بعض المنظمات الدولية، ومنها "هيومن رايتس ووتش"، ولذلك عنوت مقالي ب: "فيك فيك يا بلادي". وتتبين بعض من أهداف هذا التقرير في التوصيات التي رفعها، وبالمناسبة فلا اعتراض لنا على التوصيات المرفوعة للحكومة المغربية والبرلمان، بغض النظر عن اتفاقنا مع بعضها، وتحفظنا على أخرى، لأن مثل تلك التوصيات هي من أدوات عمل المنظمات الحقوقية، ولأن أغلبها مسنود بالمرجعيات الكونية في هذا المجال، ولأن وهذا هو الأهم هي من القضايا التي حولها نقاش داخلي حر ومفتوح، وتثار في توصيات المنظمات الحقوقية الوطنية، وفي توصيات المجلس الوطني لحقوق الإنسان، كما تطرح حتى في البرلمان والنقاش العمومي، وبالتالي لم يكن أحد ينتظر منظمة دولية لكي تطرحها وكأننا قاصرون في التفاعل مع التوصيات ذات المنهل الحقوقي، والتي يتفاعل معها المغرب حين يوائم كل سنة تشريعاته الوطنية مع ما يصادق عليه من اتفاقيات ومواثيق وبروتوكولات إضافية، بما فيها التي تنتمي للأجيال الجديدة لحقوق الإنسان. لكن مربط الفرس في التوصيات المرفوعة للقوى الكبرى، من مثل الولاياتالمتحدة وإنجلترا والاتحاد الأوروبي، والداعية إلى ممارسة ضغوط على المغرب للاستجابة لتلك التوصيات، وهذا الأمر يعني التحول من فاعل حقوقي إلى فاعل سياسي، يتبنى لغة تهديدية في قضايا هي من صميم السيادة الوطنية، أي قضايا التشريع. إنني باعتباري نقابية وحقوقية، ومن المدافعات عن ملاءمة التشريع الوطني مع المواثيق والاتفاقيات الكونية، بل من المدافعات عن سمو المواثيق الكونية لحقوق الإنسان، أعتبر أن التشريع الوطني هو محصلة نقاش وتوافقات وطنية صرفة، وأن التوصيات الحقوقية لا يجب أن تتحول إلى سيف ديموقليس في العلاقات الدولية، وإلا فإننا نحول نبل حقوق الإنسان وشموليتها وكونيتها من غاية علينا السعي لها إلى أداة ابتزاز في إطار العلاقات الدولية، وكل أمة تطور ترسانتها القانونية بحسب سيرورتها التاريخية المشروطة باحترام التوازنات القيمية، وإلا فلماذا لم تلغ الولاياتالمتحدةالأمريكية عقوبة الإعدام؟ ولماذا أسقطت المحكمة الأمريكية العليا مشروع القانون الذي كان يبيح الإيقاف العمدي للحمل/ الإجهاض؟ يكرر التقرير في فقرات كثيرة عبارة "معارضي الملك"، لكي يوحي لقارئه أن الحالات التي اشتغل عليها التقرير هي حالات لمعتقلين أدينوا بسبب معارضتهم للنظام الملكي بالمغرب، والحال أن هؤلاء المعتقلين وعائلاتهم ولجن دعمهم لم يسبق أن أثاروا قضية الموقف من النظام السياسي، فعلى سبيل المثال فإن السيد توفيق بوعشرين المحكوم ب 15 سنة سجنا، طالما اتهمته بعض الأصوات الراديكالية في البلد بالمخزنة، بسبب تأييده لدستور 2011، كما أن السيد سليمان الريسوني سبق أن كتب افتتاحية تمجد شخص الملك في جريدة "أخبار اليوم"، التي كان رئيس تحريرها بعنوان "زيد أ الملك زيد"، أما السيد المعطي منجب فقد كان عضوا في الائتلاف المغربي من أجل ملكية برلمانية، وبالتالي فإن التقرير لا يدافع عن هذه الحالات، بل يأكل الثوم بفمها، وينسب لها ما لم تصرح به يوما، لتخدم غرضها، وهو مهاجمة النظام الملكي وتصويره منتقما من معارضيه. ترسيخا للمرجعية الاستشراقية التي تشتغل بها أغلب المنظمات الدولية، التي تتعامل مع الدول خارج المحور الأوروبي والأمريكي الشمالي، وكأنها دول لم تخرج من المرحلة ما قبل الاستعمارية، حيث لا وجود لمؤسسات وأحزاب ومجتمع مدني فاعل، وتحصرها في ثنائية: الحاكم والمحكومين. وحين لم تجد المنظمة مثالا يثبت دعواها حول محاربة الدولة المغربية لحرية الرأي والتعبير، ولأن المغرب كان ولا يزال معروفا بتعددية منابره الصحفية ذات الخطوط التحريرية المختلفة، فقد اخترع التقرير "زوج ديال فايك" كذبتين كاشفتين للهواية التي سقط فيها معدو التقرير. فأما "الفايك" الأولى: فمتعلقة بإغلاق الجريدة اليومية "أخبار اليوم المغربية" التي أسسها توفيق بوعشرين، ولقد ادعى التقرير أن الإغلاق كان فعلا تعسفيا ارتكبته السلطات المغربية، مع العلم أن إغلاق أي منبر صحافي في المغرب لا يكون إلا بحكم قضائي نهائي، والحال أنه لم يرج أي ملف قضائي بخصوص توقيف "أخبار اليوم"، والأكثر من ذلك أن الجريدة استمرت في الصدور بانتظام بعد اعتقال مديرها العام ومؤسسها، رغم أن وقائع الاعتداءات الجنسية التي أدين بسببها وقعت بمقر الجريدة، وكان للسلطات مبررات كافية لإغلاق الجريدة ومقرها الرئيس لو كانت نيتها خنق الرأي والصحافة المستقلة كما يروج، لكنها تعاملت بحكمة إذ فصلت بين خط الجريدة التحريري وبين تصرفات مديرها العام التي تقع تحت طائلة القانون الجنائي وحتى الإدانة الحقوقية لبشاعة ما قام به من استغلال لعاملات وصحافيات يقعن تحت سلطته. والحال أننا لو ذهبنا إلى محاكم الدارالبيضاء، وإلى مفتشية الشغل بالدارالبيضاء، سنجد نزاعا بين الصحافيين الذين ضحوا من أجل استمرار الجريدة ومالكيها الذين هم عائلة السيد بوعشرين الذين قاموا تلقائيا بإغلاقها متهربين من أداء حقوق مجمل العاملات والعاملين بها وكذا المتعاونين والموردين، ولو كلفت منظمة "هيومن رايتس ووتش" نفسها عناء التواصل مع النقابة الوطنية للصحافة المغربية، لمكنتها من اللقاء بمجمل صحافيي الجريدة، ولاكتشفت حقيقة مالكي الجريدة، وأن لا علاقة للسلطات المغربية بإغلاقها. وأما الفرية الثانية: فهي ادعاء أن المنابر التالية: "لو 360 وبرلمان وشوف تيفي"، هي من أدوات الدولة لمهاجمة المعارضة، بدليل كما تقول المنظمة أن هذه المنابر لا تنتقد المسؤولين. لن ندخل في جدل حرية اختيار الخط التحريري، التي قد تجعل منبرا صحافيا يدافع عن الحكومة مطلقا أو عن مؤسسة من مؤسسات الدولة، فمن المعروف في الأعراف الصحافية القول بأن هذه الجريدة مثلا قريبة من المؤسسة العسكرية كمثل "لاراثون" في إسبانيا، أو مقربة من المخابرات ك "موقع أكسيوس" الأمريكي، أو من الحكومة الاشتراكية ك "إلباييس" الإسبانية، أو من الحكومة حين تكون يمينية ك "إلموندو"، ولم يتحدث أحد يوما عن أن هذا الأمر مما يعيب هذه المنابر المشهود لها بأنها من إحدى أقوى مصادر الخبر على الصعيد الدولي وليس المحلي فقط. لن ندخل في هذا الجدل، وسنختبر دعوى "هيومن رايتس ووتش" بخصوص الحالات الثلاث وكونها تهادن المسؤولين، مع العلم أن تتبعا بسيطا لما تنشر هذه المواقع سيجد أنها انتقدت رؤساء حكومات ومسؤولين ترابيين، وموظفين سامين معينين من طرف الملك، بمن فيهم رئيس الحكومة الحالي. الذي ادعى التقرير أنه استحوذ على الجسم الصحافي كله. ويمكننا الاسترسال أكثر في كشف هفوات التقرير خصوصا لجهة انزياحه في ما يخص الدفاع عن حالات كان فيها نزاع قضائي بخصوص اعتداءات جنسية، ولم تكن فيه الدولة طرفا، إذ النزاع بين مطالبين بالحق المدني ومنهم صحافيات، والنيابة العامة باعتبارها المؤتمنة على الحق العام وهي سلطة مستقلة عن باقي السلط بما فيها وزارة العدل، وبين أشخاص حصل في هذه الحالة أنهم يمتهنون الصحافة، لكن المنظمة عوض أن تنتصر للتوجه الحقوقي الذي يقول بالانحياز لضحايا الاعتداءات الجنسية إلى أن يثبت عدم حصولها، وهو ما لم يقع أثناء المحاكمات التي كانت علنية، فضلت الحديث عن الفبركة دون تقديم أي دليل، لكي تخدم سرديتها التي تهدف إلى إدانة النظام المغربي لأغراض وحده المستقبل سيكشفها. ولكن سنكتفي بالأمثلة التي سقنا والتي هي واضحة في كشف تهافت التقرير، وهو التهافت الذي حين نضيفه لتهافت ادعاءات امتلاك وتوظيف برمجية "بيغاسوس" التي تهرب مطلقوها من التحدي القضائي، نخلص إلى أن هذه التقارير هي آلية من آليات توظيف القوة الناعمة (في حالتنا منظمات غير حكومية دولية وإعلام دولي قريب من الدوائر التي تحركهما)، لابتزاز دول ذات سيادة ومحاولة إضعافها عبر التشكيك في مؤسساتها خصوصا تلك الضامنة للاستقرار: المؤسسة الملكية، السلطة القضائية، المؤسستين العسكرية والأمنية، ولنا في دروس الجوار الإقليمي عبر.