التجريح اللغوي شقيق التجريح السياسي،فهما صنوان لا يفترقان،وإن لم نبالغ في القول فإن التجريح السياسي يتولّدُ عن التجريح اللغوي،فينتجان معا فتنة خطابية تؤسس لطغيان خطابي وآخر سياسي،وقديما أخرج ابن الأثير في "البداية والنهاية" (جزء5ص365) أن نصر بن سيار آخر ولاة الأمويين على خراسان راسل آخر خلفاء بني أمية في الشام مروان بن عبد الملك ليمدّهُ بالعدد والعتاد..بعدما استشعر الخطر الفارسي على يد بني العبّاس ،فكتب في رسالته يحذره من دسائس العجم على الخلافة الأموية قائلا: أرى خلل الرماد وميض نار /// يوشك أن يكون لها ضرامُ فإن النار بالعودين تذكى /// وإنّ الحرب أولها كلامُ
وليس ببعيد عنا أن تكون بداية الحرب هي الكلام،وليس بعيدا ما حدث في الثورة الليبية عندما خرج القذافي بخطابه الشهير،وانهال على الشعب الليبي بالسياط اللغوية،وجرحه في كرامته ومشاعره،وآذنه بالحرب فكان ما كان أن دمّر ليبيا فوق رؤوس شعبها. فماذا قال نصر بن سيار؟ وماذا قال القذافي؟ الأول حذر الأمويين من الحرب القادمة،والثاني أخبر عن الملايين التي ستقطع الصحراء لتفعل بالليبيين الأفاعيل.
وبين هذا الاقتران الخطابي والسياسي هناك عملية جراحية الأصل فيها الطغيان الخطابي،ويكون من أعراضها ابتذال على مستوى لغة الخطاب،وفتنة تعصف بالحق عندما يتعلق الأمر بالخطاب الأخلاقي أو الديني أو السياسي..وبين الفتنة والابتذال تعتمل بنية خطابية وجب التعامل معها بحرص شديد،فالحرب أوّلها كلامُ.
منذ النصف الثاني من شهر أبريل 2013،انفجرَ دُمَّلٌ من العبارات والكلمات التي تنتمي إلى معجم قاع الخابية حيث تترسبُ الكلمات المثقلة بالأدران والأوساخ والجرح والتجريح والسخرية المجانية،وكان أول من فجّر هذا الدّمّل الناشط العلماني أحمد عصيد عندما أصبح معينه اللغوي من قاع الخابية حيث تترسب الأوساخ..فكان ما كان أن تجنّى على نبيّ الله عليه الصلاة والسلام،وتجنّى على تاريخ هذه الأمة،وراح يهرف بما لا يعرف بألفاظ تستمد مشروعيتها من البذاءة والتحريض على ثبات هذه الأمة والمسّ بمقدّساتها..ولأن هذا الناشط العلماني يلجأ إلى الطغيان الخطابي لإثارة الفتنة، فإنه لا محالة أن ينطلي خطابه على من لا دراية لهم بالحق الحقيق،وتاريخ هذه الأمة السحيق.ومن هؤلاء الذين انطلت عليهم خرافاته الكاتب عبد العزيز العبدي الذي انبرى هو الآخر لذّبّ عن ما قاله عصيدنوما يدعوا إليه..وراح يهرف هو الآخر بكلام قائم على الدّسّ والتّدليس تحت مظلة الحق في حرية التعبير..وحتى لا يعترض علينا قائل بأننا نناهض حرية التعبير،نقول: نحن لا نناهض حرية التعبير،ولكن نعترض على من يستغل هذا الحق الإنساني في التدليس والتجني على مقدّسات الأمة ومشاعر الناس،والاستهتار بالحياء العام. ولأن الكلام على الكلام صعبٌ،على حد تعبير أبي حيّان التوحيدي،ذلك:"أن الكلام على الكلام يدور على نفسه و يلتبس بعضه ببعض،ولهذا شقَّ النّحوُ،وما أشبه النّحوَ بالمنطق" الإمتاع والمؤانسة؛ج1ص198.فقد رأينا أن يكون ردنا على مغالطات العبدي كشفا لغويا لأساليب الإعنات والتغليط المبثوثة في مقالاته،وقبل ذلك دعنا نقدّم هذه المراتب لكي نجعل له مرتبة نترك للقارئ الكريم تقليده إياها ف ((الناس في الشريعة على ثلاثة أصناف،صنفٌ ليس هو من أهل التأويل أصلا،وهم الخطابيون الذين هم الجمهور الغالب،ذلك أنه ليس يوجد أحدٌ سليم العقل يعرى من هذا النوع من التصديق،وصنفٌ هو من أهل التأويل الجدلي،وهؤلاء هم الجدليون بالطبع فقط،أو بالطبع والعادة،وصنفٌ هو من أهل التأويل اليقيني وهؤلاء هم البرهانيون بالطبع والصناعة)) فصل المقال لابن رشد،ص:52.والظاهر من خلال كتاباته أنه رجل مؤمن،فهو أحد هذه الأصناف السابقة الذكر،ما لم نر كفرا بواحا يستدعي منا مناظرته بالدليل العقلي قبل الشرعي أو النقلي.والظاهر أيضا أن العبدي كاتب رأي تذروه الرياح يمينا وشمالا لا قرار له.وفيما يلي كشف لمغالطاته تباعا،والله من وراء القصد. أولا : الاحتجاج بالصدر العاري؛ القياس الخطابي التعارض والتّضادُ. نشر موقع "كود " مقالا للكاتب العبدي عبد العزيز بعنوان "فيمن الحياة لا الحيوان..."الخميس 4أبريل2013،عنوان المقال بمثابة الصعقة الكهربائية لمن لا يعرف الخلفية "الأدلوجيّة" لحركة "فيمن" خصوصا أن العنوان مسكوك في قالب لغوي فيه النفي والإثبات ،ويفتح القارئ على قراءات مختلفة مبنية على قياسات فاسدة،وهاك واحدة من تلك : المقدمة الأولى: فيمن الحياة لا الحيوان
المقدمة الثانية: حركة فيمن "النسائية" ليست حيوان،بل هي جزء من فلسفة الحياة. النتيجة : الاحتجاج بالصدر العاري عند حركة فيمن هو فلسفة الحياة،ومردّ هذا إلى ملكية المرأة لجسدها مع حق التصرف فيه. تبعا لهذا القياس نقول من صدّق بالمقدمتين الأولى والثانية مُلزمٌ بتصديق النتيجة نظرا للعلاقة المنطقية القائمة بين عبارتي "فيمن الحياة" و"لا الحيوان" والمتمثلة في "لا النافية للجنس"،فنحويّا الكاتب يثبتُ الحياةَ بمفهومها الفلسفي لحركة "فيمن"،وينفي الحياة المعنوية عن الحيوان،ومنطقيّا "لا المنطقية" فإن الكاتب يوجب الحياة لحركة "فيمن" ويسلبها من الحيوان ،لأن حركة "الاحتجاج بالصدر العاري" فلسفة حسب تصوره ،والحيوان لا يقوم بالفلسفة،أو ليست له فلسفة في الأصل.يظهر هذا بجلاء في قوله :" الاحتجاج بالصدر العاري ليس سلوكا حيوانيا ...بينما هو ينطوي على فلسفة قوامها ملكية المرأة المحتجبة لجسدها..."وعلاقتا النفي والإثبات ،والسلب والإيجاب هنا فاسدة،وكذلك قياسه الجزء على الكلّ.وهاك وجه الفساد ،والردّ عليه: 1 ) فساد القياس والرد عليه،التمويه البلاغي والحصر الدلالي. يقدم الكاتب موقفه من حركة الاحتجاج بالصدر العاري على شكل تمويه بلاغي قائم على التقديم والتأخير في رتبة الكلام،فقدّم "النّفيَ" الموجود في "ليس سلوكا حيوانيا" ليرسّخَ فكرة "حركة فيمن ليس حيوانا،وهذا مقصد تداولي في تقديم النفي،و أخّر الإثبات عبر أداة الحصر "بينما" ليقترن إثبات معنى "فيمن الحياة" بالإطناب الوارد مباشرة بعد الجملة السابقة،وهو قوله:"بما تعنيه الملكية من حق التصرف..."وعادة ما يلتقي الحصر بالإطناب لمزية بلاغية الهدف منها التأثر في المتلقي البسيط.ولست أدري هل الكاتب علم بالأساليب البلاغية التي يكتب بها، أم أنه يقلّد فقط. أما وجه فساد القياس الذي يشمل النفي والإثبات نحويا ومنطقيا ،فيظهر من خلال قياسه الجزءَ "الحيوان" على الكلّ "الحياة" التي يحيى فيها : الإنس والجانُّ والحيوان..وباقي الموجودات المخلوقة، فالحياة هي مسرح العيش الدنيوي،والحيوان من إحدى الموجودات التي تحيى فيها وبلا عقل، فمن أين أتيت بالخرْجٍ المنطقي لهذا التقابل: حياة /حيوان..؟ ! أضف إلى هذا أن إقران فعل "الاحتجاج بالصدر العاري" بفلسفة الحياة ليس من جنس الحياة أصلا،إذ يمكن حسب هذا التصور أن نعتبر العلاقة الجنسية بين الحيوانات على الطرقات احتجاجا هي الأخرى،أو فلسفة بتعبيرك المهجّن. ذلك أن الحيوان لا يأبه للإنسان عندما يمارس الجنس،لأنه لا يعقل قطعا،خاصة أثناء تلبية غرائزه على مرأى من الناس أو غير ذلك..بينما الإنسان الذي يملك خاصية "التّعقّل في كينونته" لا يلبي غرائزه على الطرقات،لأنه يرى _أول ما يرى_ سلوك الحيوان وهو أسير غرائزه الشبقية على الطرقات..فكلاهما يشتركان في "الغرائز الشبقية" إلا أن الإنسان يتدبّر غرائزه مراعاة لشعور الآخرين..والحيوان لا يتدبّر غرائزه في علاقاته مع باقي الكائنات.هذا فضلا عن الخلط الفكري الموجود في "اعتبارك الصدر العاري احتجاجا ينطوي على فلسفة"،فلو سلّمنا لك بهذه التسمية 'جوازا'،فإن الاحتجاج لا يكون بالصدر العاري عند الإنسان،ذلك ان الغريزة لا يحتجُّ بها..و إذا بقيت مصرّا على هذا،فعليك أن تتصور أمّة بكاملها تخرج عارية للشوارع احتجاجا على أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية...ولك أن تتصور أيضا ما سيحدث حينها... الأمر الثالث في وجه فساد جعلك "الخروج بالصدر العاري " فلسفة مبنية على أساس ملكية المرأة "لجسدها حسب تعبيرك" والصواب هو "ملكية المرأة لجسمها" وليس جسدها ،وسيأتي بيان ذلك في الحلقة الثانية من هذا المقال نظرا لشاسعة الكلام فيه. إذا كان مفهوم "الزواج المثلي؛من الذكور والإناث" ومفهوم حرية "الجسد" عفوا "مفهوم حق "المرأة في جسمها "...من بين المفاهيم التي تضرب في عمق السُّنَنَ الكونية،إذ أن الزواج المثلي بين كلا الجنسين "الذكر والأنثى" يفسد المقصد الأسمى من وجود الاختلاف الحاصل (فطريا) ألا وهو التناسل البشري الذي تقوم عليه عمارة الأرض..ومفهوم "ملكية المرأة لجسمها" يقتضي منحنين هما : الأول أن تستعمل المرأة 'جسدها' في غير ما خُلٍقَ له أصلا،ومن ذلك مثلا زواج المثليات،والمنحى الثاني هو استعمال هذا 'الجسد' في غير ما يرضي "الخالق سبحانه وتعالى" الذي سنّ فطرة "الذكر والأنثى" وألحقها بسنة "الزواج"..ومن دقائق الأمور ان لفظ "الزواج" يعني ضرورة ان يتزاوج جنسان يختلفان من حيث "الخَلْقُ" أي الفطرة. فاستعمال الجسد بحرية خارجة عن هذا الضابط الفطري..يؤدي حتما إلى نتيجتين هما : إما الاستعمال السحاقي أي "السحاقيات" زواج المرأة بمثلها.و إما "فاحشة الزنا" خارج ضابط "الزواج" المحكوم بشرعانية الله تعالى،وفي التنزيل الحكيم يقول الله تعالى: "وليسَ الذّكرُ كالأُنْثى..".مشيرا للفرق الحاصل في خلق الأنثى ،ثم خلق الذّكر..فأين تتجلى هذه الفلسفة يا سيدي العبدي.؟؟بما أني حشرتك أحد الأصناف الثلاثة الأولى،فإني أقول لك إسمع لقول الله تعالى : "" إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيع الْفَاحِشَة فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَاب أَلِيم " الأمر لا يتعلق بتاتا بفلسفة بل بإشاعة الفاحشة بين الناس،وهاك أمر آخر: جاء في الحديث النبوي عنه صلّى الله عليه وسلم: " لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَسَافَدَ النَّاسُ فِي الطُّرُقِ تَسَافُدِ الْحَمِيرِ " فيا أيّها العبدي أين تجد الفرق بين "الاحتجاج بالصدر العاري" أمام الناس أجمعين ،والتسافد في الطرق..؟؟ما رأيك في هذه المقابلة ؟ فالرسول الكريم لا ينطق عن الهوى أن هو إلا وحي يوحى،وإذا ذهب بك قلمك إلى مدى بعيد..هاك هذه الفتوى الاصطلاحية.
2 ) فتوى اصطلاحية. مما لا شكّ فيه أن الأمة المسلمة تتعرض لحرب اصطلاحية لا مثيل لها، أو حرب "الاعتداء المفهومي" بتعبير المفكر طه عبد الرحمن،والغرض منها هو إعادة صياغة عقول المسلمين وأخلاقهم،وبناء منظومة فكرية تتناسب وأهدافهم العولمية المتجردة حتى من الإنسانية بمعناها الشمولي...أو لنقل الأهداف المبنية على الوقاحة الإنكارية المبثوثة في اصطلاحاتهم المهجّنة.
فالحرب إذن،اصطلاحية في مهدها الأول،فمن بين هذه المفاهيم المثقلة بالوقاحة الإنكارية مفهوم "ملكية المرأة لجسدها" ذو الصيغة اللفظية المؤنثة 'المرأة'،وتقابلها صيغة المذكّر "المرءُ"،وهاك بيان الوقاحة فيما يريده أهل الاعتداء المفهومي من مفهوم المرأة. جاء في كشّاف اصطلاحات الفنون والعلوم للبلاغي التهانوي ما نصّه : "المرءُ هو الآدمي الذي يتخلّقُ بمكارم الأخلاق التي جاء بها الدين" فإذا تقرّر هذا في صيغة المذكر "المرء"،وجب استلزاما أن صيغة المؤنث "المرأة" هي "الآدمية التي تتخلّقُ بمكارم الأخلاق التي جاء بها الدين"، إذا ثبت هذا ثبت معه أن مفهوم المرأة بهذا الاصطلاح يجعلها تتقلد المكانة السامية من الأخلاق،ويُلزمنا هذا التقليد السامي الذي يقدمه الإسلام للمرأة،أن نعاملها على أساس هذه المنزلة الأخلاقية السامية.فأين تضع نفسك هل مع المعنى المبتذل الذي يعتد به المعتدون المفهوميون ،والذي لا يجاوزون به رتبة أنثى الإنسان ؟ ! أم تضع نفسك مع الجواب الإسلامي الذي يرفع كرامة المرأة إلى المرتبة العليا؟؟وهذا اصطلاحا فقط،ولك في الذكر الحكيم آيات بينات. ينضاف إلى هذا التقابل ،هذا السؤال :أيُّ الأمتين أحرص على كرامة المرأة وحقوقها؟هل الأمة التي ترى فيها ابتداءً أنها أنثى،على غرار ما للحيوان من الإناث ؟هذه الإشارة الحيوانية الصرفة وهذا هو معنى "ملكية المرأة "لجسدها"..أم الأمة التي ترى فيها ابتداءً أنها مخلوق أخلاقي أسمى لا يزدوج به إلا مخلوق أخلاقي مثله؟؟ ! وهذا هو تمام الدلالة بين "المرأة" و "المرء". وخذْ عنّي هذه الفتوى الاصطلاحية ،في انتظار الجزء الثاني من هذا الردّ.والذي سيكون حول استهجان المعاني وخلط الغثّ بالسمين.