في ليلة باردة من ليالي شهر ديسمبر 1926 خرجت أجاثا كريستي في نزهة بسيارتها المكشوفة والمُحببة إلى قلبها من العلامة التجارية « موريس كاولي »، ولم تعد إلى المنزل لمدة 11 يومًا. وإليكم تفاصيل اختفائها. من منا لم يقرأ روايات أجاثا كريستي في فترة مُراهقته، من منا لم يقض أيامًا في حالة من الرعب والإثارة لاكتشاف مُرتكبي الجرائم التي وردت في رواياتها. كثيرٍ منا يدين بالفضل إلى الكاتبة بلحظات صافية من الدهشة والمُتعة، وبحب القراءة، لكن إلى أي مدى تماثلت نهاية حياة كاتبة الروايات البوليسية الإنجليزية الأشهر مع شخوص حكاياتها؟ تُجيبنا عن هذا التساؤل الكاتبة تينا جوردان في مقالٍ بصحيفة « نيويورك تايمز« ، تستعرض فيه أكثر حكايات أجاثا كريستي غموضًا، حكاية لم تتكشف مُلابساتها إلى الآن؛ لأن أجاثا نفسها لم تكتب عنها، بل كانت بطلتها. تستهل تينا مقالها بالحديث عما بدت عليه الواقعة في ذلك الوقت، فقد كان الأمر، حسبما أوضحت، أشبه بحبكة درامية كتلك التي وردت في روايات أجاثا الخاصة؛ ففي مساء يوم 4 ديسمبر قبلت أجاثا – التي لم تكن تحمل سوى حقيبة عمل – بناتها قُبيل خلودهم إلى النوم، وهرعت مُغادرة منزلها في إنجلترا، الذي تشاركته مع زوجها العقيد أرشيبالد كريستي، الذي كان على علاقة غرامية مع امرأة أصغر سنًا، علاقة لم يعرف عنها العامة، ولكن زوجته قطعًا كانت على علم بها. ولما يقرب من أسبوعين، لم يعرف أحد أين كانت أجاثا. 6 ديسمبر عام 1926 كانت أجاثا في السادسة والثلاثين من عمرها في ذلك الوقت، حسبما ورد في المقال، وكانت قد نشرت بالفعل العديد من الروايات البوليسية، من ضمنها رواية « العميل السري/The Secret Adversary » ورواية « جريمة في ملعب الغولف/Murder on The Links ». وكان خبر اختفائها جديرًا بأن يتصدر العناوين الرئيسة للصحف المهمة في جميع أنحاء العالم، فقد تصدر الصفحة الأولى لجريدة «التايمز ». وأفادت الصحيفة أنه « قد عُثِر على سيارة الروائية مهجورة على حافة حفرة من الحجر الكلسي الطباشيري بالقرب من مدينة غيلدفورد، وكانت العجلات الأمامية للسيارة في واقع الأمر تتدلى من الحافة ». وأضافت الصحيفة، حسبما ذكرت تينا، أنه « من الواضح أن السيارة كانت قد انزلقت، ولم يمنعها من السقوط في الحفرة سوى سياج مُرتفع وسميك من الشُجيرات ». 8 ديسمبر عام 1926 وبعد ثلاثة أيام من البحث عن الروائية، ألغت الشرطة مهمة البحث عنها، قائلين، وفقًا لتينا: إن صهرها قد استلم خطابًا منها تقول فيه: إنها ذاهبة إلى مُنتجع يوركشاير طلبًا « للراحة والعلاج »، لكن المقال يشير إلى أن تلك لم تكن نهاية القضية. وتنقل تينا عن راديكا جونز رئيسة تحرير مجلة « فانيتي » قولها عن أجاثا، في مقال سابق: إنها « رصدت في كُتبها شيئًا أساسيًا عن الألغاز: أن الدافع والفرصة قد يكونا كافيين لارتكاب جريمة، لكن الجزء المُرضي يتعلق بكشف المُحقق هوية الجاني، وكيفية وسبب ارتكابه للجريمة ». 10 ديسمبر عام 1926 وسَّعت الشرطة، التي كان من الواضح أنها لم تجد الخطاب مُقنعًا، من نطاق بحثها، لدرجة أنها أحضرت أحد حيوانات أجاثا الأليفة لمعرفة ما إن كان سيتمكن من تتبع رائحة صاحبته. أما الكلب، حسبما ورد في المقال، فكان ما فعله هو أن « انتحب بشكل يدعو إلى الرثاء ». أما المحققون « فقيل إن القضية في نظرهم في الوقت الحالي قضية انتحار »، حسبما أوردت صحيفة « التايمز » آنذاك. وبدا أن عملية البحث تتمحور حول بُحيرة سُميت « البُحيرة الصامتة »، التي وفقًا للأسطورة المحلية، كانت بلا قاع. وأوضحت تينا أن هناك على وجه الخصوص تفصيلة مُحيرة قرب نهاية القصة؛ فأجاثا، وفقًا لما زعمته الصحيفة، قد شعرت بالفزع من منزلها الخاص. فهو وفقًا لوصف الصحيفة « يقع في طريق مُنعزل، غير مُضاء ليلًا، وقد نال سُمعة أنه مسكونًا بالأشباح. وكان هذا الطريق مسرحًا لجريمة قتل لامرأة، وحادثة انتحار لرجل ». وذكرت الصحيفة أن أجاثا كريستي صرحت لصديقة لها في إحدى المرات قائلة: « إن لم أُغادر سونينغدل قريبًا، فسوف تقضي سونينغدل عليّ ». 11 ديسمبر عام 1926 بعد مضي أسبوع على اختفاء أجاثا، كانت الشرطة في حيرة من أمر هذه الحادثة، حسبما ورد في مقال تينا. إذ ذكرت صحيفة « التايمز » آنذاك أن الكاتبة « لم يرها شاهد موثوقٍ به منذ أن غادرت منزلها في سونينغدل منذ أسبوع ». بيد أنه كان هناك تطور مهم. فقد خلفت أجاثا وراءها ثلاثة خطابات، أحدها موجه إلى سكرتيرتها، وآخر إلى صهرها، والثالث إلى زوجها، الذي رفض الإفصاح عما كتبته. 12 ديسمبر عام 1926 تستعرض الكاتبة الجهود التي بذلها محققو الشرطة بغية العثور على أجاثا، إذ طلبوا المساعدة من السائقين والمخبرين الهواة على حدٍ سواء قائلين في مقال إنه « بدون إبداء أسباب، لا تزال الشرطة تعتقد أنها في مكانٍ ما أسفل التلال على مقربة من المكان الذي عُثِر فيه على سيارتها المفقودة ». وفي المقال نفسه، بحسب تينا، نفت سكرتيرتها الشخصية بغضب أن يكون الأمر بأكمله بمثابة حيلة دعائية قائلة: « يا للسخافة، ما كانت أجاثا كريستي لتفعل ذلك، فهي على درجة عالية من الرُقيّ ». وسلََّمت السكرتيرة أيضًا المُذكرة التي تركتها أجاثا من أجلها، التي لم تحتو، كما أفادت، إلا على تفاصيل مُتعلقة بالمواعيد. أما الشرطة التي كانت تسعى جاهدة للحصول على أدلة، فقد لجأت إلى مخطوطات أجاثا التي كتبتها بنفسها، للتدقيق في ما ظنوا أنه عملها غير المُنجز « القطار الأزرق ». 13 ديسمبر عام 1926 شارك، وفقًا لمقال تينا، ما يتراوح بين 10 آلاف إلى 15 ألف شخص في عملية البحث عن أجاثا، بمساعدة « ستة كلاب بوليسية مُدربة وصناديق مُحملة بكلاب تنتمي إلى فصيلة إيرديل، إلى جانب عدد من كلاب الصيد والكلاب الألزاسية، حتى أنهم استعانوا بخدمات الكلاب المُهجنة العادية ». وفي اليوم نفسه، خمنت الشرطة أن أجاثا كريستي قد تكون في لندن، « مُتنكرة على الأرجح في زيٍ رجالي ». سرعان ما بدأت الشائعات تنتشر عن أنها خلفت وراءها مظروفًا مُغلقًا ما كان ليُفتح إلا في حالة اكتشاف جثتها. وتوضح تينا إلى أي مدى تغلب اليأس على الجميع في التحقيقات بالإشارة إلى أن الأمر وصل إلى درجة إجراء مُحضري الأرواح لجلسات تحضير أرواح عند الحفرة التي كانت عندها سيارة أجاثا. 14 ديسمبر عام 1926 بعد مضي ثمانية أيام على اختفاء الكاتبة، ذكرت الصحيفة أن الشرطة عثرت على بعض الأدلة المهمة بالقرب من مكان الحادث، من ضمنها « قارورة كُتب عليها سُم الرصاص والأفيون، وشظايا من بطاقة بريدية ممزقة، ومعطف نسائي مُبطن بالفرو، وعلبة من مسحوق الوجه، وأطراف رغيف من الخبز، وصندوق من الورق المُقوى، واثنان من كتب الأطفال »، وفقًا لتينا. وربما كان أكثر ما يُنذر بالشؤم، في رأي تينا، هو النظرية الجديدة التي تبناها المحققون، والتي مفادها أن « الشرطة تمتلك معلومات ترفض الإفصاح عنها، ما قادهم إلى الرأي الذي مفاده أن أجاثا لم تكن لديها أي نية للعودة عندما غادرت منزلها ». 15 ديسمبر عام 1926 عُثِر على الروائية في مُنتجع «يوركشاير» بعد تسعة أيام من اختفائها. وأبلغ زوجها الصحافيين بأنها « لا تعرف من تكون… فقد عانت أشد حالات فقدان الذاكرة التام »، بحسب ما جاء في مقال تينا. 16 ديسمبر عام 1926 بعد العثور على الكاتبة، تقول تينا: إن مُلابسات الحادث بدأت في التكشف، فقد ذكرت صحيفة « التايمز » يوم 16 ديسمبر أن أجاثا كريستي سجلت دخول في مُنتجع هاروغيت باسم « السيدة تريسا نيل »، وبسؤال زوجها العقيد كريستي عن ذلك، أصر على أنه لم تكن لديه أدنى فكرة عن دلالة هذا الاسم على وجه الخصوص، مضيفًا أنه ليس لدى زوجته أي علم به أيضًا. وبعد ذلك بأعوام، تبين أن أجاثا كانت في واقع الأمر قد استخدمت اسم عشيقة زوجها، حسبما أوضح المقال. ويصف المقال لحظة تلاقي الزوجين لأول مرة بعد الواقعة، ويوضح أنه عندما ظهر العقيد كريستي في هاروغيت لاستلام زوجته، « رحبت به بنظرة مُتفرسة وخالية من التعبير ». ولاحقًا ذهب آلاف الناس إلى إحدى محطات القطار في لندن، بينما شق الزوجان طريقهما إلى المنزل، آملين في إلقاء نظرة عليهما. وفي المقال ذاته، ذكرت الصحيفة أن « آلاف المُحققين الهواة يضعون جانبًا اليوم أنظارهم الثاقبة وأحذيتهم المطاطية ومعاطفهم البحرية القصيرة المماثلة في شكلها لمعطف شيرلوك هولمز، ويرتاحون من طوافهم المُرهق عبر تلال مقاطعة سري ». 17 مارس عام 1928 استغرق الفصل التالي من هذه الملحمة ما يُقارب من 15 شهرًا بعد الحادثة، حسبما أوضحت الكاتبة، عندما رفعت أجاثا كريستي على زوجها دعوى طلاق. 16 سبتمبر عام 1930 تزوجت أجاثا مُجددًا، بعد مُضي عامين على طلاقها. وكذلك فعل أرشيبالد كريستي، ولم تكن زوجته الجديدة سوى الآنسة تريسا نيل. وتؤكد تينا في مقالها أنه بعد مرور ما يزيد عن 90 سنة على الحادث، لا يزال المؤرخون وكُتاب السيرة الذاتية يتناقشون فيما حدث في تلك الأيام في عام 1926، وتتساءل هي هل كان الأمر انتقامًا أم اكتئابًا أم فقدانًا للذاكرة؟ وفي هذا الصدد سلطت السير الذاتية الحديثة، كتلك التي كتبتها لورا طومسون، قليلًا من الضوء على الواقعة، بحسب تينا. فلقد أخبرت إحدى صديقات أجاثا، الكاتبة لورا طومسون، أنه « حُرم علينا الحديث عن تلك الواقعة، فقد رفضت أجاثا الحديث عنها لأي أحد. لقد كان الحديث عنها محظورًا بحق ». وتقول تينا: إن أجاثا نفسها لم تُناقش الواقعة على الملأ سوى مرةٍ واحدة، في مقابلة أجرتها مع صحيفة « الدايلي ميل » البريطانية عام 1928. فقد روت أجاثا كريستي للصحيفة أنها في الثالث من ديسمبر كانت تقود سيارتها بالقرب من محجرة عندما « خطرت ببالي فكرة أن أقود باتجاهها. ولكن لأن ابنتي كانت ترافقني في السيارة، صرفت نظري عن الفكرة في الحال. وفي تلك الليلة شعرت بتعاسة شديدة، شعُرت أنني لم يعد بإمكاني الاستمرار. لذا غادرت المنزل في تلك الليلة وأنا في حالة شديدة من الارتباك والتوتر، عاقدة العزم على أن أفعل شيئًا يائسًا… وعندما وصلت إلى نقطة على الطريق ظننت أنها قريبة من المحجر، انعطفت بسيارتي عن الطريق مُتجهة إلى أسفل التل نحو المحجر. وتركت عجلة القيادة وتركت السيارة تعدو. اصطدمت السيارة بشيٍ ما مُحدثة هزة عنيفة وتوقفت فجأة. اندفعت تجاه عجلة القيادة واصطدمت رأسي بشيٍ ما. وكنت حتى هذه اللحظة ما أزال السيدة كريستي ». وفي كتاب «Agatha Christie: An Autobiography» أي « أجاثا كريستي: سيرة ذاتية »، لم تتحدث الكاتبة عما حدث أيضًا، واضعة حدًا للحديث عن نهاية زواجها في كلمات قليلة ومُقتضبة كانت كالآتي: « ليست هناك حاجة إلى التطرق إليها ». ما زالت هذه الواقعة تستمر في الإذهال، حسبما ذكرت تينا؛ ففي عام 1977 كتبت كاثلين تاينن رواية عن تلك الواقعة تحمل اسم عنوان «أجاثا»، وحُوِلت إلى فيلم بطولة فانيسا ريدجريف. وفي عام 2008 تأملت إحدى حلقات مسلسل «Dr. Who» واقعة اختفاء الروائية. ومؤخرًا، عرض أحد المُسلسلات البريطانية التلفزيونية نظرية جديدة مفادها أن أجاثا اختفت بغية المُشاركة في تحقيق جنائي.