هذه هي الكلمة التي القاها الأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة إلياس العماري، يومه السبت ببكين في مؤتمر الحوار الأول للحزب الشيوعي الصيني مع الأحزاب العالمية. في البداية أود أن أتوجه بالشكر لفخامة الرئيس السيد الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني شي جي بين ومن خلاله لقيادة وقواعد الحزب على دعوته لحضور أشغال هذا الملتقى الهام، وأن أعبر عن تقديري وإعجابي بالنموذج الصيني الذي يجسد نجاح أمة عريقة استطاعت أن تستثمر مقوماتها الحضارية والروحية في بناء دولة قوية ما فتئت تشد إليها أنظار الشعوب عبر العالم. العماري يحاضر في الصين إن الانجازات الإقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية والثقافية التي تتحقق اليوم في دولة الصين الشعبية لم تأت من فراغ. فقوة هذه الدولة هي نتاج طبيعي لقوة الحزب الشيوعي الصيني الذي ساهَمَتْ في بنائه زعامات فكرية وسياسية ستبقى أسماؤُها راسخة، ليس في تاريخ الصين وحده، وإنما في سجل البشرية جمعاء. مما لاشك فيه أنه ليس هناك مفهوم واحد ووحيد للدولة، كما أنه ليس هناك نموذج موحد يمكن فرضه على الشعوب، بل هناك تجارب مختلفة للدول. وفي اعتقادي، إن النظرة الاستشرافية الثاقبة لكارل ماركس هي التي أوحت له بالكلام عن نمط الإنتاج الآسيوي، المختلف عن أنماط الإنتاج الأخرى. وبالتالي فقد قام بالتأسيس لعصور بشرية جديدة تستطيع استثمار خصوصياتها الهوياتية التقليدانية لبناء تجارب ناجحة ومتفردة. واسمحوا لي أن أَسُوقَ مثالا ملموسا لتجربة سياسية في بلادي المغرب، يمكن اعتبارها تجربة في التحرر من النموذج النمطي المغلق الذي يمكن حشره في هذه الزاوية أو تلك. فحزب الأصالة والمعاصرة الذي أتشرف بتحمل مسؤولية أمانته العامة، يقوم في مرجعيته الفكرية على الزواج الوثيق بين المرجعية الحداثية التي تمثل نتاج التراكمات المعاصرة التي حققتها البشرية في مختلف المجالات، وبين المرجعية المحلية المتجذرة في تربة المجتمع المغربي والتي تتكون من الموروث الروحي والشعبي والحضاري المحلي الذي يعود إلى عدة قرون. وكما نجح الحزب الشيوعي الصيني على صيننة الفكر الكاركسي، يعمل حزبنا على الاجتهاد في مَغْرَبَة المرجعيات الفكرية الكونية مستفيدا من تراكمات وانجازات باقي الأحزاب الوطنية المغربية. إن تأصيل التجارب البشرية الناجحة في العمل السياسي داخل التربة المحلية التي تزخر بالتنوع الهوياتي والثقافي واللغوي، من خلال المحافظة على الأنماط الاقتصادية والروابط الاجتماعية والأعراف التنظيمية العريقة، يزيد من قوة الشعوب ويعزز وحدة الدول وتطورها. ولهذا، نجد أن بعض القوى الدولية ذات النزوعات الامبريالية تعمل كل ما بوسعها لاختراق هذه التجارب من خلال التشجيع على تفكيك بنياتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. ويتأكد كل هذا مع ماتعرفه منطقتنا (شمال افريقيا ) من فوضى عارمة قوضت أسس الدولة التي ضحت شعوب بأكملها من أجل وجودها وتقدمها. إن حرص الأحزاب على تأصيل التجارب السياسية المعاصرة وملاءمتها للخصوصيات المحلية، هو من باب الحرص على المحافظة على عناصر القوة التي وحدت المجتمعات لقرون. وكما هو معلوم اليوم، فإن وحدة المجتمع وانسجام مكوناته الهوياتية المختلفة والمتنوعة، هو صمام الأمان للاستقرار. والاستقرار هو دعامة أساسية لقوة الدولة، وشرط ضروري لتحقيق التنمية الإقتصادية وتطور المجتمع. صحيح أن الوصول إلى بناء دولة قوية يحتاج إلى سلوك طريق طويلة ومليئة بالأشواك. وصحيح أيضا أن بناء حزب سياسي يساهم في بناء دولة قوية يحتاج إلى التقيد ببعض المبادئ الكونية التي لا محيد عنها، رغم الصعوبات والثغرات وأحيانا التناقضات التي تكتنفها، حتى في البلدان التي عرفت ميلاد هذه المبادئ. وأقصد بالخصوص مبدأ الديموقراطية والمساواة. إن الظرفيات الاقتصادية المتقلبة و تأخر تحقيق التنمية المنشودة، وما خلفته من استمرار ظاهرة الفقر والهشاشة والبطالة والأمية والارهاب وإنعدام الأمن… تضع أحيانا بعض العوائق في طريق الديموقراطية سواء داخل الأحزاب أو داخل الدولة. كما أن نفس الاعتبارات قد تقف في وجه بلوغ مبدأ المساواة سواء بين الجنسين أو بين الأجيال وبين المجالات الترابية. والأحزاب القوية هي تلك التي تنجح في التخفيف من وطأة هذه العقبات، من خلال إخضاع البنيات التنظيمية والعمليات المرتبطة بالاستحقاقات الانتخابية للديموقراطية التمثيلية والتشاركية، مع العمل الحثيث على تثبيت مكانة المرأة والشباب في جميع بنيات الحزب، والحرص الشديد على إرساء برامج تراعي العدالة المجالية والترابية داخل نفس الدولة. إن الدولة كما يرى المفكر المغربي عبد الله العروي، ليست شيئا مجردا، بل هي كيان مُجَسد مُحايِث للفرد والمجتمع. وإن الأحزاب السياسية هي الإطار الملموس الذي يؤطر الأفراد والمجتمع، وهي التي تنتج النخب المؤهلة سياسيا وأخلاقيا لتسيير الشأن العام بطريقة أفضل، ومن ثمة المساهمة في بناء الدولة القوية، الدولة التي تقوم بالأدوار المنوطة بها مع شعبها، ومع شعوب العالم. وأخيرا أعتبر دعوة الرئيس شي جي بين بمأسسة هذا الحوار خير وسيلة لبلورة المصير المشترك للبشرية.