أول ما جاءت الزرافة روكا إلى حديقة الحيوان بالجيزة قابلت كبرى الزرافات سناً التى بدت منهكة وقالت لها: - أهلا وسهلا بك يا روكا. كم أحب أن أتطلع إليك. كنت جميلة ورشيقة مثلك منذ سنوات طويلة. أنا الآن كما ترين عجوز أنتظر الموت فى أى لحظة.
حكّت روكا رقبتها الطويلة فى جسد الزرافة الأم وكأنها تشكرها، فاستطردت الزرافة الأم بصوت ضعيف:
- بقدر ما يسعدنى وجودك معنا يا روكا إلا أننى سأحدثك بصراحة. حديقة الحيوان هنا تعانى من مشكلات كثيرة.. هناك زوار للحديقة طيبون ومهذبون ولكن هناك أيضا زوار وقحون ومؤذون يستمتعون بقذفنا بالحجارة والزلط. مدير الحديقة ومساعدوه فاشلون وكسالى، نحن نعانى هنا من الإهمال والقذارة.. المسؤولون عن طعامنا يسرقون ثمنه، وبالتالى لن تجدين الطعام كافياً أبداً. لولا أننا اكتشفنا بعض الأشجار التى نأكل من أوراقها لكنا متنا جميعاً من الجوع.
تطلعت إليها روكا بانزعاج، لكن الزرافة الأم هزت رأسها وأخرجت لسانها الطويل ومسحت به وجهها ثم قالت:
- الغريب أنه رغم معاناتنا الشديدة إلا أننا نحن الزرافات نفضل هذه الحديقة على أى مكان آخر. أظن أن هناك شيئا ما فى مصر يدفعنا للتعلق بها.
اصطحبت الزرافة الأم روكا وعرفتها إلى بقية الزرافات. كنا نحو عشر إناث ومثلهن من الذكور. تبادلت روكا معهم كلمات لطيفة بلغة الزرافات التى لا يستطيع الإنسان أن يسمعها. يوماً بعد يوم ألفت روكا حياتها فى الحديقة. كانت تقضى يومها فى اللعب حتى يأخذها الحارس لتستعرض نفسها أمام الزوار. بالخبرة أصبحت روكا تميز الزوار الطيبين الذين يأتون لإطعامها وأخذ الصور التذكارية معها من الزوار الأشقياء الذين يقذفونها بالطوب ثم يركضون بعيداً وهم فى قمة السعادة. كانت روكا تأخذ قسطاً كافياً من النوم. تنام ثلاث مرات متقطعة أثناء الليل تستغرق كل مرة حوالى ساعة ثم تستيقظ فى قمة النشاط والمرح. كانت روكا بالغة الجمال. جسدها الرشيق مرقط ببقع لونها برتقالى وبنى داكن. عيناها عسليتان واسعتان رائعتان على جانبى رأسها الصغير الفاتن. مثل كل الإناث كان مصيرها أن تتزوج من أحد الذكور وتنجب وترعى أولادها. على أن روكا انشغلت بأمر آخر فتغير مصيرها. حدث ذلك عندما قامت الثورة ورأت روكا من خلف أسوار الحديقة المواجهات العنيفة بين المتظاهرين ورجال الشرطة، عندئذ فتحت روكا منخاريها واتسعت عيناها وتتابعت أنفاسها وتعاطفت مع المتظاهرين الذين كانوا يسقطون فتتلطخ الأرض بدمائهم. ألصقت أنفها بالسور وكأنها تريد أن تجتازه لكى تدافع عن هؤلاء الشباب ضد اعتداءات الشرطة. اندمجت روكا لدرجة أنها لم تعد تخاف من الغاز والرصاص والخرطوش المتطايرة حولها. انشغلت روكا بالثورة وصارت تسترق النظر إلى التليفزيون الصغير الأبيض والأسود الذى يضعه الحارس أمامه حتى يتسلى عندما لا يكون هناك زوار. يوما بعد يوم أدركت روكا بذكائها ما يحدث. عرفت أن رئيساً ظالماً فاسداً حكم مصر سنوات طويلة وأراد أن يورث الحكم لابنه فثار ضده المصريون وخلعوه، وعرفت أن مجموعة من الضباط تولوا الحكم بعد مبارك ثم جاء بعدهم رئيس ينتمى إلى جماعة اسمها الإخوان. الذى أدهش روكا أن الاعتداءات على المتظاهرين استمرت طيلة كل هذه العهود، وكأن كل من وصلوا إلى السلطة على اختلافهم قد اجتمعوا على كراهية شبان الثورة واستمروا فى قتلهم. أخيرا شهدت روكا مظاهرات 30 يونيو الحاشدة التى لم تر مثلها قط وعرفت من التليفزيون أن الشعب قد أطاح بالإخوان فأحست بسعادة بالغة.
كان تعاطف روكا مع الثورة مثار تندر الزرافات جميعا. ما إن تنشب المظاهرات حتى يهرع الحارس ليدفع الزرافات بعيدا إلى الناحية الأخرى من الحديقة خوفاً عليهن من الرصاص والخرطوش والغاز، لكن روكا كانت الزرافة الوحيدة التى تعاند الحارس وتتشبث بموقعها بجوار السور لتراقب ما يحدث دون أن تخاف. كان سلوك روكا ربما يزيد من فتنتها فى نظر الذكور والمؤكد أنه زاد من حسد الإناث لها، ثم حدثت واقعة ظلت حديث الزرافات جميعاً زمناً، فقد نشبت المظاهرات ذات يوم وظلت روكا تتفرج عليها حتى دفعها الحارس مع الزرافات إلى الناحية الأخرى من الحديقة، هناك فى ذلك المكان الآمن بدأ الذكور يتدافعون ويحكون رقابهم بعضها ببعض تنافسا على الإناث. تنافس ثلاثة ذكور على روكا وراحوا يتدافعون بعنف حتى انتصر أحدهم. كان ذكراً رشيقاً وقوياً واقترب بزهو المنتصر من روكا التى تصادف فى تلك اللحظة أنها أحست برغبة فى التبول فنزل منها السائل الساخن على الأرض، عندئذ اندفع الذكر يشم بولها وفاحت منه رائحة ذكورية مثيرة ثم تقدم ليضاجعها لكن روكا لم تستجب بل قفزت مبتعدة وعندما حاول الذكر أن يقفز عليها رفسته روكا رفسة تحذيرية أحس بجديتها فابتعد وهو ينفخ الهواء غاضبا من منخاريه. هذه الواقعة تحدثت عنها الزرافات طويلا. قالت إحداهن:
- هل رأيتن يا زرافات؟!.. الذكر يقاتل من أجل روكا وعندما يأخذها تمتنع عنه.
قفزت زرافة أخرى وقالت بانفعال:
- يا بختها. كم كان ذكراً قوياً وجميلًا. لو كنت فى مكانها لما ضيعت الفرصة أبدا.
قالت زرافة ثالثة بحسرة:
- أنا لا أكاد أصدق. ذكر رائع يقاتل من أجلى ثم يشم بولى ويتذوقه. ماذا أريد أكثر من ذلك؟
بدت روكا للإناث زرافة غريبة الأطوار أما الذكور فكانوا يقولون:
- روكا أنثى رائعة لكن دماغها للأسف ممتلئة بأفكار غريبة ستفسد حياتها. الزرافة الأم بدا عليها الانزعاج وهى تراقب حماس روكا للمظاهرات حتى إنها قالت لها مرة:
- يا روكا بصراحة أنا لا أفهمك. إن كل ما يشغلك الآن أحداث الشوارع. مالك أنت وكل ذلك؟!.. زرافة جميلة فى مثل سنك لابد أن تنظر إلى مستقبلها. فكرى فى الزواج. ألا تلاحظين أن الذكور يتابعونك أينما ذهبت. لو كنت مكانك لاخترت ذكراً أستمتع به وأنجب منه.. هذا ما يجب أن يشغل أى زرافة فى مثل سنك إذا كانت عاقلة.
كانت هذه النصائح بلا طائل فقد اندمجت روكا فى الأحداث وراحت تتابع التطورات أولاً بأول من خلال تليفزيون الحارس. كانت روكا تحس بالغربة فهى من ناحية لا تؤثر فيها رائحة الذكور ولا تثير شهوتها مثل بقية الزرافات، ومن ناحية أخرى فقد ظلت معظم الوقت تفكر فى عشرات المتظاهرين الذين رأتهم يسقطون قتلى فى الشارع.. فى الأسبوع الماضى بدت روكا حزينة وصامتة فسألتها الزرافة الأم:
- روكا حبيبتى.. مالك؟!
خبطت روكا الأرض بقدميها وأخفضت رأسها ثم قالت بصوت خافت:
- أنا حزينة يا أمنا. الشبان الذين صنعوا الثورة وضحوا بكل شىء من أجل بلادهم، هؤلاء الشجعان تضطهدهم السلطة الحالية فتضربهم وتسحلهم وتلقى بهم فى السجون . سألتها الزرافة الأم: هل هؤلاء الشبان من جماعة الإخوان؟!.. ردت روكا قائلة:
- لو كانوا من الإخوان لما تعاطفت معهم. هل نسيت؟!.. ألم نشاهد الإخوان وهم يعذبون الناس بجوار الحديقة.. هؤلاء الشبان ليسوا من الإخوان، بل هم الأكثر إخلاصاً لبلادهم لأنهم لا يريدون شيئاً لأنفسهم. إنهم يموتون وتفقأ عيونهم ويتعرضون للمطاردة والحبس بلا مقابل. لقد حبستهم السلطة لمجرد أنهم تظاهروا تعبيراً عن آرائهم.
- أنا لا أفهم لماذا تحبس السلطة الجديدة شبان الثورة بينما معركتها الأساسية ضد الإخوان.
هكذا قالت الزرافة الأم وهى تحك رقبتها فى جسد روكا لتبعث إليها بحنانها لكن روكا ابتعدت عنها وقالت:
-أنا الآن قلقة على ما يحدث. أشعر بأن العصابة التى حكمت مصر قبل الإخوان قد عادت للحكم. هل قدر للمصريين أن يعيشوا إلى الأبد بين عصابة مبارك وعصابة الإخوان؟. هل قدر لهم أن يختاروا دائماً بين نوعين من الأوغاد؟!
ضيقت الزرافة الأم عينيها لتتقى تأثير الشمس وقالت:
- كلامك صحيح لكن لا تنسى أن أفراد الشعب وليس رجال مبارك هم من أطاحوا بالإخوان. كما أن الإخوان يخربون البلد ويقتلون الناس كل يوم والسلطة تقاومهم فلا يجب لأحد أن يضعفها. كل من يعادى السلطة الآن سوف يقوى من شوكة الإخوان حتى إن لم يقصد.
قالت روكا بحماس:
- يا أمنا. أنا ضد عصابة الإخوان لكنى أيضا ضد العصابة القديمة وضد كل من يضطهد شباب الثورة. كما أن الناس يجب أن يقولوا ما يعتقدونه مهما كانت العواقب.
فجأة حدثت ضجة بجوار الحديقة، قفزت روكا برشاقة واقتربت من سور الحديقة فرأت فى الشارع متظاهرين يضرمون النار فى سيارة شرطة وعندما قفز قائدها منها ضربوه بوحشية وركلوه وسحلوه حتى سال دمه على الأرض. عندما جاءت سيارة إطفاء منعها المتظاهرون من الدخول وراحوا يلوحون بإشارة رابعة.. كانت الزرافة الأم بجوار روكا تشاهد ما يحدث فقالت لها:
- أرأيت ماذا يفعل الإخوان؟. أليس من الواجب تدعيم الحكومة ضد هؤلاء الأشرار؟!
فكرت روكا قليلاً ثم قالت:
- طبعا واجب لكنى فقط لا أفهم لماذا تطارد السلطة شبان الثورة. أليس هؤلاء هم الذين صنعوا التغيير وهم الذين خلعوا الإخوان من الحكم؟
اقتربت منها الزرافة الأم وحكت رقبتها فى جسدها وقالت بحنان:
- اهدئى يا روكا الجميلة. اذهبى الآن وتناولى غداءك وحاولى أن ترفهى عن نفسك.
اتجهت روكا كعادتها إلى الشجرة الكبيرة فى طرف الحديقة، كانت وحدها تماما، مدت رقبتها والتهمت بعض الأوراق وبدأت تمضغها. لم تشعر بطعم الأوراق اللذيذ لأن ذهنها كان مشتتاً ومشاعرها موزعة بين حزنها على شبان الثورة الذين يسجنون بلا ذنب وإحساسها بأن الإخوان يريدون إحراق البلد ومن الواجب التصدى لهم. هذا القلق الذى سيطر على الزرافة روكا جعلها لا تنتبه لما تفعله وعندما اقتربت بفمها لتلتقط حزمة أخرى من أوراق الشجرة انحشرت رقبتها بين أسياخ السور. اضطربت روكا وراحت تهز رأسها يميناً ويساراً حتى تخلصه، لكن كل حركة كانت تجرح رقبتها وتجعلها تنحشر أكثر بين الأسياخ حتى اختنقت وماتت.